«نـُدُل المقاهـي».. يوميـات مـعـانـاة ماديـة ومعنـويـة متعـددة الأوجـه

أوضاع العاملين منهم في «الصنف الشعبي» أكثر قتامة :

تحتضن جهة الدار البيضاء – سطات ما يفوق 02 ألف نادل ونادلة موزعين على مقاهي ومطاعم وفنادق المدن والأقاليم المتواجدة بهذه الجهة .
في السنوات الأخيرة، لوحظ تزايد أعداد الفتيات اللائي اقتحمن هذا المجال، لأسباب متعددة، أهمها الأوضاع الاجتماعية الصعبة و فشل بعض حالات الزواج، وانتشار ظاهرة “الأمهات العازبات” بفعل تعرض بعضهن للاغتصاب …
في المقابل فتحت العديد من مراكز التكوين والمعاهد أبوابها وجعلت هذه المهنة شعبة يستطيع المتخرج والحاصل على شواهد في هذا المجال، من خلالها كسب دخل شريف، دون إغفال الظروف الصعبة المحيطة بها، حيث يشتكي العديد من ممتهنيها من حرمانهم من بعض الحقوق كالتغطية الصحية والضمان الاجتماعي والتكفل العائلي، زيادة على التحرش الجنسي بالنادلات ومضايقتهن وتعرضهن للتحايل وأشياء أخرى .
من أسباب الانتشار

من المهن التي أصبحت تستقطب شريحة مهمة من الشبان والشابات، مهنة (النادل) ، ومن أسباب هذا الإقبال، الانتشار الواسع للمقاهي والتزايد المستمر لهذا النوع من التجارة والاستثمار، بالاضافة الى المطاعم المتوسطة والصغيرة، او ما يعرف ب”السناك”، وأيضا لأن هذه المهنة، خصوصا في الاحياء الشعبية، لا تعتمد على مستوى دراسي معين، حيث أن فئة كبيرة منهم لا مستوى تعليمي لها أو ذات مستوى ابتدائي، وأغلبهم منحدرون من مدن أخرى .
ونظرا للاحتكاك المباشر مع الزبناء، فإنها مهنة تتطلب إتقان طرق المعاملة مع كل زبون وعدم الدخول في اي جدل مع أي كان ، فالزبون هو العملة الصعبة و هو المورد المالي لهذا المستثمر او ذاك ، ولذلك أصبح شرط التجربة ضروريا لتسليم مفاتيح العمل بالمقهى او المطعم او السناك ، واصبحت المقاهي الكبيرة و المتواجدة في مواقع و مناطق راقية، تؤكد على المستوى الثقافي وعلى التكوين في هذا المجال، والحصول على دبلوم التخصص. وهذا النوع أصبح متواجدا بكثرة بعد دخول العديد من المستثمرين ، خصوصا من مغاربة الخارج، الذين عادوا نهائيا الى ارض الوطن، وفضلوا الاستثمار في هذا المجال، لعدة عوامل، منها أن بعضهم كان يزاول نفس المهنة بالخارج و منهم من استطاع فتح مقهى او مطعم للأكلات المغربية هناك، واراد إعادة التجربة بوطنه، و منهم من استغل محله التجاري المتواجد أسفل عمارته التي شيدها او اشتراها. فأدخلوا عليها تحسينات تخص مجال الديكور والتجهيز. هذه الفئة من المستثمرين تعتمد في الخدمة المقدمة للزبناء وفي المسيرين على أصحاب الخبرة والتجربة، و غير ذلك يعتبرونه من باب المغامرة، لهذا نجد هؤلاء يفكرون في كل شيء ويضعون الحسابات الصغيرة قبل الكبيرة .
وتعتبر العاصمة الاقتصادية قاطرة في هذا الميدان، لتواجد آلاف المقاهي بكل الشوارع والاحياء وحتى الازقة و أمام المؤسسات التعليمية والمساجد، والمعامل والمصانع، حتى اضحى شعار (ما بين مقهى ومقهى توجد مقهى) واقعا حقيقيا. هذه المقاهي تشغل شريحة كبيرة من اليد العاملة ، التي تعد مصدر نجاح هذا المشروع أوذاك ،على اعتبار أن المقهى أصبحت جزءا لا يتجزأ من يوميات “غالبية” المواطنين، و هناك من اتخذها مقرا لتسيير شؤونه المهنية كسماسرة العقار و السيارات و كل شيء، بالاضافة الى جيل المتقاعدين و العاطلين . هذه اليد العاملة كيف هي اوضاعها الاجتماعية ؟ و ماذا تجني من عملها ؟
فئة متضررة تعاني “الحرمان”

تؤكد معطيات الواقع أن الفئة العاملة بالمقاهي هي الأكثر تضررا و الأكثر حرمانا من أبسط الحقوق ، فلا تغطية صحية و لا ضمان اجتماعي ولا بطاقة شغل عند الغالبية – مع بعض الاستثناءات طبعا – ، زد على ذلك ضعف الأجرة، دون ان ننسى المعاملات العنيفة لبعض أصحاب المقاهي او المطاعم او مسيروها ، خصوصا إذا كان صاحب المقهي متواجدا يوميا ، فما أن يجلس زبون حتى تنطلق صيحات صاحب المقهى او الضرب بالملعقة على صحن من وراء (الكونتوار) والمراد بذلك دفع النادل الى الاسراع بالتوجه الى ذلك الزبون ، واخذ طلباته ، واذا ما فشل النادل في ذلك يتعرض لوابل من كلمات اللوم قد تعجل بفقدانه للعمل إن تكررت. هذا النادل لا يقتصر عمله على تسلم الطلبات وتقديمها للزبناء، بل هو من يفتح المقهى حوالي الساعة السادسة صباحا ويضع الموائد والكراسي ويشعل الفرن استعدادا لاستقبال الطلائع الاولى لزبناء الفترة الصباحية الذين ألفوا تناول الفطور في وقت مبكر. وقبل ذلك، فالنادل هو من يقوم بجمع الكراسي في ساعة متأخرة من الليل ويقوم بتنظيف المكان (التجفاف) بالماء والصابون و “جافيل” ، كل ذلك مقابل اجرة تتراوح بين 005 و0001 درهم للمحظوظين منهم، فيعتمد الواحد منهم خلال يوم عمل على جود وكرم الزبناء وعلى بيع السجائر ب” التقسيط”، وإن لم يكن حازما في الامر فالعديد من الزبناء المعطلين او الأجراء يحتالون عليه في عدد السجائر و حتى بعض الكؤوس او المشروبات، خصوصا في فترة المباريات الرياضية، فالعديد منهم يتمم دخله من ما يجود عليه بعض الزبناء او من دخل بيع السجائر لاتمام (الروسيطا).
ولأن أغلبهم من المتزوجين ولهم أبناء، فإنهم يتحملون مسؤوليات نحو اسرهم وابنائهم تبدأ من كراء البيت ومصاريفه ومصاريف الابناء المدرسية و الصحية والمناسباتية.. تضع النادل في مواقف جد محرجة، وللتخفيف من هذه الاعباء، يحاول العديد منهم البحث عن موارد اضافية عن طريق فرص اخرى للعمل، يربطون علاقات مع بعض منظمي الحفلات والاعراس لمنحهم العمل ليلا أو نهاية الاسبوع.
إن مشكلة هؤلاء أنهم لم يجدوا لحد الساعة من يتكلم باسمهم، فهم ممنوعون من الانخراط في العمل النقابي، التهديدات التي يتلقونها من أرباب المقاهي تمنعهم من تأسيس جمعيات للدفاع عن أوضاعهم، اللهم بعض التحركات القليلة في هذا المجال، والتي لم تستطع فرض نفسها كناطق رسمي معبرا عن معاناتهم وأوضاعهم الاجتماعية، كل ما استطاعت القيام به هو بعض المواقف الاجتماعية على قلتها، اما الحقوق المهضومة فلا أحد يستطيع ايصالها اوحتى البوح بها امام تسلط و تجبر بعض اصحاب المقاهي، والذين يحتفظون بنسخ من بطاقة التعريف الوطنية لكل نادل و عامل داخل المقهى ،من أجل الضغط على المعني في أية لحظة…
جيل جديد
بمواصفات مغايرة

بعيدا عن الصنف المتحدث عنه أعلاه، فإن سلسلة الفنادق المصنفة تحتاج الى جيل آخر يمتهن هذه المهنة، جيل له من التجربة و الخبرة والشواهد ما يؤهله لكي يكون عنصرا من العناصر التي تعتمد عليها هذه النوعية من المطاعم والمقاهي، ومن اجل ذلك فتحت مؤسسات و معاهد خاصة للتكوين في هذا المجال، كما ان التكوين المهني خصص شعبة الفندقة للتلاميذ والتلميذات حاملي شهادة البكالوريا او مستوى الثانية بكالوريا، وحددت مدة التكوين في سنتين او اكثر للحصول على دبلوم في تخصصات معينة في هذا المجال، وحصلت مجموعة كبيرة على شواهدها حسب ما اختارته، مع مراعاة الاهتمام بمجموعة من اللغات الدولية كالفرنسية والانجليزية بالاساس، بالاضافة الى الاسبانية والايطالية والالمانية، وغزت سوق الشغل في مجال الفنادق و المقاهي المصنفة. بل هناك من ساعده تكوينه في الحصول على عمل خارج ارض الوطن في أوروبا او امريكا وفي الخليج العربي .
هذه الفئة من محترفي مهنة “نادل” تختلف كليا عن تلك التي سبق الحديث عنها و التي تشتغل في المقاهي وسط المدن و بالاحياء الشعبية و المقاهي المتواجدة عبر الطرقات، لأنها تحمل مؤهلات العمل و مرت من مراحل التدريب والتجربة، وقبل تسلمها الشغل خاضت امتحانات تجريبية، وبالتالي فهي مؤطرة لتكون من ركائز اي مشروع او استثمار في هذا المجال ، ولا يمكن لها تسلم اي شغل دون الموافقة على العديد من الامور من طرف صاحب المشروع، سواء كان فندقا او مطعما او مقهى، عبر عقد شغل يحدد المدة الزمنية القابلة للتجديد وحقوق وواجبات كل طرف، وفي ما يخص الاجرة، فلا علاقة لهذا النوع من محترفي مهنة النادل بالفئة التي سبق الحديث عنها في البداية ، فعقد الاجرة عند هذه الشريحة قد تبدأ من 0053 درهم عند البعض منهم حسب مؤهلاتهم و تمتد الى 0009 درهم و منهم من يتجاوز عشرة آلاف درهم، اما اذا كان مكلفا او مشرفا على مجموعة فقد تفوق أجرته المبالغ السابق ذكرها .
وظروف هؤلاء مختلفة تماما لا من ناحية المسكن او المعيشة ، فكل الحقوق متوفرة عند الفئة الثانية، بما في ذلك التغطية الصحية والضمان الاجتماعي، دون نسيان امتيازات اخرى مرتبطة بمناسبة الاعياد وخاصة الدينية ، حيث تكون منح العديد من اصحاب المقاهي والمطاعم دسمة، كما في عيد الاضحى وشهر مضان، وأعياد رأس السنة والعطل السنوية التي تصل عند العديد منهم الى 40يوما ، فيما النادل العادي بالمقاهي العادية يخصم من أجرته الهزيلة كل يوم لم يحضر او غاب لأسباب و ظروف قاهرة، الا بعض الاستثناءات؟
يستخلص مما سلف أن التكوين والدراسة والتجربة في هذا الميدان، أصبحت ضرورية ، في ظل عصرنة القطاع وتحديثه .
شهادات صارخة

للاقتراب أكثر من هذه المهنة ومشاكلها، التقت الجريدة مع مجموعة من ممتهنيها، في الصنفين معا ، “الشعبي” و العصري ..
n (خالد ـ س ) نادل بمقهى بمنطقة الفداء بالدار البيضاء ، كلامه جمع بين الدارجة و تشلحيت، عمره يتجاوز 45 سنة، يقول :” أكثر من 20 سنة وأنا أعيش من هذه المهنة في غياب بديل حقيقي. تحملت كل العوائق، والمشاكل التي صادفتها متعددة، فبحكم تواجد هذه المقهى بحي شعبي لا بد من سلك المهادنة و التنازل الى درجة السماح في حقك أحيانا ، لتجاوز الوضع، لأنني منذ الصباح و أنا مع اولاد الدرب ، والبراني قليل ، أما أيام المباريات الكروية، خصوصا خلال ديربي الرجاء و الوداد ، فالوضع يكون أصعب ، لكنني بتجربتي و علاقتي مع الجميع (أسلك الامور) حتى و إن كان ذلك على حساب مدخولي اليومي ، فأعوض ذلك بإكراميات الزبناء و بمدخول بيع السجائر بالتقسيط … بالنسبة لوضعي الاجتماعي لدي 3 أطفال، إثنان يدرسان و الصغيرة مازالت مرافقة لأمها ، ليست لدي تغطية و صاحب المقهى لايريد تسجيلي بالضمان الاجتماعي ، أساعد نفسي بالعمل بالحفلات و الاعراس مع (تريتور) صديق لي ، تعرفت عليه بالمقهى، فهو زبون قبل كل شيء، فأنا مثل جميع (عمال المقاهي) نتحلى بالصبر إلى أن يفرج الله “.
n (حياة ـ ف ) نادلة بمقهى بمرس السلطان: ” انا اليوم أشتغل و أحصل على دخل حلال قليل أو كثير، لأن المجتمع لا يرحم خصوصا المرأة ، فكل الاصابع تتجه نحوها ، فإن كانت مطلقة لا ترحمها الألسنة و إن كانت أما عازبة فالوضع اخطر، دون حماية ولا من يرحمها ، اما بالنسبة لعملي كنادلة فلا بد أحيانا من (تخراج العينين ) مع بعض الزبناء لكي يتركوا مسافة بيني و بينهم وحتى لا أصبح فريسة سهلة ، علما بأن ماعشته في حياتي من صعوبات وأزمات لا يعلمها سوى الله تعالى ، من نتائجها إدماني على التدخين، و قد انقطعت عن تناول بعض انواع المخدرات بمساعدة احدى الجمعيات التي نصحتني بولوج ميدان العمل … أضطر اليوم لبيع السجائر بالتقسيط، لأن مدخول هذه العملية يساعدني في إتمام الروسيطة التي لا تجمع كاملة مع عملية (الكريدي) لبعض الزبناء” .
n (سعاد ـ ح ) نادلة بحانة ، صرحت للجريدة ” عالمنا فريد من نوعه ..كل ما يمكنني قوله هو (قبح الله الفقر) ، لا يسلم احد من ألسنة الناس.. أحيانا أشعر انني لست انسانة و ان كل ما يوجد في هذه (الحفرة ) بعيد كل البعد عن الانسانية، خصوصا بعد أن تلعب الكؤوس بأدمغة الزبناء فيصيح كل واحد يغني على ليلاه . لكن لا بديل لدي عن هذا الوقع المرير.. هذا العمل وسيلتي الوحيدة في الحياة ، فالكل هجرني و رماني للمجهول، فلاعائلة ولا أنيس سوى النوم بالنهار والعمل بالليل في هذه (الحفرة) الى أن يحن لله، ولا تحدثني عن التغطية الصحية وعن الضمان الاجتماعي، فكأنك تضحك علي أو تسخر مني”.
n (عزيز ـ م ) نادل بمقهى بالحي المحمدي ” أول شيء أخبرك به هو أن” فلوس” عيد الأضحى الماضي مازلت لم أسلمها لصاحبها، لم أستطع جمعها مع كل المتطلبات اليومية في ظل دخل هزيل والحرمان من كل ما يجعلك إنسانا طبيعيا عاديا تحظى بعيش كريم، فصاحب المقهى وعلى غرار العديد منهم، أكبر شيء يكرهه هو حين تطالبه بتسجيلك في الضمان الاجتماعي والتغطية الصحية.. إننا صابرون في انتظار الفرج ” .
n (حسن ـ ت ) نادل بعين الذئاب بأحد المطاعم الكبيرة “كنت دائما أبحث عن تكوين ألج به مجال الشغل و حين أرشدني أحدهم لولوج مراكز التكوين المهني شعبة الفندقة، كنت أظن انها مضيعة للوقت لكن جدية المؤطرين خلال فترة التكوين غير مساري ، قضيت سنتين وحصلت على دبلوم ، وقضيت مرحلة التدريب بدون مقابل و كانت تجربة مفيدة جدا ، اليوم أنا هنا في هذا المطعم أعمل بكل نشاط، احترم مهنتي ومشغلي، فمهنتي هذه جعلتني أحظى بمكانة محترمة في الوسط الذي أعيشه ، تزوجت مؤخرا، أستفيد من التغطية الصحية و الضمان الاجتماعي صحبة زوجتي و أحصل على أجر محترم” .


الكاتب : إعداد : محمد تامر

  

بتاريخ : 07/04/2017