وجهة نظر: شيء من التاريخ ورواسبه

لربما انصرف اهتمام عديد من مفكري العالم الإسلامي منذ صدمة الحداثة النابليونية على مصر بداية القرن التاسع عشر نحو تكشف عبقرية ذلك الآخر الأوربي، نحو استيعاب منطق الزمان الذي تسير فيه سفينة التاريخ الأروبي، وهي ترسو فوق شط التجاوز، وتحطم أساطير التفوق والعلياء المتوهمة التي حفلت بها كتب التراث. ذلك الرجل الأبيض الذي أطل بأنواره من على فوهات المدافع، وبدأ يوزع فضائله على «الشعوب المتوحشة» بمقاسات الانتروبولجيين وقتئد.

استنهض جيل النهضة العربية حاملا لطموح حضاري، لرؤية وجودية تستشعر الواقع وتنتقد جمود العقل وتكلسه، بدأ يستغور خبايا الذات الجريحة والمنجرحة، يلملم أعطاب التراث وذهنيات التفكير الموروثة، زمانية، يكشف عن اعتوارات واخفاقات الجسد العربي، عن انكساراته وأعطابه، بمسارين متضادين، مسار الاحتماء بالماضي والعودة إلى النبع الأول من صدر الإسلام المتوهج، ومسار الأخذ بمنجزات الغرب وأنعامه وفق أطروحة المتاح البشري المشترك.
قد يبدو في العمق نقاشا عميقا اعتمل في رحى بلاد الإسلام، يترجم ألما لم تخبو جذوته إلى اليوم بهذا الفضاء الجغرافي، رؤى وتحليلات عميقة تضمنت قراءات مستفيضة حول واقع التجاوز التاريخي لحضارة الغرب لعوالم الإسلام، وساقت انهجاسات وجودية حول الآل والمآل، وعله اليوم تناول قديم يتوشح بأزياء جديدة ومتجددة، تحت وقع الاحباطات النفسية والوجدانية التي تعتري الذات العربية الإسلامية من جاكارتا إلى طنجة، في زمانية فاضحة وكاشفة لاعتوارات الجسد المنذوب، المثقل بانجراحات اليومي المفعم بالتراجيديات الفارقة، وبعد مرور سنوات مديدة من اجترار خطط الإصلاح واستيراد الوصفات والمفاهيم والمقاربات وحتى الخبرات، وتراكم مسلسلات الإحباط والإخفاق.
من يتأمل واقع عالمنا العربي الإسلامي بقليل من نباهة التبصر، وحكمة التعقل، سيجده ناضحا بالمفارقات، حاملا لتفاوتات حضارية تؤكد عسر مسار الإصلاح في هكذا سياق. كتب لهذا الفضاء القرية كما يقال في أدبيات عرابي برتون وودز، في زمن عولمة الأفكار وانتفاء المسافات والحدود، وانحسار سيادة الدول القومية أن يحوي متضادات مثيرة، لا يستطيع عقل الإنسان أن يستوعبها بمنطق الزمان والمكان وحتى الإنسان، وهو ما أومأ إليه باحث أردني حصيف يدعى مروان معشر حينما قال بين الغرب والإسلام تتقارب الجغرافيا وتتباعد الحضارات، تتشابه المقدمات وتختلف النهايات.
في وقت تشهد بلاد بروسيا سابقا تلك التي لم يكتب لها أن تحقق وحدتها إلا آواخر القرن التاسع عشر من قلب فرساي الفرنسي، وأن يجود الزمن بمصادفة مثيرة، أسبقية اصلاحات محمد علي المصرية على وحدة كافور وثورة الميجي اليابانية.
أسياد أوربا اليوم اقتصاديا وسياسيا تقودهم امرأة حديدية، تتربع على أقوى هولدينغ صناعي وتكنولوجي بمنطقة اليورو، سيدة تحظى بتقدير خاص من طرف الرأي العام الألماني لأربع ولايات متتالية، ربما قد يتدخل التاريخ ههنا ليذكر العالم بأن النساء هن من بنين مجد ألمانيا بعد سنوات الدمار والخراب التي جاد بها جنوح العقل الألماني النيتشوي نحو الهيمنة على العالم في مجريات الحربين العالميتين الأولى والثانية.
على ضفة قريبة امرأة أخرى أفرج عن حقها الطبيعي في قيادة السيارة من طرف نظام سعودي مغلق، وسط تهليلات إعلامية بأن القرار قرار تاريخي غير مسبوق.
واقعتان كافيتان لقياس فجوة التفاوت التاريخي والحضاري الذي يفصلنا عن الآخر، امرأة تقود أقوى دولة وأخرى ستقود السيارة، ربما سيخلد التاريخ هنا بالمغرب شخصية أحمد رضا اكديرة لحظة الاستقلال، وسط تجاذب الفرقاء السياسيين لحظة التجاذب المستعر حول السلطة بين المؤسسة الملكية وأحزاب الحركة الوطنية حينما قال أن النساء خزان انتخابي، وضمن منذاك الوقت مشاركة النساء المغربيات في الانتخابات.
لربما يفهم الآن بأن العولمة بما هي استيلاب هوياتي ونفي للاقرار بخصوصية الآخر، تصيغ نفيا وجوديا للانصهار في فضائل القرية الكونية، عبر النزوع نحو الانغلاق الدوغمائي من جهة، وتعاظم النزوعات القومية من جهة موازية.
من الحملات الصليبية إلى الغزو المغولي، من سياسة التتريك العثماني إلى الانتدابين الفرنسي والبريطاني، من الاستيطان الصهيوني إلى الإمبريالية الأمريكية، ثمة قاسم مشترك يعتور بنية العقل العربي لم يمل من تكراره وإعادة استنساخه، ماضيا وحاضرا، نظرية المؤامرة.
يقول مثل ألماني شهير، لو كنت في القاع فلا تحسبن أن الحجر الذي يتساقط عليك يستهدفك أنت بالذات. هناك ارتكاسة مقيتة تسم منجزنا السياسي، تفقدنا رصيدنا العقلاني في الفعل والممارسة، تعود بنا إلى درجة الصفر، هناك حاجة ملحة لأجيالنا الحالية لإعادة استغوار نص «الاختيار الثوري»، لمن ظلت صورته مزعجة حتى وهو مطمور في زوايا أقبية النسيان، وتذوق نص «صمود وسط الإعصار» لمن لم يكتب له أن ينجز تخطيطه المزعج، هناك حاجة إلى اكتشاف النصوص الكبرى لا الاكتفاء بالشروحات والاختزالات المبتدلة عن هذا الواقع.


الكاتب : مولاي عبد الحكيم الزاوي

  

بتاريخ : 02/10/2017