اللهم اجعله فيلما !!

 

غادر كثير من أفراد الجمهور قاعة سينما «روكسي»خلال عرض الفيلم الروائي الطويل «جاهلية» لهشام العسري يوم الثلاثاء 13 مارس الحالي، والمدرج ضمن المسابقة الرسمية في الدورة 19 للمهرجان الوطني للفيلم المنعقدة حاليا بمدينة طنجة.. وذلك لعدم تواصلهم معه وعدم استيعابهم لمضامينه وخطاباته المتعددة والشائكة والتي عبثا، حاولتُ شخصيا لملمة أطرافها وإيجاد خيط رابط فيما بينها.. وحتى بدون وجود هذا الخيط – على فرض أن المخرج السيناريست قصد ذلك – فإني أعترف أنني لم أفلح، رغم سلخ حوالي 30 سنة من عمري في محراب السينما مشاهدة، كتابة، تحليلا ونقدا… !! لذا التحقت بالوفد الذي فر من جحيم»الجاهلية»

1 – لا للشات
جاء في ملخص الفيلم الوارد في كاتلوغ المهرجان: «حكاية مجموعة من الشخصيات التي تعيش حدثا تاريخيا: إلغاء الاحتفال بعيد الأضحى سنة 1996. من بين هذه الشخوص لطفي، فاقد للذاكرة.. منير الذي ترفضه عائلة المرأة التي ينوي الزواج بها.. طفل حزين لا يفهم سبب هذا الإلغاء.. وشخص يريد الانتحار ويحتاج للمساعدة».
طبعا سيَرُد المخرج بالدرجة الأولى، أو أي مهتم: كيف لك أن تحاكم فيلما لم تشاهده كاملا؟ ثم إنك كناقد سينمائي المفروض فيك وعليك أن تلتزم بمقعدك حتى نهاية الفيلم لتستوعب خطابه أو خطاباته، حينذاك يمكنك مناقشته بموضوعية ودون تحامل.. كل هذا جائز وصحيح. لكن المشكل هو أنني لم أتواصل مع ثلاثة أرباع الساعة التي أهدرت من وقتي لأستمتع بمشاهدة فيلم مغربي حديث وأتواصل مع مراميه وكتابته السينمائية سواء كمتفرج عادي أو كناقد سينمائي.. ثم إن النقد سينمائي فن أمارسه بحب.. هو إبداع تابع لإبداع.. فما دام العمل الأول المرتبط به لم يمنح لي هو نفسه متعة الحب والتماهي مع الإبداع، فأي نقد موضوعي ولا حتى ذاتي سيترتب عن هذه العلاقة الحميمية والتاريخية بين المتن المنقود أيا كان: سينما، موسيقى، مسرح، تشكيل، أدب… والنقد؟
لذا، ليس فقط لأنني امتشقت إزميل النقد السينما لثلاثة عقود، فإن هذا يلوي ذراعي ويلصق خاصرتي غصبا عني على مقعد أجلد عليه ذهني وأرهق بصري كي أتواصل مع مجموعة صور متحركة لم يفلح صاحبها في تبليغي وتبليغ عدد كبير من الجمهور رسائلها.. هذا الجمهور الذي يتكون مجمل أفراده من سينمائيين بين مخرجين وممثلين وتقنيين ونقاد…؟ فما بالك بأفراد المتلقي العام الذي يؤدي ثمن التذكرة من جيبه ليدخل لمشاهدة هذا الفيلم السينمائي المغربي أو ذاك بالقاعة التجارية؟ فيساهم بماله الخاص في تمويل فيلم يتعالى عليه ولا يفهمه، باعتبار أن نسبة معينة من ثمن أية تذكرة يُضَخ في صندوق الدعم السينمائي المغربي؟ فهل يعقل أن نساهم ولو بقدر ضئيل في تمويل فيلم لا نفهمه ؟ ويحبل بعدد من اللقطات الإباحية وغير الموظفة، إذ لو كانت ذات وظيفة معينة في السياق الدرامي للأحداث لا يمكن الاستغناء عنها، لوجدنا تبريرا لتصويرها والإبقاء عليها في الفيلم.. منها على سبيل المثال:أول لقطة تستهل به «جاهلية» امرأة عارية يظهر طرفها العلوي وهي تمارس الجنس فوق شخص أو شيء ما؟ – هنا فوق الكاميرا – حيث يتدلى نهداها وهما في حالة حراك مستمر إلى أن تتوقف صاحبتهما ويخمد الهيجان، لتبدو في اللقطة التالية مستلقية على ظهرها عارية تماما، دون الكشف عن وجهها.. لكن جهازها التناسلي شبه مغطى برأس الممثل عبد المالك أخميس؟! ثم تبدأ أحداث أخرى أهم ما يربط بينها هو الشتات.. تتخللها مصطلحات سباب نابية.. والطفل الصغير (الحزين) – حوالي 10 سنوات – يتبول أمامنا – أمام الكاميرا – ما سكا بقضيبه هكذا عَلَنيا، أي بعبارة أخرى يتبول علينا…
فهل لكوني ناقد سينمائي يجب علي أن أتقبل أي منتوج سينمائي مغربي حتى وإن ضايقني ولحد الاستفزاز؟

2 – لا للجاهلية

إن عهد تحملنا للأفلام المغربية والتي أطلقنا عليها في مستهل ثمانينيات القرن الماضي نعت «التجريبية» قد ولى.. وتساهلنا مع مخرجيها بل وشجعناهم على الاستمرار من أجل تحصيل تراكم كمي فيلموغرافي كان ينقصنا في سبيل فرز تراكم كيفي طبعا.. ولعل أبرز مثال: أفلام مصطفى الدرقاوي الأولى والتي لم نكن نفهم كما يقال بالدارجة: «ساسها من راسها» وكانت كلها وكما يدل عنوان واحد منها: (أحداث بدون دلالة) و(أيام شهرزاد الجميلة) و(عنوان مؤقت) .. أضف إليه مخرجا أخرساهم في إخراج فيلم لم يفهمه إلا المهرجانيون بل ومنحوه الجائزة الأولى في الدورة 2 لهذا المهرجان بالدارالبيضاء ستة 1984.. والفيلم هو (حادة) والمخرج هو الشريكي التيجاني، وهو أصلا فنان تشكيلي تعاون مع زميل له هو محمد أبو الوقار في إخراج هذا الفيلم الذي طاله النسيان كليا ولم يخرج للقاعات السينمائية !
فبينما توقف أبو الوقار تماما عن إخراج الأفلام وعاد لمرسمه، استمر الشريكي التيجاني لينجز وفي نفس السياق التجريبي فيلم: (إيمير) في التسعينيات لم يفهمه أحد ولا عرض بالقاعات.. ثم في 2014 أخرج فيلم: (تصنت لعظامك) دون أي تغيير.. ولازال حتى الآن «يتصنت لعظامه» وكأن لا واحد منهما: أي لا المخرج ولا أفلامه، وجدا يوما برقعة السينما المغربية !! في حين أن مصطفى الدرقاوي وبفضل شراسة النقد التي واجهناه بها، غيّر وانتقل من التجريبي إلى الواقعي، فأخرج أفلاما نالت إعجاب الجمهور الواسع وشهدت إقبالا كبيرا في القاعات التجارية.. كما نالت وإلى حد ما، إعجاب الجمهور الخاص من مهرجانيين ومهتمين ونقاد.. وهذه الأفلام هي: (غراميات الحاج المختار الصولدي) و(كازا باي نايت) الأول والثاني…
وإذِ استطردت في تحليل هذه المقارنة راكنا(الجاهلية) جنبا، فذلك فقط خوفا على الشاب هشام العسري- والذي يمتلك أدوات فنية وتقنية متميزة كما شهد بلك زملاؤه الحرفيون من مخرجين وتقنيي الصورة والإنارة والصوت كما النقاد، وتبين هذا جليا في فيلمه المعني بالقراءة – أن يستمر في إنجاز أفلام تعود بالسينما المغربية لعهد التجريب إن لم أقل «الجاهلية» وبطول وتمطيط لا يُحتملان، إلى درجة أن ناشطة فايسبوكية كتبت بالدارجة:»في فيلم الجاهلية نعست وفقت ولقيتو مازال ما تقاضى؟!!».. أما أنا وفي نفس السياق، حيث تحولت تلك ثلاث أرباع الساعة التي قضيتها تحت رحمته، إلى كابوس غادرت على إثره القاعة وأنا أمسح عيني مرددا في نفسي: «اللهم اجعله فيلما»!!


الكاتب : خالد الخضري

  

بتاريخ : 23/03/2018