لقاء مارس بالشارقة : رؤى ومقترحات فنية مغايرة

تحتضن إمارة الشارقة بشكل سنوي واحدا من أهم التظاهرات الفنية في الوطن العربي، والذي صار معروفا بلقاء مارس حيث تنظمه وترعاه مؤسسة الشارقة للفنون، ويكرس مجهوداته لتقديم أهم التجارب الفنية في الوطن العربي وغيره من الدول الإقليمية الأخرى. يسعى الملتقى إلى معاينة مختلف التحولات التي يشهدها الفن المعاصر في مجالات الفنون التشكيلية والنحت والوسائط المتعددة، وذلك في ظل التحولات العميقة التي تطال الفنون بمختلف تجلياتها، والناتجة في عمقها عن التغيرات الفكرية والسياسية والثقافية المحيطة بالفنان من جهة، وكذا تقلص وتداخل التقنيات والوسائط الفنية من جهة ثانية.
نظمت المؤسسة ضمن برنامجها الربيعي السنوي خمس معارض فنية لكل من الفنانين محمد أحمد إبراهيم وزينب سديرة ولطيف العاني وآنا بوغيغيان فضلا عن معرض أخرى مستوحاة من مقتنيات المؤسسة، والتي تدخل جميعها ضمن البحث في مفهوم المقاومة كحالة إنسانية تستدعيها مجموعة من المعطيات؛ إذ من الجلي أن الإبداع حالة مقاومة لكافة أشكال التضييق، ومقاومة ذاتية لتجاوز الذات كي لا تسقط في التكرار والنمطية والابتذال.. هكذا يمكن للفنان مقاومة الأوضاع القائمة سواء كانت سياسية أم اقتصادية أم ثقافية أم اجتماعية، والتي من شأنها أن تضع الإنسان في حالة القصور والضيق.. فأن تقاوم فنيا، معناه عدم الخضوع أو الاستسلام لكل ما يمكنه أن يكبل الإرادة الإنسانية ويحد من الحرية، والمشاكسة عبر رفض المشاركة في كل ما هو مقترح أو مفروض من لدن المُهَيْمِنِين. فالإبداع عامة، والفن خاصة، رَفْضٌ لكل ما يدمرنا ويضعفنا ويجعلنا نتحمل ما هو قَاسٍ ومؤلم.. إنه حالةُ تحررٍ من أجل الرغبة في البقاء على قيد الحياة خارج ظروف الحجر والاحتجاز.. وهو بهذا المعنى مقاومة عقلية وذهنية ونفسية واعية.
تشكل المعارض الخمسة المُقَدَّمَة ضمن هذه الفعالية قُطْبَ الرحى بالنظر إلى غناها الموضوعاتي وقيمة المشاركين فيها وكذا اختلاف وعمق رؤاهم الفنية، فمعرضُ الفنانة الأردنية منى السعودي يُشَكِّلُ عُصَارَةَ تجربةٍ فنية ثرية امتدت منذ سنين طويلة، وهي مدعومة بتكوين أكاديمي رصين بالمدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة بباريس. ترسم الفنانة بطريقة تلامس الشكل، وتتخلص من كثافة الألوان لتنتصر، هندسيا، للخطوط والأشكال والميولات، وتقترب بعض لوحاتها من أشكال وتصاميم منحوتاتها التي تظل راسخة في ذهن مشاهديها منذ لقائها الأول بها. فالنحت استطلاع لطبائع الصخر، وبحث عن اللين والإيحاء فيه، وهو خروج بالمادة من شكل إلى شكل، ومن حالة إلى حالة لخلق المعنى وبناء الانسجام الذي لم يكن متيسرا بشكل واضح في الحالة الأولى للمادة.
يعكس معرض الفنانة ذات الأصول الأرمينية، والمزدادة بالقاهرة والمقيمة فيها، آنا بوغيغيان، حالة لونية مترحلة، فالفنانة دائمة السفر في البقاع والأصقاع، ودائمة البحث والنبش في ذاكرات بعض الشخصيات ذات التأثير المُغَايِر في الثقافة الإنسانية كالمهاتما غاندي والشاعر طاغور والشاعر قسطنطين كفافي.. فتجربتها تنم عن خبرة رصينة في مجال الفنون التشكيلية بالنظر إلى قدرتها على خلق عوالم فنية تجمع بين اللوحة القماشية التقليدية والإرساءات والجمع والكولاج.. وهو عمل لا يمكن الوصول إليه دونما تحقق خبرة بالمواد والأشكال وصوغها ضمن رؤية متكاملة لعلاقة الذات بالعَالَم. حينما تشتغل هذه السيدة التي تلخص سُحْنَتَها وسَمْتُهَا مخاضات وهموم إنسانية غائرة، على الأشياء تحولها إلى منجزات فنية مثيرة ومدهشة كما هو الحال بالنسبة لبقايا البواخر والملح والأثواب وغيرها مما لا ينتبه إليه الناس من متلاشيات وبقايا، لكن الفنان الحقيقي ينبهنا إلى قيمتها التي يمكن أن تطرح إشكاليات الذاكرة والتذكر وقيمة المهمش والمتلاشي.
تَحْبلُ أعمال الفنان الفوتوغرافي العراقي لطيف العاني الممتدة فيما بين 1953 و1979، والمتوقفة عن وعي وموقف، الكثير من الانشغال بتحولات المجتمع العراقي، فالمعرض عبارة عن تاريخ مصور ومقتضب لأحوال الأفراد والمجتمع، فهو يضم صورا نادرة لأطفال ونساء ورجال وبعض ساسة العراق الذين يشهدون على تطور الأشياء داخل الفضاءات الخاصة والعامة كما هو الحال في تغير طريقة لباس النساء العراقيات، ومروره من حالة الانفتاح إلى حالة الانغلاق، وعصف الإرهاب ببعض الأشخاص العاديين الذين حفظت الصورة ذكراهم. تفيدنا صور هذا الفنان في الوقوف على بعض الخصائص الثقافية والإثنولوجية التي تجعل الفوتوغرافيا فنا للأثر بامتياز…
يعكس معرض الفنان الإماراتي محمد أحمد عبد الله اهتمام فئة من الفنانين العرب بالفن المفاهيمي كحركة مهمة داخل الفن المعاصر، والتي بدأت في ستينيات القرن المنصرم، وهناك من يُرْجِعُ بوادرها إلى اللفظ الإنجليزي الذي استعمله الفنان الفرنسي المتعدد «مارسيل دو شامب» (1887-1968) حين استعمل أثناء إقامته بمدينة نيويورك مصطلح «Ready-made» الذي يحيل على الجاهز والمتوفر والمتاح واليانع.. وبالتالي، صار بالإمكان تحقيق أعمال ليست معتادة في مجال الفن بمعناه التقليدي. هكذا، يمكن اعتبار بعض أعمال ومنجزات محمد أحمد عبد الله موفقة وطلائعية بالنظر إلى استلهامه لما يوجد في محيطه البيئي، والعمل على تشكيل لوحات وتركيبات وإرساءات وتنصيبات ممتلئة بالحياة، ومستدعية للتأمل والتفكر في قيمة الأشياء التي توجد من حولنا، والتي قد لا ننتبه إلى قيمتها.
تستدعي الأعمال الفنية المُغايرة للفنانة البرتغالية «كلوديا باجس» (Claudia Pagès) الكثير من التساؤلات التي تتطلب الإجابة عنها سياحة في تاريخ الفن وانفتاحاته ومغامراته، فهي ليست فنانة بالمعنى المتعارف عليه للكلمة، وإنما هي صاحبة مشروع إدماجي للمعارف والثقافات والفنون الإنسانية ضمن تصور زمكاني ولوني وصوتي وأدائي منفرد.. يستفيد من التركيب اللغوي والشعر والغناء والحركة والموسيقى والإيقاع.. وذلك بغرض جَذْب المتلقي إلى العَالَم الفني، والتحليق به بعيدا عن عالَمِه الذاتي. يمكن القول بأن تجربة هاته الفنانة ضمن الأداءات الفنية التي تراهن على الفعل الفني كعمل سلوكي يقوم به الفنان ضمن منظور متعدد للمكونات الفنية التي يقدمها للجمهور بغرض التفاعل والتفكير والتأمل والاستمتاع…
يسائل معرض الفنانة الجزائرية زينب سديرة ذات الأصول الجزائرية، والمتنقلة بين باريس ولندن، قضايا الذاكرة الفردية والجماعية، فهي دائمة البحث في الأثر الإنساني عن ذلك الخيط المفقود الذي يمكن أن تجمعه كومة الخيوط الملونة: فقد يمكن أن تقتفي الفنانة بالفعل آثار أول رحلة طيران، إبان الاستعمار البريطاني، من الشارقة إلى أوروبا، وتلتقط لنا بعض الصور أو تشتري بعض التذكارات المألوفة في المدن التي مَرَّت منها، فتضعها في حقيبة مفتوحة على المجهول أو تركبها في خريطة فنية أو تجمع بين نقطها الجغرافية عبر خيط لا يمكن فك ارتباطاته الواقعية والخيالية، المعلنة والخفية إلا بتشغيل درجات رفيعة من الخيال الخلاق. وتتميز تجربة هاته الفنانة في تلك الزاوية التي خَصَّت بها ضحايا الصحافة والرأي إبان العشرية السوداء في الجزائر، وتجميعها لأرشيف ساخر مما يقع في البلد على المستوى السياسي. وفي سياق انشغالها بالذاكرة اهتمت في معرضها الذي يجمع بين فن الفيديو والفوتوغرافيا والتركيب والكاريكاتير بما يمكن للبحر أن يرميه بجانبه، فيصير التربص به مدعاة للاستلهام والاهتمام والتقاسم.
لا يمكن للمهتم بمجال الفن المعاصر، وما يعتمل في سياقاته من تطورات وقفزات، إلا أن يقف على غنى الحركية الفنية التي يشهدها الوطن العربي، والتي يصعب استيعابها دونما فهم عميق لتاريخ الفن من جهة، وكذا المعرفة العميقة بالفنون التشكيلية والبصرية التي صارت تتجاوز حدود الدعامات والسندات العادية لتستقر بقلب الشاشات والساحات والمتاحف.. ولعل الزائر لكل المعارض التي يقترحها «لقاء مارس» في هذه السنة، ليقف بالفعل على قيمة الفن في حياتنا، وسيستوعب أن الرهان على التعدد والانفتاح والتجديد، لهي المفاتيح الأساسية للرقي بالإنسان من روتين التكرار والعادي والممل…


الكاتب : محمد اشويكة

  

بتاريخ : 02/04/2018