المجلس الأعلى للتربية و التكوين و البحث العلمي يفتح نافذة للتفكير .. : المدرسة و سؤال النموذج التنموي

فتح المجلس الأعلى للتربية و التكوين و البحث العلمي الأسبوع الماضي ، نافذة للتفكير حول أفق مدرسة العدالة الاجتماعية كتعبير ملموس عن فعالية النموذج التنموي المأمول ..سياق و ملحاحية هذه المراجعة الفكرية تجد سندها في الخطاب الملكي لافتتاح الدورة التشريعية لهذه السنة حيث دعا جلالة الملك إلى إعادة النظر في النموذج التنموي المغربي من أجل بناء نموذج بديل أكثر شمولا و إدماجا و عدلا .. نموذج قادر على إعادة خلق الرابط الاجتماعي الملازم لكل مجتمع عادل ..

 

التقرير الذي أعده المجلس الأعلى للتربية و التكوين و البحث العلمي هو مساهمة، من موقعه المؤسساتي، في تناول موضوع اختار له عنوان الفوارق الاجتماعية و علاقتها مع المدرسة .. وذلك وفاء للروح التي أطرت الرؤية الاستراتيجية 2015/2030 ، و التي توجد في مقدمة رهاناتها تحقيق المساواة و الإنصاف و الجودة و النهوض بالفرد و المجتمع و الظفر بالريادة على مستوى الحصيلة و النتائج …و في هذا الإطار ، اختار المجلس الأعلى أن يدبج مدخله إلى التفكير في ملامج النموذج التنموي بسؤال محوري لا يخلو من جرأة علمية : هل هناك تكافؤ أمام الاستحقاق ؟ .
بتلقائية و تبعا لمؤشرات ميدانية لعدد من دراساته النوعية ، يقر المجلس الأعلى بأن التلاميذ ليسوا متساوين اجتماعيا ، ذلك أن الأصل الاجتماعي له تأثير على تعلمات التلاميذ و على النجاح الدراسي ، و قد ركز تقرير المجلس الأعلى على الفوارق غير المشروعة و غير العادلة لما لها من تأثير على الاستحقاق .. و تبعا لهذه المقاربة يرى المجلس أن المغرب أحرز خلال العقدين الماضيين تقدما كبيرا على مستوى الأوراش الاقتصادية الكبرى ، كما حقق مكتسبات على المستوى السياسي و الحقوقي ، و في هذا الصدد شكل دستور 2011 نقطة تحول حاسمة في البناء الديمقراطي ، و هو الدستور الذي يشكل اليوم – حسب توصيف المجلس الأعلى – عقدا اجتماعيا جديدا ، يتطلب بالضرورة تعاقدات جديدة بين الدولة و المجتمع … لكن بالرغم من هذا التحول الإيجابي في مسار البلاد ، يقر المجلس الأعلى بأن المجتمع المغربي يعرف فوارق اجتماعية مؤكدة يستتبعها بالضرورة نقص في الرفاه الاجتماعي لغالبية المواطنين ، تشهد على ذلك تقارير مشهود بجديتها و حياديتها ومنها تقرير التنمية البشرية لسنة 2016 لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي PNUD ، حيث تقدر الخسائر في التنمية للمغرب بسبب الفوارق سنة 2015 ب 45.8% و هي نسبة تفوق بكثير نسب الخسائر التي تتسبب فيها باقي مكونات التنمية البشرية كالصحة 16% و الدخل 23 % . !!.
بناء على هذه المؤشرات التي تضعف تنافسية المغرب ، يتساءل المجلس الأعلى : هل نظامنا التربوي يساهم في الحد من الفوارق و يتيح إمكانية تحقيق العدالة الاجتماعية ؟ و فيما يشبه الاستفهام الإنكاري ، يطرح المجلس سؤالا موازيا هل المدرسة تساهم من جهتها في إعادة إنتاج الفوارق الاجتماعية ، بل في تضخمها ؟ من منطلق أن الظروف الاجتماعية و الاقتصادية تتدخل بالضرورة في المدرسة .. فكيف يمكن التخفيف من أثار الفوارق المدرسية لتكون التربية – حسب رهانات المجلس – وسيلة للتحرر و الحركة الاجتماعية ، و بالتالي يمكن أن يصبح الاستحقاق الفردي محددا للنجاح و لأداءات التلاميذ ؟

من الفوارق الاجتماعية إلى الفوارق الدراسية ..
برأي المجلس ، يصل التلاميذ إلى المدرسة و هم غير متساوين من حيث وضعهم الاجتماعي و رصيدهم الثقافي ، ذلك أن الرأسمال التربوي و الثقافي للأسرة هو ما يحدد الفوارق بين إنجازات التلاميذ المدرسية و ربما أكثر من دخل الوالدين ، و وفق دراسة PNEA سنة 2016 ، يمثل أثر ما يحمله التلميذ معه ، عند ولوجه إلى المدرسة ، من إرث اجتماعي 80% بالمقارنة مع أثر المؤسسة التعليمية الذي لا يتعدى 20 % ، كما يؤثر المستوى التربوي و الثقافي للآباء في النتائج الدراسية للتلاميذ ، من منطلق أن ثلث الآباء و 52 % من الأمهات لم يسبق لهم أن ولجوا المدرسة . بالمقابل يبقى التلاميذ الذين يتوفر أباؤهم على مستوى تعليمي عال هم الأفضل أداء في اللغة الفرنسية و الرياضيات .. ينضاف إلى هذه الفوارق المتربطة بالوضع السوسيو ثقافي للأسرة ، الفوارق الترابية و أساسا الفوارق المجالية بين الوسط الحضري و القروي .. بالإضافة إلى تراتبية النظامين العمومي و الخصوصي ، و هي فوارق فعلية لها تأثير على مستوى التمثلات و القيمة التي يمنحها المجتمع لكل منهما مما يؤدي إلى الميز و عدم الاختلاط الاجتماعيين “ségrégation sociale

من الفوارق الدراسية إلى الفوارق الاجتماعية المتضخمة
أهم ما سجلته وثيقة المجلس الأعلى للتربية و التكوين و البحث العلمي على هذا المستوى أن الانقطاع عن الدراسة يقع بفعل الفوارق الاجتماعية و فشل نظام التوجيه و الصعوبات التي ترافق تصنيف الفئات التي توجد في مرحلة التمدرس ” غير متمدرس ” و ” غير متدرب” و ” غير مشتغل” ، هذا إلى جانب الإقرار الصريح من طرف المجلس بصعوبة إدماج الأطفال في وضعية إعاقة … نفس الأمر ينسحب على التعليم العالي الذي تطاله كذلك الفوارق ، حيث يتميز في الوقت الراهن بتعدد أنظمته و خصوصا النظام المزدوج المراتب : الاستقطاب المفتوح و الاستقطاب المحدود ، وهذا ما ينتقص من نظام الاستقطاب المفتوح في سوق الشغل . و تبعا لاستنتاجات المجلس الأعلى ، فإن الفوارق في النجاح الدراسي بين جماعات التلاميذ تترتب عنه حدود أمام مبدأ الاستحقاق الذي يجب أن يكون أساس لكل نظام تعليمي ، و ذلك بفعل وجود آليات الاستبعاد و تضخم التفاوتات .. و في تقديره فإن كلفة الفوارق الاجتماعية للمدرسة ، و المتمثلة أساسا في الانقطاع المدرسي و تبعاته الاجتماعية ، جد مكلفة من الناحية الاقتصادية بالنظر للهدر المالي الكبير الذي يكلف ميزانية الدولة ، إلى جانب الترتيب المتدني للبلاد من حيث مؤشرات التنمية البشرية ..

فك الارتباط بين الفوارق الاجتماعية و المدرسية
يضع المجلس الأعلى أهدافا محددة للحد من هذه الفوارق ، و منها أساسا التخلص من الأمية ، و هو هدف ضروري و ممكن بنظر المجلس ، ويستدل على ذلك بتجربة المغرب في مجال تعميم التعليم الابتدائي في عشرية و احدة ، حيث تبين أن هذا الطموح واقعي ، إذا ما تم اعتبار قضية التعليم قضية وطنية ذات أولوية … و يتطلب التخلص من الأمية بحسب المجلس ، تجفيف منابعها بجعل التربية الإجبارية من 4 إلى 15 سنة فعلية ، و يؤكد المجلس في هذا الصدد على ضرورة استهداف الفتيات القرويات و الأطفال بضواحي المدن و المناطق التي تعاني من العجز إلى جانب الأطفال و الشباب الذين يوجدون في وضعية إعاقة و الذين يواجهون صعوبات أو انقطعوا عن الدراسة . ثاني الأهداف التي رسمها المجلس الأعلى لتجاوز معيقات الفوارق الاجتماعية ، هي توسيع و تحسين نجاعة نظام الدعم الاجتماعي على مستوى المؤسسات التعليمية في المناطق القروية و الجبلية و ضواحي المدن و في المؤسسات ذات الإنجازات الضعيفة من أجل فك الارتباط بين الأصول الاجتماعية للتلاميذ و نتائجهم الدراسية ، كما يؤكد المجلس على إدارج إجراءات التمييز الإيجابي ضمن مقاربة الوقاية مع التأكيد على التتبع و التقييم المستمرين لبرامج الدعم من أجل عدم إهمال أي طفل … و يشدد المجلس الأعلى على أن مدخل الشراكة بين السلطات المحلية و الجماعات الترابية و القطاع الخاص و الفاعلين الجمعويين أساسي جدا لبناء النسيج الاجتماعي و الترابي للقرب .
تربية جيدة للجميع مدخل حاسم لمحاربة الفوارق الدراسية
يؤكد المجلس الأعلى في هذا الصدد على الأولوية لتعليم إجباري منصف و ذي جودة مع الاحتفاظ بجميع التلاميذ في المدرسة و ذلك عبر محاربة الرسوب و الانقطاع المبكر عن الدراسة و التمكن من الكفايات المطلوبة . و يتطلب الاحتفاظ بالتلاميذ – برأي المجلس – تبني مقاربة وقائية فردية ، تستهدف التلاميذ و المؤسسات المعرضة للخطر ، و باعتماد استراتيجية فارقية ( différenciée ) مع تكوين المدرسين التكوين الملائم في مجال البيداغوجيا الفارقية .. و لتثمين النتائج على المستوى ، يؤكد المجلس الأعلى على تقديم الدعم المدرسي داخل المؤسسات المعرضة للخطر عبر بنيات للوساطة النفسية و الاجتماعية .. مع منح كل تلميذ الوسائل الضرورية لاكتساب قاعدة مشتركة من المعارف و الكفايات و الثقافية و المهارات الحياتية و الدراسية الكفيلة بتمكنه من متابعة الدراسة و بناء مستقبله الشخصي و المهني و المواطني … و لتوسيع العرض المدرسي ، يقترح المجلس الأعلى اعتماد مبدأ الانفتاح و المرونة و الحركية عبر جسور تقام بين مختلف مستويات التعليم العام ( التأهيلي و العالي ) و باقي مستويات التكوين المهني ..بالإضافة إلى خلق المزيد من مسالك التكوين و تنويعها ،و تقوية التمفصل بين التكوينات النظرية و التكوينات العملية مع إرساء نظام للمصادقة على الكفايات المهنية المكتسبة لفائدة الراغبين في متابعة دراستهم ..
نفس الطموح ينبغي أن يطال التعليم العالي ، حيث يؤكد المجلس الأعلى على ضرورة تنويع نماذج مؤسسات التعليم العالي ذات الاستقطاب المفتوح و تدقيق أصنافها ، و توحيد معايير و لوجها و تطوير قدراتها الاستيعابية ، و الحرص على تأمين أحسن مردودية لمسالك التعليم العالي في مؤسسات الاستقطاب المفتوح ، و الرفع من صورته و تثمين عرضه التكويني و تحسين جودة تدريس لجميع المواد بدون استثناء ..
كل هذه التدابير ” العلاجية ” لتحقيق العدالة المدرسية ـ يتطلب – برأي المجلس الأعلى – إقرار توازن بين صلاحيات السلطة المركزية و الصلاحيات المخولة على المستوى المحلي مع تعزيز سلطة القرار داخل المدرسة و لرئيس المؤسسة .. و لتدعيم هذا الأفق الإصلاحي لنظام الحكامة ، يرى المجلس الأعلى أن النظام التربوي يتوقف على دعامتين أولها التحديد الدقيق و الشفاف للمسؤوليات كل الفاعلين و ثانيها ترسيخ ثقافة التقييم و بالأخص تقييم التعلمات ..

الاستثمار في الرأسمال البشري
لكي يلتحق المغرب بصف البلدان الصاعدة و من أجل خلق فرص التموقع بواسطة الرأسمال البشري ، يشدد المجلس الأعلى على بناء قدرات الفرد ) capabilité ) الذي هو أساس و شرط التنمية البشرية و المستدامة ، ذلك أن التربية تعتبر البعد المحوري للأبعاد الأخرى التي تنبني القدرات .. لكن تنمية الرأسمال البشري لا يمكن أن تكون ، بنظر المجلس، إلا بواسطة تربية تقوم على أركان العادلة الثلاثية الأبعاد : عدالة لغوية ، عدالة معرفية مع حق الأطفال في الثقافة ،و العدالة الرقمية من خلال معالجة التفاوتات و الولوج عبر الرقمي إلى تربية ذات جودة للجميع .
إن الفجوة الداخلية و الخارجية ( مقارنة مع البلدان المتقدمة ) على مستوى هذه الأبعاد الثلاث للعدالة تدعو برأي المجلس إلى تفكير استشرافي من أجل إرسائها في التربية و في النموذج الجديد للتنمية البشرية المستدامة . .
و في سابقة جريئة ، و هذا إقرار الرسمي لمؤسسة دستورية ، يرى المجلس الأعلى أن النقص في التربية يكبح زخم الحركية الاجتماعية الصاعدة ، و تجديد النخب لتوفير أساس ديمغرافي للنموذج التنموي ، لذلك يؤكد المجلس الأعلى للتعليم على ضرورة توسيع الطبقة الوسطى على أساس سكان مؤهلين و حاصلين على تعليم جيد يوفر للبلاد الكفاءات الضرورية و القادرة على إنجاز مشاريعها الكبرى ، بما في ذلك رهان الجهوية المتقدمة الذي يظل مرتبطا بتوفر نخب محلية قادرة على بلورة و تدبير مشاريع التنمية المتعددة الأبعاد .

وضع الرأسمال البشري في صميم النموذج التنموي :
يرى المجلس الأعلى للتربية و التكوين و البحث العلمي أن التربية و التكوين هي المدخل الأساسي من أجل استباق التحولات التي ستعرفها المهن ، لذلك تستلزم التغيرات المعرفية و الإبداعية و الاستدلال المنطقي و التعرف على المشكلات من أجل البحث عن حلول لها ، و التمكن من التواصل شفهيا و كتابة ، اكتساب هذه القدرات عن طريق التربية و التكوين .. لذلك ينبه المجلس الأعلى على أن فوارق النظام التربوي و نواقصه تبقى تربة غير مشجعة على الابتكار و البحث العلمي ، لذلك تبرز الهوة بين تفصل المغرب عن البلدان المتقدمة ، لذلك فإن استشراف مستقبل البلاد يتم بالضرورة عبر تنمية الرأسمال البشري من أجل الولوج لمجتمع و اقتصاد المعرفة . و يرى المجلس الأعلى أن مستوى الثقة الذي تحظى بها المدرسة العمومية من قبل غالبية المغاربة ، و الإجماع الحالي حول ضرورة الإصلاح و إمكاناته ، و تعدد المبادرات المواطنة لفائدة المدرسة ، كلها تشكل و سائل كفيلة بتحقيق طموح الجميع لمدرسة تكون محركا للارتقاء و مصدرا للتماسك الاجتماعي و الابتكار و التنمية الاقتصادية .


الكاتب : إعداد : منير الشرقي

  

بتاريخ : 31/01/2018