في الملتقى الثاني لتجليات الفكر المغاربي: أكاديميون يقاربون واقع السيوسولوجيا المغاربية وعوائقها

نظم مختبر السيميائيات وتحليل الخطابات الأدبية والفنية بنمسيك _ البيضاء، بشراكة مع المركز الثقافي لعين حرودة، الملتقى الثاني حول تجليات الفكر المغاربي، تحت عنوان:»علم الاجتماع في بلدان المغرب العربي: الواقع والمعيقات»، وقد أجمعت كلمات الجهات المنظمة (مدير مختبر السيميائيات بكلية آداب بنمسيك؛ ومدير المركب الثقافي عين حرودة؛ وجهة الدار البيضاء سطات؛ والمجلس البلدي)، على ضرورة وأهمية التفكير في مساءلة منجزات المقاربات السوسيولوجية في واقع استثنائي يفرض فهما عميقا للبنيات المحايثة والمتعالية التي تكمن خلف بروز مختلف الظواهر الاجتماعية المهددة للتعايش السلمي، والتنمية، والانخراط الفعلي في التحديث اللازم لتطور المجتمعات..

انطلقت الجلسة العلمية الأولى التي ترأسها ذ.عبد القادر عيساويبمداخلة رئيسىة قدمها د.عبد الباقي بلفقيه (جامعة الحسن الثاني) الموسومة بـ»ممارسة السوسيولوجيا بالمغرب بين السياسي والاجتماعي» حيث استهلهابمعالجة وضع السوسيولوجيا بالمغرب! الذي عده لم يعد خاضعا لصيغة المفرد المغرضة؛ وذلكنظرا لتصدعهإلى تخصصات قطاعية، بسببتعالقه مع باقي الحقول المعرفية الأخرى، والتي يصعب على السوسيولوجيا اليوم تحاشيها، وفي مقدمتها العلاقة بالأنتروبولوجيا، لتطويق التنوع الهائل للتجارب الجماعية. مؤكدا أن ذلك دفعهنحو مقاربة وضع السوسيولوجيا بصيغة المتعدد: السوسيولوجيات، مؤكدا أن صيغة المفرد خادعة، إذ في حركة المعرفة، كما هو الأمر في حركة الحياة، كل الأشياء تطرح نفسها بصيغة المتعدد. فوحدة المفرد نهج النظام الشمولي الذي قد يكون إقبارا للمعرفة. وأن رفضنا للدغمائية واحتياطنا أمام الأنساق النظرية المنمقة بإفراط ينتج عن هذه الملاحظة الأولى.وقد تكون مهمة صعبة ومستحيلةتقريبا، فأن يدعي الباحث أنه بمكنته استخلاص نتائج من نقاشات متفتقة الأفكار، منفقعة وساطعة في الآن نفسه، ليس بمكنته إنجاز تقرير حول معرفة ما،كما لو كان الأمر يتعلق بإنجاز حسابات مقاولة تجارية.» كما أشار إلى أنه بحكم اهتمامه بالحقلين: السوسيولوجي والأنتروبولوجي، سيحاول تعزيز هذه الملاحظة وصياغة اعتبارات ذات صبغة شخصية تقارب الممارسة السوسيولوجية بالمغرب بالرجوع إلى مراحل تنامي المعرفة السوسيولوجية من خلال نظرياتها وتياراتها المتعاقبة، مؤكدا أن هذا التنوع الغني قد يؤول من قبل البعض باعتباره أزمة..
إن غموض الموقف السوسيولوجي له أسباب تشير هذه المداخلة إلى البعض منها. وهناك أسباب أخرى تتعلق باستعمال نتائج عمل السوسيولوجيين. إذ كل ما يبحث فيه السوسيولوجي يمكن تأويله وترجمته سياسيا، وبطريقة فورية. إن ما ينتج عن نشاط السوسيولوجي يمكن استعماله، مباشرة، ومن دون كبير عناء، وتحويله إلى إجراءات تقنية. إن التطبيقات تنفلت من المراقبة الفعلية، لأنها ليست بتكنولوجيا، ولكنها فقط اختيارات فردية وجماعية. اختيارات سياسية وانعطافات إيديولوجية. ففي التبادل القائم بين المجتمع والسوسيولوجيين،لا يدرك السوسيولوجيون، بما فيه الكفاية، ما هو ناتج عن الملاحظة وما هو من قبيل اختياراتهم إلا وسائل ممارسة حرفتهم وانبساطهم، عرضيا، لكونهم مرغوب فيهم. وهذه تجارة عمياء.
إن هذا التوصيف العريض الواسع-يضيف الباحث- لا يهدف إلى تغذية أزمة السوسيولوجيا بالمغرب. إذ يمكن استخراج أدلة تفضي إلى العكس. وبالإجمال، فالعمل السوسيولوجي بالمغرب لم يتوفر له شرط الاستقلال لكي ينتظم في شكل مهنة. وهذا معروف.
ويرى، في الأخير،أن العشرين سنة الأخيرة، وتحت تأثير التحولات الطارئة في المجتمعات، ومع حركة المعرفة، خضع السوسيولوجيون والأنتربولوجيون إلى ترددات جديدة. مؤكدا أن تلك التي أصابت المواقع النظرية كانت الأكثر وقعا. فبعد زمن الإسهامات المؤسسة للممارسة السوسيولوجية بالمغرب، والتي تم تقييمها، أحيانا، تحت تأثير وهم جعل تغيرات القاموس السوسيولوجي إسهاما في تشييد نظريات جديدة. وبعد فترة الاستهلاك تحت تأثير الموضات، بدأ التآكل، بفعل الاستعمال والتقادم، يصيب عمل المنصهرين في الحقل، فتضاءلت الطموحات لصالح معرفة واضحة لحدود المعرفة السوسيولوجية وتقويم المكونات الأيديولوجية. ونتج عن هذا تراجع عن كبريات النظريات المفسرة، وعن الإيديولوجيات التي تعوض الواقع بالمظهر. فحدت الاقتراحات النظرية من اشتغاليتها وحضورها، وبدت متقلصة في أعمال فردية، وبدت طريقة أخرى للنظر إلى المجتمعات تظهر. ومن ثمة سيبدو المجتمع أقل انسجاما ووحدة، وأكثر انصهارا في البحث المستمر عن الوحدة، غير عابث بضرورة إنتاج المجتمع وأكثر انصياعا لضروراته؛وسيضعف توجه مجتمع الحتميات، وينمو توجه مفاده أن المجتمع حامل لإمكانات مستقبلية ممكنة..
وقدم د.عبد المجيد الجهاد من جامعة الحسن الثاني المداخلة الثانية تخت عنوان «نحن وابن خلدون: من أجل مقاربة نسقية لواقعنا الاجتماعي؛» عدَّ فيها السوسيولوجيا المغاربية في مفترق الطرق اليوم: بين إكراه التواصل مع ماضيها الثقافي، من جهة، وبين متطلبات الانفتاح على المنجز الحضاري الغربي. ومن ثم، تنبع الحاجة إلى إعادة قراءة الإرث الفكري لابن خلدون باعتباره مطلبا ضروريا، اعتبارا لقيمته التاريخية والمعرفية. وهي خطوة تبدو لازمة في عملية التعرف على هذا التراث، بعيداً عن تبجيل هذه الذات أو تجريحها، أي بالتزام مسافة موضوعية بيننا وبينه، من أجل تكوين وعي تاريخي جديد بأساسيات الثقافة العربية، والتي تشكل مقدمة ابن خلدون أحد العناصر البانية لها.
كما تحدث الباحث عن كون العودة إلى ابن خلدون ليس الهدف منها تلمس حلول ممكنة لقضايا معاصرة، بل إعمال النظر في ما فكر فيه ابن خلدون ولم يتأت له إنجازه. وهذا لا يعني أن نقطع مع فكر الرجل ما دام أن شروط التجاوز لم تتوفر بعد، بل أن نستأنف التفكير في ما فكر فيه ابن خلدون ولم يجرؤ على تحقيقه، أو لم يسعفه الوقت لإتمامه.
وتطرق د.عبد الرحيم جيران (جامعة عبد المالك السعدي) في مداخلته»حدود المقاربة النصية السوسيولوجية» إلى موضوع ممارسة السوسيولوجيا الأدبية بالمغرب، ومهد له بالحديث عن المجتمع النصي، وكيف يؤثر هذا المجتمع من جهة في الاختيارات المعرفية وصياغة توجهاتها، وكيف ينعكس الصراع فيه على طبيعة المعرفة السوسيولوجية، ثم انتقل بعد ذلك إلى الحديث عن علم السوسيولوجيا وموضوعه. وتناول في صدد مسألة السوسيولوجيا الأدبية بالمغرب مسألة كونها لم تكن سوى ظاهرة عارضة وطارئة ما أن بدأت انتهت، وقد بيّن في خضم ذلك أن ممارسة هذه السوسيولوجيا كانت تفتقر إلى الفهم العميق الذي يتأسس على ضبط الإبستمولوجيا المتحكمة في الدرس السوسيولوجي الأدبي. واتخذ من بعض المفاهيم المتداولة مثالا لإظهار مدى تهافت هذه الممارسة، وأشار في نهاية مداخلته إلى أن هذه السوسيولوجيا الأدبية كانت انتقائية، ولم تستطع تجاوز البنيوية التكوينية إلى غيرها من التوجاهات المغايرة.
وقد ترأس الجلسة المسائية د. رشيد الإدريسي، الذي أعطى الكلمة في البداية للدكتور أحمد الصادقي (جامعة محمد الخامس) الذي سعى من خلال مداخلته الموسومة بـ»التنمية ومجتمع المعرفة في السوسيولوجيا المغاربية» إلى رصد عدد من المعيقات التي تحول دون قيامها كعلم، وكذلك مجموعة من الحلول التي قدمها السسيولوجيون المغاربيون لتجاوزها على اعتبار أنها سسيولوجيا تتسم بطابع تفاؤلي. وكانت أول محاولة هي بذل الجهود من أجل نزع  الطابع الاستعماري عن مفاهيمها ومنهجها واختيار موضوعاتها. إلا أن هذا الطابع الاستعماري ظل قائما في المؤسسات الاجتماعية بدرجات متفاوتة في البلدان المغاربية. وهو أمر سيربط السسيولوجيا بالالتزام السياسي وبالنضال بدرجات متفاوتة أيضا. غير أن هذا لم يدم طويلا، إذ رأينا عددا من السسيولوجيين قد تحولوا إلى خبراء، يعني انتقالهم من الدراسة السسيولوجية إلى خدمة مجتمع المعرفة الذي هو في الأصل يختزل الإنسان في المعلومة، ومن ثمة في الباراديغم السيبرنيتقي– البيوتقني الذي يتجاوز الفعل السياسي بقصد تأسيس آلة تحكم العالم وتوحده «عقلانيا» في العولمة، وهي عقلانية غير إنسانية، إذ أن ما يهمها من الإنسان ليس هو رأيه المؤسس للديمقراطية وإنما هو شفرته الجينبة من أجل التحكم فيه اقتصاديا. ومن هنا الحديث عن مجتمع المعلومة ومجتمع المعرفة واقتصاد المعرفة والاقتصاد المعرفي ومجتمع المجازفة وعلاقة هذا الأخير بالخطر وبالتأمين والمراقبة، إلخ، وهي قضايا حللها الصادقي في مداخلته.
وعند حديثه عن النظريات السسيولوجية بين الفرق بين النظريات ذات الطابع الشمولي  والنظريات الخاصة والوسيطية، وقدم أمثلة على ذلك. أهم هذه الأمثلة يتعلق بمفهوم التنمية. فبعد أن كانت قضية التنمية تطرح أسئلة كبرى تتعلق بمشاريع كبرى وهذا ضمن النظريات الكبرى التي آلت إلى استنزاف الثروات الطبيعية استنزافا نشهد اليوم نتائجه المتمثلة في الكوارث الطبيعية المتعددة ، صار الباحثون يتحدثون عن التنمية المستدامة. ويرى الباحث أن هذه التنمية هي السبيل الوحيد اليوم للمحافظة على الطبيعة وعلى الإنسان، لأنها أولا تنمية لا تتجه نحو صناعة أسلحة للدمار، وإنما هي في العمق تسعى إلى تلبية الحاجيات الإنسانية في الوقت الذي تزيد في تنمية الثروات الطبيعية نفسها. والدليل على ذلك هو عملها على الطاقات المتجددة ،الخ.
وانطلق د.رشيد بن السيد (جامعة ابن طفيل) في مداخلته: «في سوسيولوجيا الدين: قراءة في أعمال عبد المجيد الشرفي» من ارتفاع أصوات كثيرة للدعوة إلى مقاربة جديدة للظاهرة الدينية في تونس اليوم، و لاشك أن السبب في ذلك يرجع إلى تاريخها المطبوع بحوار ممتد في الزمان مع أوروبا ومع حسها النقدي. تطفو مجموعة من الأسماء على السطح، يتميز من بينها الأستاذ محمد الطالبي وهو مؤرخ ورئيس سابق لجامعة تونس، والأستاذ هشام جعيط ومحمد الشرفي وكذا عبد المجيد الشرفي.وقد عمل الأستاذ عبد المجيد الشرفي على السير في الخط الفكري الذي رسمه هذا التيار الفكري المجدد، فقد قام بفحص نقدي شمولي للمصادر الدينية، واضعا إياها على محك النقد التاريخي، كما يضع علامة استفهام جذرية على تأويلات أجيال المسلمين الأولى. ويدعو إلى القيام بقراءة غائية للقرآن، وينتقد الطابع المؤسساتي الذي خلعه القدماء على الدين. فهو يبحث عن إعداد رؤية جديدة حديثة تدمج الوعي الإسلامي بصورة مباشرة داخل حقبته المعاصرة بفضل السعي إلى ممارسة الاجتهاد بالمعنى الكامل للكلمة. ويؤكد الباحث أن هاجس ع. المجيد الشرفي كان يتمثل، بوجه خاص، في التماس تعاليم الرسالة النبوية خارج التقاليد الموروثة التي عملت على تأويلها وصياغتها. ويمكن القول إن مفهوم المأسسة هو مفهوم مركزي لفهم مشروع الشرفي، فبواسطة هذا المفهوم يمكن تلخيص منظور الشرفي للدين إلى ما قبل المأسسة وما بعدها؛ حيث يشير الماقبل إلى الخطاب السماوي، إلى الرسالة، أي إلى النداء الخالد.. إن الدين الممأسس يحيل إلى وضع تأويلي لاحق يصير فيه الخطاب السماوي مشروطا بأوضاع اجتماعية وجدليات ثقافية وسياسية. وعليه فالأول يشير إلى المستوى الروحي من الدين: المستوى المتعالي. أما الدين الممأسس فيشير إلى الدين وقد صار ثبوتية تتشاكل مع معطيات التاريخ والسياسة وشروط التنظيم والضبط الاجتماعي والسياسي. فإذن هو يشير إلى التاريخي والنسبي.ومن هذه الزاوية يمكن قراءة المشروع الذي أشرف عليه الشرفي ضمن سلسة إسلام واحد أم إسلامات متعددة:بالمعنى الأول الإسلام واحد، من حيث هو دعوة وجودية ونداء قيمي نحو ضمير الإنسان، أو لنقل هو في الآن ذاته إسلامات متعددة بالنظر إلى التحامه بمحددات جيوثقافية واجتماعية: الإسلام السني والشيعي والأسيوي والإفريقي الزنجي، والشعبي؛ أو التحامه بالأرضيات المعرفية التي يتم تأويل حقيقته انطلاقا منها: إسلام المتكلمين، وإسلام المتصوفة، وإسلام الفلاسفة، وإسلام الفقهاء، وإسلام المصلحين، وإسلام المجددين..الثقافي والإلهي، المطلق المحايث والمشروط. الأول ضد الثاني.
أما المداخلة الأخيرة فقد كانت للدكتور عبد اللطيف محفوظ وحملت عنوان» وضع سوسيولوجيا الأدب في النقد المغاربي» والتي استهلها بتقديم السمات الأساس التي وصفت بدايات النقد المغاربي، الذي كان أكثر ميلا إلى انطباعية متشربة لتقاليد النقد التقليدي، ومتراوحة بين إصدار الأحكام النقدية التي تحاسب النصوص، وبين إنتاج خطاب تقرظها، مع كون النمطين مسكونين بهاجس تكريس القيم الجمالية والثقافية الموروثة.. معتبرا أن نهاية هذه المرحلة وبداية مرحلة الانطلاق الفعلي للنقد في النصف الثاني من القرن العشرين، بخاصة في السبعينيات وبداية الثمانينيات، تميزت بالانحياز إلى بعض استبدالات النقد السوسيولوجي، وبخاصة البنيوية التكوينية. وقد توقف كثيرا عند الدوافع التي حدت بالنقاد إلى اختيار المقاربة السوسيولوجية، من بين مجمل المقاربات الهامة التي كانت قد تبلورت في النقد الغربي : )البويطيقا والسيميائيات والموضوعاتية والتفكيكية..(، وبين أن ذلك الانحياز كان أيديولوجيا ناتجا عن آثار النكسة، ورغبة النقد في لعب دور سياسي.. ثم انتقل في الأخير إلى إظهار شكل تمثل هذا النقد للنظرية، متوقفا عند العديد من الهنات المنهجية والإدراكية..
وقد تلت عروض السادة الأساتذة، مداخلات ونقاشات عميقة أغنت الندوة، ساهم فيها عدد من السادة الأساتذة من المغرب والجزائر الشقيقة، وطلبة باحثين قدموا من مدن مختلفة.


الكاتب : محمد العناز- خاص-

  

بتاريخ : 02/11/2017

أخبار مرتبطة

  أين تبدأ الحياة والموت؟ وماهو الحدث الأصلي بينهما؟ ما موقع الحب في حياة الإنسان المهددة بالموت في كل حين؟

تم، يوم الأحد 12 ماي الجاري بالرباط، وفي إطار الدورة الـ 29 للمعرض الدولي للنشر والكتاب بالرباط، عرض الأعمال الأدبية

شكلت العلاقة بين «الرواية وعلم النفس»، موضوع ندوة علمية خلال اليوم الأول 10 ماي من فعاليات معرض الكتاب بالرباط، العراق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *