قراءة في: «النمر الفيتنامي»: لـ حسن بحراوي … الرواية وتحدّي الأشكال الجديدة

لا شك أن النمر الفيتنامي  هي الرواية الأولى التي أتاحت للقارئ المغربي والعربي أن يتعرّف إلى مؤلفها حسن بحراوي كاتبا روائيا، بعد أن تعرّف إليه منذ العقدين الأخيرين من القرن السابق من خلال سلسلة من الدراسات والأبحاث الرّائدة في نقد الرواية والمسرح والثقافة الشعبية بالإضافة إلى الترجمة. وإذا كانت التجربة النقدية للكاتب حسن بحراوي قد رسّخت اسمه عميقا في حقل النقد الأدبي من خلال ما قدمه من أبحاث ودراسات رصينة في بابها…

 
لا شك أن النمر الفيتنامي هي الرواية الأولى التي أتاحت للقارئ المغربي والعربي أن يتعرّف إلى مؤلفها حسن بحراوي كاتبا روائيا، بعد أن تعرّف إليه منذ العقدين الأخيرين من القرن السابق من خلال سلسلة من الدراسات والأبحاث الرّائدة في نقد الرواية والمسرح والثقافة الشعبية بالإضافة إلى الترجمة. وإذا كانت التجربة النقدية للكاتب حسن بحراوي قد رسّخت اسمه عميقا في حقل النقد الأدبي من خلال ما قدمه من أبحاث ودراسات رصينة في بابها، فإن هذه الرّواية الأولى التي جاءت متميزة بسمات جمالية شديدة الخصوصية والاختلاف، تكشف بجلاء عن موهبة سردية عميقة وتمرّس شديد بالتقنية الروائية، وقدرة كبيرة على توظيفها توظيفا مبدعا يتجلى على مستوى اللغة والشخصيات والفضاءات والأزمنة والرؤيا المؤسسة على اللايقين والاحتمال والشك، وكذلك على مستوى تماسك الرواية الداخلي. وليس غريبا أن يلمس قارئ هذه الرواية التي تسلك سبيل الفرادة والتميز أثرا جليا لثقافة الكاتب النقدية واهتماماته الجمالية السابقة في بناء الحبكة السردية ونسج خيوطها، وفي تغذية المتخيل بمصادر متنوعة أدبية وشعبية وصوفية وتاريخية تنمّ عن احتكاك أكبر بالثقافة المغربية وبالمنجزات الجديدة على صعيد الأدب والفكر العالميين، وهذا ما يمكن تلمّسه في الرواية من خلال الوعي بالكتابة وبشروط تحققها ونهوضها بدورها الكاشف عبر المعرفة التي تنتجها في عالم محير لا يكفّ عن السخرية من مزاعم الإنسان وقدرته على تفسيره. ويعدّ هذا التوجه إحدى السّمات المائزة لسرد ما بعد الحداثة، حيث الروائي لا يكفّ عن التجريب والبحث والنهل من معين خطابات متعددة، وأجناس وتعبيرات مختلفة، كما لو أن الرواية بهذه القدرة على امتصاص اللغات والنصوص والتجارب الجمالية، تتعينُ بوصفها الكتابة التي لا تلتقي باسمها إلا بتوفر شرط أساس يتمثل في ذلك التلقي الذي ينظر إليها بوصفها جزءا من تطور الرواية المعاصرة بشكل عام.
للدخول إلى العالم التخييلي الذي يقترحه علينا حسن بحراوي في هذه الرواية التي تكسّر القواعد والقوالب التقليدية لا بدّ من الإشارة، في البداية، إلى ما يميزها على صعيد البناء السردي. فالقارئ الذي يتأمل في تركيبها السردي سيلاحظ أن مشهد الحكاية يتوزّع على قسمين كبيرين، مع ما يشبه الخاتمة بعنوان: مصائر الشخصيات بغير ترتيب الظهور. لا يحمل القسم الأول أي عنوان، بينما القسم الثاني يحمل عنوان: الشخصيات وعلاقاتها بحسب الظهور. ومن اللافت أن هذه العبارة تبدو أقرب إلى اللغة النقدية التي تقيم علاقة مباشرة بالموضوع الذي تسميه. وعلى هذا الأساس يمكن القول إذا كان القسم الأول يتميز بنفس سردي مسترسل يجري باستعمال ضمير المتكلم، فإن القسم الثاني يتميز بكونه يمثل تأملا في الرّواية وتفكيرا في مكوناتها السردية، خاصة مكون الشخصية. إن هذا الاقتراح الجمالي الذي يجترحه حسن بحراوي في هذا النص يعدّ أهم وجه من وجوه التجديد فيها، لأنه يفسح للقارئ مجالا للتأمل في رحلة الشخصيات ومغامراتها السابقة في درب الحياة الصعب المليء بالأحلام والأشواك، والتفكير في علاقتها الملتبسة بالسلطة ومنظورها الاستحواذي الذي يتصور «كل اختلاف عن تعاليمها مروقا أو جموحا يقتضي المبادرة إلى الكبح، أو التفضل بالصفح، حفاظا على «أسطورة النظام»، الضامنة لمكاسب المهيمن الغالب، والمديمة لمصالحه المتواردة . وبهذا البناء المفتوح والمركب الذي لا نجد فيه خاتمة نهائية واضحة، تندرج الرواية في صميم التجارب الإبداعية المبتكرة التي ترفض المفاهيم التقليدية للواقع، وبالتالي تمثل تحديا كبيرا بالنسبة للمتلقي، خاصة من جهة العالم الذي تنهض بتشييده بما ينطوي عليه من ضروب التغريب واللامعقولية وبما يصاحب ذلك من إحساس بالتوتر والاغتراب والاستلاب. فالقارئ بإزاء هذا النص الذي يجترح أسلوبا مختلفا يضرب الحدود ويلغي الفواصل للتعبير عن رؤية مغايرة بصدد الإنسان والعالم الذي يعيش فيه، وبصدد الواقع واللاواقع، مطالب ببذل جهد أكبر لإعادة تركيب خيوط الرواية ونسج عالمها وتفكيك رموزها وعلاماتها. وعلى هذا الأساس يضطلع الشكل المفتوح الذي ينصهر فيه الواقعي بالخيالي، والحقيقي بالخرافي، والجدي بالهزلي، بنقل القارئ من وضعية التلقي السلبي، ليغدو مشاركا فعالا في إنتاج النص، وفتح الطريق أمام الدلالات المستكشفة للمجهول، والموسّعة للمتخيل الاجتماعي.
يقدم القسم الأول قصة تنهل من العجيب والخارق الذي له صفة ما لا يصدّق وما لا يقبله العقل. يتعلق الأمر بقصة قط تحول إلى نمر في بيت أسرة كانت تقوم بتربيته بعدما عثر الأب على النمر/ القط في الميناء وجاء به إلى البيت ليلعب به الأطفال. وخوفا من المخاطر التي يمكن أن تترتب عن بقاء النمر في البيت قرر الأب إهداء النمر لحديقة الحيوان المجاورة. غير أن النمر/ القط الذي تسلل من الحديقة إلى المدينة في ظروف غامضة، سيتم قتله من قبل أعوان السلطة بعدما أخبر عز الدين السلطات بتهديده سلامة الناس في المدينة. وكتعبير عن الوفاء، عمل أبناء بيت النمر على تحنيطه ونقل رفاته إلى البيت من جديد وإقامة حفل كبير فرحا بعودة النمر/ القط من جديد، حفل تألق فيه المغني الشعبي حجيب وصاحب الحلقة الذي روى قصة النمر مع أصحاب الأخدود وابّا عمر حارس الحديقة. غير أن الوفاة الغامضة لعز الدين وضعت كل هؤلاء في مرمى المحققين، حيث تبرز جوانب إنسانية عميقة لدى بعض الشخصيات، خاصة ابّا عمر وراوي الحلقة والصيدلي منير ومساعدته المحجبة. وبالمقابل تبرز القبضة الأمنية الرّهيبة في مغرب السبعينيات والثمانينيات.
إذن، من خلال هذه القصة البسيطة التي هي نتاج العلاقة بين المرجعي الواقعي والخيالي المسكون بالرغبة، يبذلُ السرد الروائي جهدا فنيا كبيرا في الاستدلال على العالم الخيالي الذي تشيده الرواية من خلال الشخصيات التي تلج هذا العالم تدريجيا لتكتوي فيه بنار القسوة والألم والعبث. بدءا برب الأسرة الذي يشتغل سائقا بالميناء وبزوجته وابّا عمر حارس الحديقة ومنير الصيدلي الذي نهض بعملية تحنيط النمر. لنقل، إذا، في هذه القصة حيث يشتغل العجائبي بقوة، يشكل التحول نقطة ارتكاز أساسية تنهض عليها مصائر الأبطال في الرواية. لذلك فاشتغال العجائبي لا يرتبط فقط بنزوع إلى البحث عن جماليات جديدة ومتفردة، بل يتصل كذلك برؤية محددة للعالم يشغلها هاجس الإمساك بما يكتسح اللحظة الراهنة من ضروب التحولات والمسوخ. فالقارئ الذي يتلقى سردية القط الذي صار نمرا لا ينفصل عن اللحظة المعيشة وهو يعيش تفاصيل تلك القصة. وهذا يعني أن الرواية التي اختار حسن بحراوي أن يرسم من خلالها واقعا آخر مليئا بالعنف والتحول والمسخ، تتصل بوشائج كثيرة بالانشغالات والهموم الأساسية التي تشغل بال الإنسان المغربي في اللحظة الراهنة المسكونة بالقمع والحصار والمطاردة وقوانين الرقابة.
يمكن القول إن التحول الذي طاول هذا الحيوان الذي كان قطا قبل أن يصير نمرا، يمثل من الناحية الجمالية سمة فنية تنهل من مضامين الواقعية السحرية التي مثل الروائي العالمي فرانز كافكا أحد روادها الكبار. وقد ألمع الباحث الفرنسي برنار لاهير في دراسة لمّاحة حول كافكا إلى أن البنيات العجائبية التي تؤثث عوالمه ليست بمنأى عن التجربة التي عاشها هذا الكاتب، وسيكون من غير المفيد تلقي أعماله مفصولة عن سيرة حياته وعن عصره. ومعنى هذا أن الرواية عندما تحتفي بالعجائبي والخارق وما لا يصدقه العقل، فهي لا تريد أن تقطع أوصال العلاقة بالعالم، بل تحض القارئ على تنزيلها منزلة خاصة تستكشف إمكانات الأدب اللاتنتهي في إبداع عالم مختلف يتأسس على خرق وانتهاك المألوف والمعتاد، انطلاقا من مقتضيات وطرائق خاصة في السرد والبناء واللغة. وما نرمي إليه من خلال هذه الإشارة إلى التقاء رواية «النمر الفيتنامي» بروايات عالمية وبنصوص مغربية وعربية راهنت على هذا الخط الجمالي الذي من سماته المائزة استدعاء المكونات العجائبية المولدة للأسئلة والحيرة والقلق والشك والالتباس، هو التأكيد على القصدية الكامنة وراء هذا الاختيار الفني الذي يسلك مسلكا مختلفا في الاستدلال على العالم، وفي تعميق التواصل بين الرواية وذائقة القارئ المقصود بها. وهذا ما يجعلنا أمام رواية منفتحة تحتفي برموز وإشارات وخطابات وأنساق لا يمكن معها القول إنها تعني هذا الشيء أو ذاك تحديدا.
يتناول القسم الثاني من الرّواية الشخصيات الأساسية التي تتحرّك في عالمها. بدءا بربّ الأسرة المدعو الصحراوي، حيث يسلط السارد ضوءا كثيفا على رحلته من الريصاني إلى الدار البيضاء زمن الاحتلال الفرنسي للمغرب وغداة حصول البلاد على الاستقلال. تتعدد العينات السيرذاتية للشخصيات التي تتخلل الرواية، إذ بالإضافة إلى السرد الذي يأتي بضمير المتكلم على لسان الابن، تظهر اللحظات المفصلية في حياة الصحراوي الذي عمل في البداية حمالا بالميناء قبل أن يتوسط له قريب ليشتغل سائقا لدى إدارة الميناء. ويركز السرد ها هنا على جدية الصحراوي وانضباطه وصدقه في علاقاته مع الغير ما جعله محط كيد نظرائه من العمال. إن رصد الكاتب لمسار هذه الشخصية يفسح المجال للتعرّف على الأوضاع المعيشية والحياتية للعمال المغاربة إبان الاحتلال وبعده، وما كابدوه من ضروب المعاناة والألم. فالصحراوي كان يحظى بمعاملة جيدة من المسؤول الفرنسي عن الميناء حينما كان مكلفا بقيادة سيارته، وعندما انتقلت إدارة الميناء إلى مسؤول مغربي بدأ يتعرّض لمعاملة تمييزية وعنصرية بسبب لونه الأسود. وفي هذا السياق تلج الرواية مرحلة ما بعد الاستقلال حيث تقدم نقدا عميقا لعلاقة السلطة بالفرد مما يضيء جوانب وتفاصيل متعددة من تلك المرحلة، بحيث لا يقحم الكاتب تلك التفاصيل إقحاما، وإنما تأتي لإظهار الشخصية الروائية في عالم مشحون ومتوتر، والاستدلال على مواقفها السديدة ووطنيتها الراسخة. من هنا يمكن القول إن الروائي وهو يستدرج الوقائع والأحداث المتداخلة والمستمدة مما عاشه الصحراوي إلى عالم الرواية، لا يهدف فقط إلى إقامة جسور بين النص والعالم. فإذا كانت هذه الجسور تضفي على الرواية بعدا واقعيا، فإنها تلمع كذلك إلى مهارة كبيرة في الربط بين المتخيل والتاريخ لتشييد الأبعاد الزمنية وتخصيص الفضاء.
بالإضافة إلى الصحراوي، نجد كذلك شخصية ابّا عمر الذي تعرّف عليه القارئ في الجزء الأول من الرواية حارسا للحديقة التي تمّ إيداع القط/ النمر بها خوفا مما يمكن أن يسببه من ضرر للناس، ليلقى حتفه بمخفر الشرطة بسبب التعذيب الذي طاله أثناء التحقيق في مقتل عزّ الدين. يمكن القول إن شخصية ابّا عمر تعدّ شخصية محورية في الرواية، فهي تضيء مغرب ما قبل الاستقلال وما بعده، وتجلّي الظروف الصعبة التي عرفها النضال الوطني بحثا عن الكرامة والاستقلال والحرّية. لذلك فمسار هذه الشخصية الروائية، ومشاركته في الحرب التي خاضتها فرنسا ضد الفيتنام، والظروف التي صاحبت مشاركة المغاربة في حرب لا تعنيهم، وكيف تم نقلهم إلى مواقع المعارك، كل ذلك أتاح للروائي أن يكشف جوانب مختلفة من علاقة المغاربة بالفيتناميين، ومشاركتهم إلى جانبهم في معركة دان بيان التي تعد من أشهر المعارك في التاريخ الحديث، حيث انهزمت القوات الفرنسية واضطرت للاستسلام والانسحاب. وهكذا قررت مجموعة كبيرة منهم الاستقرار بشمال العاصمة هانوي. ولم يعودوا للمغرب إلا سنة 1972.
إن دخول شخصية روائية جديدة في عالم السرد، قد يحدث منعطفا في عالم الرواية مما يفتح أمامها منافذ إلى دلالات وأبعاد وقيم جديدة. وفي هذا السياق يمكن أن نلاحظ أن شخصية ابّا عمر التي يكثف مسارها العلاقة المتوترة بين الفرد والسلطة، وما يستتبع ذلك من مطاردة ومساءلة وإدانة، قد أتاحت لرواية «النمر الفيتنامي» التوغل في مناطق داجية، والحفر في أوضاع المغاربة الذين شاركوا إلى جانب قوات فرنسا في حربها ضد الفيتنام، والمناطق التي كانوا ينحدرون منها، وعلاقة ذلك بما كانوا يعانونه من ضروب الفقر والحرمان والحاجة. كما تتعرّض الرواية بالنقد للطريقة التي كان يعامل بها المغاربة من قبل الفرنسيين، مقارنة بمعاملة الفيتناميين. كان الفرنسيون يعاملون المجندين المغاربة كأرقام، وهو موقف يكشف البعد الكولونيالي للدولة الفرنسية ونزوعها إلى الهيمنة وبسط السيطرة وتجريد الآخر من اسمه وتعويضه برقم، بينما الفيتناميون أعادوا لكل المغاربة أسماءهم رغم أنهم كانوا في عداد الأسرى. ها هنا تقدم الرواية عالمين أحدهما في مقابل الآخر، مما يولد على مستوى التلقي إمكانيات لاستشفاف التوتر بين عالم الإمبريالية المسكون بلغة القمع والرغبة في السيطرة على الآخر وحكمه، والعالم الحر حيث المقاومة والهجنة والإيمان بالاختلاف. وبالإضافة إلى ذلك، نعتبر أن الإشارة إلى موقف فرنسا من المجندين والنظر إليهم كمرتزقة، والإحالة إلى الحرب القذرة، يجعل الرواية تلتقي بأدب ما بعد الكولونيالية الذي تشكل السيطرة الاستعمارية من جهة، والمقاومة من جهة ثانية، وعلاقة ذلك بأسئلة الهوية والاختلاف موضوعاته الأساس. لقد أبرز الناقد جيسي ماتز كيف أن الحالة ما بعد الكولونيالية التي هي حالة كفاح الأمم المستقلة نحو تشكيل الهوية الثقافية الذاتية، قد قادت «الرواية إلى شكل جديد من الكتابة،،، شكل راح الكتاب فيه يكتبون منطلقين من فضاء الطرف الهامشي ذاته، وبالضدّ من الأفكار والتوجّهات التي جعلتهم يقبعون فيما كان يسمّى (هامشا) . بمعنى أن ما كان منظورا إليه كهامش، قد غدا في أدب ما بعد الكولونيالية شيئا مركزيا وحيويا.
إن الكاتب في هذه الرواية لا يستمد شخصياته من الواقع بضعفه ونسبيته والتباسه وغرابته، بل نجده يغوص في الذاكرة وفي الثقافة الشعبية ليستدعي شخصيات تعطي لروايته أبعادا ودلالات ضافية. كشخصية المغني الشعبي حجيب وراوي الحلقة الذي تم القبض عليه هو الآخر في سياق التحقيق في الوفاة الغامضة لعز الدين. إن شخصية راوي الحلقة التي تضرب عميقا في التاريخ الأدبي العربي، وتستبطن العلاقة المتوترة بين السلطة ومحترفي هذا النمط من الأداء السردي، تلتقي وتتقاطع بشخصية ابّا عمر. فكلاهما تنطوي سيرته على استراتيجيات لضمان النجاة نفسيا وجسديا من عالم مثقل بالعنف والقسوة والمطاردة. إن هذا الأسلوب الذي نجده في روايات كافكا يتجلّى بالنسبة لشخصية الحكواتي في إحساس الإنسان بالمطاردة والخوف، وخضوعه للتحقيق والمحاكمة من دون أن يكشف التهمة الموجهة إليه. وهذا الاستمداد من عالم الأدب الوجودي والثقافة الشعبية والتصوف، يضع الرواية في قلب التجارب الكتابية التي نهلت من معين التراث الإنساني، ومن رموزه وأساطيره ولغاته الضاجة بالحياة لدعم الجاذبية الجمالية للسرد. يذكرنا هذا بأدب الشّطار في الأدب العربي: من شعر الصعاليك إلى محمد شكري، بالإضافة إلى كتابة خوان غويتيصيلو حيث تظهر القوة التي ينطوي عليها السرد في إثارة الاستجابة العاطفية لدى جمهور واسع.
لا يمكن اختزال العلامات والرموز التي ينطوي عليها عالم الرواية في مسارات الشخصيات التي تعرضنا إليها في هذا التحليل. ثمة شخوص أخرى في الرواية تنهض بدور محوري، سواء في مضاعفة تأثير الخطاب العجائبي، أو في استدراج تيمات وسجلات ورؤى أخرى إلى خطاب الرواية. ففيما يتعلق بتصعيد الإحساس بالتوتر تبرز شخصية الصيدلي الذي نهض بتحنيط النمر بعد أن تعامل معه أعوان السلطة وصار جثة بلا روح. لكن الكاتب وهو يستعيد مسار شخصية منير الصيدلي، ويلمع إلى الظروف الصعبة التي كابدها، سواء من جهة اليتم الذي عاشه وهو طفل، أو في ما يتصل بالسياق الذي أحاط باستكمال دراساته العليا في روسيا، ودور والدته في ذلك، إنما يعمّق من أثر الواقع في نصه. وفي نفس السياق نجد شخصية عز الدين الهولاندي المتشبع بالفكر الشيوعي تتيح منفذا إلى دلالات وأبعاد وقيم جديدة تعمق نقد الرواية للكولونيالية، ليس فقط في جانبها المتعلق بالسيطرة والهيمنة، وإنما كذلك في استبعاد الثقافات الأخرى غير الغربية والنظر إليها على أساس أنها لا تنطوي على أية أصالة. وهذا ما يبرز من خلال اهتمام عز الدين بابن خلدون وتفرّغه للبحث في منجزه بقصد التعريف به. في هذا السياق كذلك تتعرّض الرواية من خلال موقف عز الدين المناهض لبناء مسجد بالحي الذي كان يقطن فيه، للتوتر بين ثقافة حداثية وأخلاق شيوعية تشبع بها، وبنية متصلبة يمثلها الفكر الديني الذي تتبناه جماعات دينية منغلقة.
عبر هذه الشخوص، ومن خلال ما تنجزه من أفعال وملفوظات تبرز المعالم الأساسية الناظمة للعالم الروائي الذي تقترحه علينا «النمر الفيتنامي»، وهو عالم أغنى وأعمق وأوسع من أن يتم اختزاله في السرديات الخاصة بهذه الشخصيات، إذ ثمة وقائع وأحداث تاريخية شديدة الإحالة على الذاكرة في بعدها السياسي. وبهذا الشكل تتعين «النمر الفيتنامي» بوصفها رواية التمفصل بين الذاكرة والسرد، وهو تمفصل جعل منه بول ريكور أساس دراسته اللماحة «الذاكرة والتاريخ والنسيان». وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى شخصيات تتخلل السرد وتضطلع بتكثيف الإحالة على ما شهده المغرب خلال نصف قرن من تاريخه الحديث من منعطفات وتحولات لا تزال تلقي بظلالها على الحاضر والمستقبل. مثل الجنرال لحرش، وأوفقير، وعلي يعتة، وشيخ العرب، والجنرال جياب والجنرال ادريس بن عمر. إن هذه الشخصيات التي تجذر الرواية في التاريخ الرّاهن، تبرز الدور الذي ينهض به السرد في تنشيط عمل الذاكرة، وشق ممرات وجسور نحو آفاق ضافية تسمح بالانفلات من أسر السرديات المغلقة والناجزة. ومن هذه الزاوية تتجلى «الفاعلية التي تنطوي عليها الرواية مستفيدة من توسّع الوعي، وتنامي الحاجة إلى أخذ الكلمة وتوظيفها لاستكشاف الدهاليز المخيفة والجذابة التي يواجهها الإنسان المعاصر، عاريا من كل سند سوى إيمانه بالحقيقة التي يلهث خلفها، وتشخيص ما تحفل به اللحظة الملتهبة من تبدلات وتجليات صارخة، وفضح الممارسات التي تعوق التوق الإنساني لأزمنة لم تلتق بها الروح بعد».
في ختام هذا التحليل أحب الإشارة إلى مسألتين أعتبرهما أساسيتين في بناء هذه الرواية المفتوح على شخوص وملفوظات وخطابات وأحداث وأجواء مختلفة:

1 – يجري السرد في هذا النص بضمير المتكلم، وهي ظاهرة تتكرر بشكل ملحوظ في الرواية العربية المعاصرة، وتطرح على النقد الروائي أسئلة عميقة تطاول التمفصل بين الذات المتكلمة التاريخية (أنا الكاتب) والـ أنا الأدبية(الثانية) التي تنهض بالسرد وبإنتاج عالم الرواية. وقد سبق للناقدة سلوى السعداوي أن تناولت هذا الجانب في دراسة لماحة بعنوان: «الرواية العربية المعاصرة بضمير المتكلم»(2010)، وهذا النزوع الفني الذي نجده في «النمر الفيتنامي» قد يوهم بالتطابق بين السارد والبطل، «لأن من يقول أنا لا يملك إلا أن يكون بؤرة السرد يروي تجربته في الواقع «، مما يخلق لدى القارئ توجها نحو تلقي النص من منظور أقرب إلى رواية السيرة الذاتية. لكن هذا التوجه سرعان ما يتراجع ضغطه بالنسبة لقارئ هذا النص عندما يستحضر تلك المسافة بين السارد الذي يضطلع بمهمة السرد هنا والآن، والبطل الشخصية (زمن ماضي). وقد ألمعت الناقدة اللبنانية يمنى العيد إلى أن هذه المسافة هي مسافة التحول، ومسافة العين، ومسافة الذاكرة التي تتيح النقد والتساؤل والتقييم. وبهذا المعنى لا تكون الرواية بالضرورة سيرة ذاتية حينما يتحدث السارد فيها بضمير المتكلم، «بل هي تستخدم الراوي بضمير الـ أنا ليتمكن [الكاتب] من ممارسة لعبة فنية تخوّله الحضور وتسمح له، بالتالي، التدخل والتحليل بشكل يولد وهم الإقناع».
2 – لا شك أن شخصية ابّا عمر تعدّ شخصية محورية في هذه الرواية. إن هذا الموقع الذي يشغله في عالم الرواية هو الذي يدفعنا عند التأويل، وانطلاقا من لملمة الأفكار المختلفة المتناثرة في ثنايا الحكاية، إلى إقامة تماه بين عنوان الرواية وهذه الشخصية، حيث يغدو العنوان بنية رمزية تحيل إلى ما هو أبعد من القط الذي تحول إلى نمر، أي إلى ما يتصل بشخصية القائد عمر الذي عمل إلى جانب القوات الفيتنامية في مقاومتها للجيش الفرنسي الذي شن حربا ظالمة على بلادهم، وما تحلى به من قيم إنسانية عميقة ومن شجاعة وقدرة على إلحاق الهزيمة بالجيش الفرنسي في المعركة التي خاضها ضد الفيتنام. إن القط/ النمر الذي قتله أعوان السلطة عندما خرج من الحديقة باتجاه المدينة وصار موضع مطاردة، يتعيّن بمثابة قرين أو مماثل لشخصية ابّا عمر الذي قتل بسبب القبضة الأمنية الرهيبة أثناء التحقيق الذي أجري معه إثر الوفاة الغامضة لعز الدين. ابّا عمر نفسه عندما عاد إلى المغرب ظل مطاردا وملاحقا ومحل شبهات. وبهذا المعنى يكون عنوان الرواية من العناوين المضللة التي لا تبوح بمكنونها الدلالي لأنها تتطلب تلك القراءة الحفرية التي تستطيع الكشف عما يتوي في طيات الكلمة الروائية من مضامين وأبعاد ودلالات. والحال أن هذا الأمر لا ينسحب على عنوان الرواية وحسب، وإنما يشمل المتن الحكائي كله حيث التحول يعدّ الدينامية الأساس المحركة لعالم الرواية. فرغم أننا نجد في الرواية خيطا حكائيا ممتدا يشد القارئ بما يتخلله من وقائع وأحداث مثيرة للأسئلة وللحيرة والقلق، فإن هذا الإيهام سرعان ما يتعرّض للخلخلة بتأثير البنيات العجائبية التي لا يكف الكاتب عن توليدها، والانفلات بها من أسر الشكل التقليدي للرواية وقيوده. وهذا ما يجعل القارئ في مواجهة رواية متوترة عصية على السّبر، رواية فيما هي تبني عالما خياليا يقابل عالمنا الخاص، تجعل من السرد إحدى الأدوات الفعالة القمينة بالرد على العالم الواقعي الذي نحياه ومساءلته.

هوامش:
– حسن بحراوي: النمر الفيتنامي، رواية، منشورات سليكي أخوين، طنجة 2016.
– الكتابة والسلطة، تنسيق عبد الله بريمي وآخرين، دار كنوز المعرفة، عمان2015، ص11.
– Bernard Lahire : Franz Kafka éléments pour une théorie de la production littéraire, Editions La Découverte, Paris, 2010, p.577-578.
– جيسي ماتز: تطور الرواية الحديثة، ترجمة لطيفة الدليمي، دار المدى، بيروت 2016، ص325.
– إدريس الخضراوي: سرديات الأمة: تخييل التاريخ وثقافة الذاكرة في الرواية المغربية المعاصرة، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء2017، ص24.
– سلوى السعداوي: قراءات في نصوص سردية، مركز النشر الجامعي، تونس2015، ص176.
– يمنى العيد: تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي، دار الفارابي، بيروت2010، ص144.


الكاتب : إدريس الخضراوي

  

بتاريخ : 27/10/2017

أخبار مرتبطة

  بالنسبة لقارئ غير دروب بالمسافات التي قطعها الشعر المغربي الحديث، فإنّه سيتجشم بعض العناء في تلقّي متن القصائد الّتي

« القصة القصيرة الجيدة تنتزعني من نفسي ثم تعيدني إليها بصعوبة ، لأن مقياسي قد تغير ، ولم أعد مرتاحا

«هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟» مجموعة قصصية جديدة   «هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟»هي المجموعة القصصية الثالثة لمحمد برادة، بعد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *