آخر لقاء

…ذات مرة، تحركتُ وأنا أهم بالانصراف قائلاً:
ـ إلى اللقاء.
فرفع نحوي عينيه وهو يتبسَّم:
ـ في الجنة.
فنظرتُ إليه في غمرة من حيرة ويقين، وخوف وإشفاق، متبسماً مثله.

وفي المرة الأخيرة ، بادرني وأنا أقرِّبُ كرسياً للجلوس أمامه، قريباً منه:
ـ هل ما يزال بين الشعراء من يتذكرني؟
فقد أثقل المرض على ذاكرته، وإن كان لم يتغيب عن الساحة، وعم النشر إلا أشهراً معدودات، ثمّ أضاف:
ـ من منهم سيسير في جنازتي؟
فلم أحر جواباً، وقد بدا لي أي قول يستبعد رؤياه عن أثر الغياب، بليداً بل مغرقاً في الغباء.
لكنني بعد قليل وجدتني أهمس له:
ـ في آخر مرةٍ قلت لي وأنا أودعك: إننا سنلتقي في الجنة.
فأكد على ذلك بحركة من كل ملامح وجهه، فقلت محاولا طرد كابوس المرض:
ـ ألا تعلم أنني لن أدخل الجنة !!!.
فتبسم ضاحكاً بدون صوت مسموع، وبهدوء تام غطَّى على جميع ملامحه:
ـ ولا أنا أيضاً…
فتأكدت أنه لم يفقد حِسَّهُ الساخر بعد، ولو كان يملك حولاً لأنطلقَ في ضحك عالٍ كطفل بريء.
ثم أشار إلى زوجته الواقفة إلى جانبه في صبر بطولي نادر، وهو يؤكد بكل نبضٍ فيه لا يزال يقاوم:
ـ هذه جنتي!!!
قلتُ مصدقاً: أعظم بها من جنة.
ثمّ توجه إليَّ بآخر ما كان يعلو وجهه من ضوء:
ـ إذا مـتُّ فانعني بما أنا أهل له.
ولأنه كان يعلم صدق قولي معه دائما، لم أجبه وإن كانت عبارته التي أتتني، دلت على أنها كان من وراء حجاب بدأ يباعد ما بيننا، لذلك لم أجبه بغير تمسكي بإصابه يديه التي كانت مسترخية كما لم تكن في أي وقت سابق.
ثم لم أدر ماذا قلت وأنا أهم بالانصراف، لتصاحبني زوجته حتى باب البيت ، وأنا أدعوها إلى أن تتجمل بالصبر.

وفي آخر مرة، دخلتُ إلى حيث كان قد سُجِّيَ في كفنِ، بعد أن كان ألمه العظيم الذي صمد له شهوراً، قد أخذ منه كل مأخذٍ، ولم يترك من الرجل إلا مقدار حجم طفل صغير، لكنه كان في موته إنساناً كبيراً.
….
كان السارد يروي مشهد النهاية هذا لقريب له على مسمع من إحدى بناته، فلم يتمالك أن سالت عيناه، رغم محاولته إخفاء ذلك كأي رجل لا يتهاوى بسهولة، لكن عيني ابنته كانت أغزر دمعاً، وهي ترى أباها يشهق كما لم يفعل في أي موقف سابق من حياته. وقد نسيت ما كانت تحاول تقديمه إليه من ورَقٍ لكفكفة ما كان ينهمر على خد أبيها، وقد استشعر هول فقدان فادح .


الكاتب : أحمد بنميمون

  

بتاريخ : 20/10/2017

أخبار مرتبطة

  بالنسبة لقارئ غير دروب بالمسافات التي قطعها الشعر المغربي الحديث، فإنّه سيتجشم بعض العناء في تلقّي متن القصائد الّتي

« القصة القصيرة الجيدة تنتزعني من نفسي ثم تعيدني إليها بصعوبة ، لأن مقياسي قد تغير ، ولم أعد مرتاحا

«هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟» مجموعة قصصية جديدة   «هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟»هي المجموعة القصصية الثالثة لمحمد برادة، بعد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *