قصة … أمي نانا … تعود بجرة عسل و سمن

في دفتر الرسم ترسمين وردة…
خذي الألوان الزاهية . لا . أقصد الألوان الباردة . حاولي أن تبعثري دفقات شعورك على هذا البياض . لا تخجلي ، فالإبداع قطعة من دهشة ، يليها انتحار .
كانت صغيرتي الهاوية و العاشقة لرعشة الوجود ، تجلس أمامي . وتملأ مَرْسمها بألوان الطيف .أحمر . أزرق . أصفر . وأخضر.
أطالت بُرعم الوردة حتى انتصف الورقة . لا . هذا طويل جدا … مسحت الابداع ، وأعادت الكرَّةَ من جديد. فإلى سلة المهملات ، إذن ، بالأوراق المعجونة تعج . بالمحاولات الفاشلة تطفح .
حذاري من الإطار ! فللصورة و الرسم إطار و دعامة ؛ دعامتك صور شاردة هاربة تصارع الضوء ، تنفلت من عِقال و تغوص في عتْمة . شجرة في ضوء أو ضوء في شجرة. أخذت عزيزتي الأقلام كلها ، قربت رؤوسها من البياض . رسمت جذع شجرة ، أصلها ثابت ، وفي السماء فرعها ، بها المقام يعلو و يعلو ….
نظرت إلي وقالت :
ـ صفصافة ، إذن . لا. كلبتوس … تحط فوقها أغربة ، تبني أعشاشها القديمة ، تعلمنا أبجديات الكلام و الدفن.
ـ متى ستزهر الصفصافة؟
أجبتها : عندما تعود أمي نانا بجرة عسل و سمن .
تطل نانا من الربوة ، تقطع أحواض النعناع والبتولة الطرية ، مختالة في قميصها الأرجواني المشدود على خاصرتها ؛ أقدامها تغوص و تغوص في وحل طيني . عيونها خفيضة . تسرع . وتسرع.
قلت لها :
ـ اُرسمي لحاء الصفصافة . يقيها من ندى الأنداء .
وضعت الأقلام جانبا ، أخذت اللبد وغطت الساق بطبقات من لحاء ملون . وقالت : الآن … سيلهو بيل بفروه الأبيض الناصع كالثلج ، سيخمش بأظافره … هذا اللحاء .
أكيد ستسمع له عرينا و عواء وصهيلا ، أغان كلها تعرفني.
على الورق الأبيض وضعت الألوان ، خربشت زرقة السماء ؛ خطوطا مائلة و أخرى أفقية. مع إشراقة أمل ، وفي مهب الريح تسافر غيمة يتيمة … شمسٌ صفراءُ تطل خجولة ، شمس في يوم غائم .
آه ! لم أرسم لها تلك الإبتسامة المدموغة في تاريخ الفن الإنساني ، تشبه بسْمة ، تشبه قفْزة تقفز ، و تقفز ؛ إنها الموناليزا . أخذت اللون الأصفر ودَرَجتِ الفم بعناية .
الفم مَزْموم ، لا يتكلم ، لا يبتسم ، ينحي … كالبَرَد تطل منه أسنانٌ بيضاءُ … لعاب يسيل ويسيل … قُطيرات رُضابية لطَّخت صفاء الورقة و زرقة السماء.
يدَّائية هذه الفتاة ، صَبَويّة ، تعبث بأناملها فوق القماش … تنشر الصباغة على اليمين وعلى اليسار. فوق الصفصافة ، لازالت الشمس منتصبة و مبتسمة . حط فوقها سرب من القطا ، نشر أجنحته البنية الهلالية ؛ كي يغازل بها أشعة الشمس.
من على الصفصافة أرسلت القَطَوَاتُ ألحانا عذبة في سمفونية واحدة ، في جدب واحد ، في نفس أوحد.
لونت الحروف الموسيقية المتماوجة في سدى من الخطوط ، تشبه الدعامة .
قالت : الحرف الأول فـــــــــَــــــــــــا …
اِهتز السَّدَى كأوتار الرَّباب .
على إيقاع رقصات أسراب القطا ، تتبادل الأمكنة و الأزمنة .
قلت لها: لم تعجبني رقصة تراسل الأمكنة هذه .
فالقطا طائر هجير، لا يرسو إلا بأرض بها ماءٌ و عشبٌ و هواءٌ جديد .
جذور هذه الصفصافة ، إذن ، لن تتحمل أسراب القطا المهاجرة.
قالت : الحرف الثاني سـِـــــــــــــــــي …
إذا ما هاجرت أسراب القطا ؛
يتغير لون السماء … يصير أرجوانيا.
تتزاحم في الضوء، وفي السراب تنشر أجنحتها البنية . وتعود من شموخ و سُموق الأعالي ؛ لتقتات من فتات أطعمة فاسدة ، أهملتها أمي نانا في صحونها البالية.
اٌرسمي لها صحونا قشيبة … واملئي لها كل الأقداح بالماء الزلال .
وضعيها في الظل الظليل… تتنعَّم فيْـئا.
قالت : الحرف الثالث ـــــــــــــــلا…
عندما تعود أمي نانا ، ذات العيون الخفيضة ، تكون الساقية قد يبِسَتْ من الماء . وبعض شجيرات الدفلى المربوطة جنب الدار ، قد أوشكت على الكساد . تدلت منها الأوراق الصفراء و السيقان الخاوية ؛ فأصبحت مشتلا لمختلِف ألوان الحشرات ، التي تعشق اليُبْسَ و اليَبَابَ. تقلب أمي نانا وجهها الشاحب في وشاح لهُدْب النجوم ، تتوضأ بِعَبير ريَّاها ، وتقتفي أثر أسراب القطا المهاجرة ، تاركة لها رسائلَ مشفَّرة لا تفهمها إلا أمي نانا .
أمي نانا تقطع الأحراش في مد البصر.
خياشيمها ذات المغاور الكُحْلية سكنت فيها ريحٌ شرقية مالحة . فوق الأثافي الخامدة و المعفرة رمادا ، وضعت أمي نانا وعاء نحاسيا تملأُ نصفه ماء ، ونصف الآخر تمزجه بحليب شاة وحيدة القرن . تترك الوعاء يتوشَّح صحنا سماويّا به إحدى عشْرة نجمة قطبية ، عند مطالع الضحى تخبو أضواؤها.
قلت : اُرسمي أمي نانا تتفقد تميمتها النحاسية ، المعلقة على صدر الصفصافة .
قلت : اُرسمي شمسا تظلل الشموس .
قالت وردتي: سأرسم في دفتر الرسم وردة . و سأرسم قَطَيَات عائدة إلى وُكُنَاتها ، وهي تحمل جِرارا من العسل والسمن .


الكاتب : ذ. رشيد سكري

  

بتاريخ : 14/04/2017