في بعض أسئلة الوجود الجديدة بخصوص «الإنسان المُستزاد» و«الترانزيمانيزم»

تنتشر كتابات كثيرة حول الآثار الكبرى التي تمارسها التكنولوجيات على حياة الإنسان. على جسده ودماغه وحواسّه وقدراته. وبِتْنا نواجه أسئلة متجدّدة حول الوجود والحرية والزمن والمرض والموت والحب، ومستقبل العلاقات التذاوتية؛ سواء من زوايا “علمية”، أو فلسفية، أو أخلاقية، أو حتى دينية. يتعلّق الأمر بحركة “الترانزيمانيزم” Transhumanisme، التي تتمثل في اعتبارها، حسب العديد من التعاريف، «حركة فكرية وثقافية» تدعو إلى إدماج العلوم والتقنيات لتحسين القدرات الجسدية والذهنية للكائن البشري. وتبشّر هذه الحركة بالإمكانيات اللامحدودة التي توفرها التكنولوجيات لتجاوز مظاهر النقص في الإنسان واستبعاد أسباب الهشاشة والعجز، وذلك من خلال «تقوية» كفاءاته الفكرية، والفيزيولوجية، والنفسية. ومن تمَّ نعتت هذه الحركة بكونها مرحلة «الإنسان المُستَزاد» أو «ما بعد الإنسان».
يطرح هذا الموضوع تحديات كبرى على المفكرين والباحثين، وعلى الفاعلين السياسيين والاجتماعيين بحكم كونه يتفاعل مع تأثيرات التكنولوجيات ومع ما تقترحه «ما بعد الإنسانية»من تصورات وأسئلة عن الوجود، وما تفترضه من رهانات أخلاقية، ومن مسؤولية سياسية واجتماعية. ويعتبر «الترانزيمانيزم»أن الإنسان نتاج عملية تطور، وبأن العقل الإنساني يتغير مع تسارع التكنولوجيات.وستكون لهذه التغييرات تداعيات أكثر أهمية بفضل التكنولوجيات التي تؤثر، في الواقع وفي الحياة، على تطور الفرد والجماعة، بل وعلى النوع البشري برمّته. فالتدخلات الطبية يمكنها إطالة العمر(يمكن أن تتجاوز معدلات العمر100سنة…)؛ إذ مادامت البشرية قد تغلبت على الأمراض القاتلة، وعلى وفيات الأطفال، فإنها من الممكن التغلب على ما يهدد الحياة. وهكذا يركز هذا التصور على أن النوع البشري نتاج تطور، ويمكن للإنسان إدارته، باعتبار أن التكنولوجيات توفر إمكانيات لامحدودة في المساعدة على التحكم في مصير الإنسان، فضلا عن أنها تسعف في تطوير الإمكانات العقلية والانفعالية.
يحصل ذلك بفضل تلاقي أربع تكنولوجيات: النانوتكنولوجيا(صناعة الذرات الصغيرة جدّا)، البيوتكنولوجيات، المعلوميات، والعلوم الذهنية. ولهذه التكنولوجيات كافة تداعيات إنسانية، ومالية، وصناعية.كما أن لها تأثيرات سياسية أكيدة على صعيد العلاقات البشرية، وعلى طرق تدبيرها، وعلى أنظمة الحكم.
من هنا برز الحديث عن الكائنات الهجينة Hybride، والسيبورغCyborg، أي الجمع بين الجسم العضوي والسيبرنتيقا، من خلال صنع كائن «حي وذكي» قادر على التواصل والتفكير والتوقع. لاشك في أن هذه الأدبيات بدأت في كتابات “الخيال العلمي”، و”المستقبليات”، منذ خمسينيات القرن الماضي، كما عملت السينما على تقديم مختلف “شخصيات” هذه النماذج التي تجسد العلاقة العضوية بين الكائن البشري والآلة، كما هو الشأن مع سلسلة أفلام «طيرميناطور» التي دشنها المخرج «جيمس كاميرون» سنة 1984؛ أو العلاقات الحميمية كما أبرزها فيلم “هي Her « للمخرج “سبايك جونز” سنة 2013. وأفلام أخرى عديدة.
ويلاحظ الباحثون أن البشرية تشهد لحظة انعطاف لا مثيل لها بحكم انخراطها التدريجي في طور جديد تعمل فيه التكنولوجيات على القيام بتعديلات جوهرية على الحياة الإنسانية بطرق أكثر جذرية مما شهدته مع اكتشاف اللغة والكتابة والمطبعة، وأن العالم يعيش ثورة صناعية جديدة تعمل على خلخلة أنماط الحياة والوجود. وإذا كان الإنسان في الفترات السابقة بحث عن حلول تقنية لحل المشكلات (المطبعة، الفلاحة، المحرك البخاري، الكهرباء..)، فإن ما نشهده اليوم من تحولات تكنولوجية غير مسبوقة، يصعب التنبؤ، بدقة، بمفعولاتها على المستقبل. فالبشرية قد انتظرت 38 سنة لكي تحصل على 50 مليون مستمع للإذاعة، ولكنها انتظرت شهورا قليلة للوصول إلى 50 مليون في تويتر. وهو ما ينطبق على وسائل أخرى في السياحة والنقل (أوبير). إننا نوجد في عالم مربوط بالأنترنيت فضلا عن التلفزيون والسيارة، واكتشافات أخرى في الطب كما هو الشأن مع الذكاء الاصطناعي حيث نجد آلات بدأت تقوم مقام الإنسان، وسيتطور ذلك بشكل كبير وغير منتظر.
غير أن هذه الثورة غير المسبوقة تطرح تحديات كبرى، فإذا كانت التكنولوجيات تحل المشاكل وتعوض أدوار البشر فإنها تهدد عددا كبيرا من المهن ومن فرص العمل، خصوصا وأن «الروبو» قادر على القيام بعمليات معقدة وعديدة في نفس الوقت أكثر مما يقدر الإنسان على القيام به.
من جهة أخرى، يبدو إنسان اليوم مبهورا بما توفره العدّة التكنولوجية من إمكانيات وبما تقترحه عليه من ممكنات على صعيد “تصحيح أخطاء الطبيعة”وتقوية قدراته، بل واستعمال آلات قد تخلق من المتعة الجسدية ما لا يعرفه الفعل الجسدي الطبيعي،كما هو الشأن مع ما يسمى بالإنسان المستزاد L’homme augmenté: من قبيل وضعيات ناس معدّلين( من خلال تدخلات طبية…)، والإنسان المغيّر (الاستعانة بوسائل لتحمل الأثقال مثلا)، وتقوية الإنسان بواسطة شحن ذاكرته في أسطوانة، أو شرائح، أو إضافة القدرة على البصر أكثر من 10، سيما وأن الإنسان يمتلك دماغا له طاقات كبرى أكثر مما يتوفر عليه الجسم.
لا جدال في أن هذه الموضوعات تطرح أسئلة كبرى على الجميع تتعلق بالحرية، وبالفوارق في الوظائف بين ما توفره التكنولوجيات ونوعية العمليات “الطبيعية” التي يقوم بها الدماغ، ومدى التوافق بين الإمكانيات التكنولوجية والإمكانيات البيولوجية، وهل يمكن تجاوز “تعقّد” الكائن البشري كما هو حال عمليات التذكر، بحكم أن الذاكرة العضوية تعتمد على الإنسان وعلى التذكر الدائم. كما يواجه المفكرون قضايا تهمّ الثقافة، ومسلسل التدمير أو الاستلاب التي يمكن للتكنولوجيات أن تقوم به ل«هوية» الإنسان. واعتبارا لذلك يواجه المرء رهانات مختلفة من قبيل: من سيتحكم في هذا المسار: هل الآلة أم الإنسان؟ماذا سيحصل على صعيد الأذواق والحاجات الروحانية، والانفعالات، والجماليات؟ ما الدلالات التي ستكتسبها مفاهيم الحقوق الأساسية، مثل الحرية، والكرامة، والأمن، والحق في الحياة، وفي الصحة، والثقافة، والتربية والحياة الخاصة..؟ما هو مستقبل الحقوق الاجتماعية، والمدنية، والجنائية، والدولية؟ ما حجم تأثير التكنولوجيات على الشغل (حيث يتوقع أن عشرين بالمئة وأكثر من المصانع ستكون مُؤَللة )؟ ما مدى تأثيرات الذكاء الاصطناعي..؟ هل سيساعد الإنسان على أن يتوفّر على الإحساس بالرضا، وأن يضمن شروط التوازن؟
ما يثير انتباه المتتبعين هو أن هذه الأسئلة لا تجد لها أجوبة واضحة ومقنعة لحد الآن، سيما وأن بعض أصحاب القرار موزعون بين اعتبار الأمر لا يزال في إطار الخيال العلمي، وبين من يحركه حماس غير منقطع للانخراط في الرقمنة التدريجية للعالم. والحال أن مؤشرات عديدة تبين بأن الموضوع يتعلق بإنسانية جديدة ستفرض ذاتها على المجتمعات، من قبيل إدخال “أنا أعلى” في الآلات تتحكم في طريقة تفكير الإنسان. كما هو شأن الكائنات الآلية التي أصبحت تتطور بشكل كبير (في البورصات، والحروب…)، أو السيارة الذاتية تقنيًا، وهو مايفترض معالجات جديدة لقضايا تتعلّق بالقانون والمسؤولية.
ومعلوم أن هناك تيارات مختلفة داخل أدبيات “ما بعد الإنسانية”، وخلافات في التصور والاستشراف، غير أن ما هو ثابت هو أن مستقبل الإنسانية سيخضع إلى تغييرات جذرية، بحكم أن الحياة يمكن تغييرها، على صعيد تقوية مقدرات الجسد، والحالة النفسية، ورفع المعاناة، واكتشاف الكون، والحرص على الحق المعنوي المبدئي في حرية كل واحد في القيام باختيارات لتحسين الحياة، والتفكير في رفاهيته.
غير أن مفارقة المقاولات الضخمة التي تستثمر في البحوث الساعية إلى ابتكار آلات ووسائل تبشر بطور “ما بعد الإنسان”، مثل “غوغل”، هي من بين المقاولات التي لا تراعي المعايير والقواعد التي تندرج ضمن “الحقوق الأساسية” من قبيل احترام الحياة الخاصة، ومسؤولية الوقاية من السلوكات القاسية أو الحاطَّة من الكرامة، أو احترام المسؤولية الاجتماعية. فكيف يمكن تحديد المسؤولية على الحد من المخاطر في حالة اكتشاف المقاولة لمنتوج يحمل في ذاته مخاطر؟ ذلك أن غوغل بصدد ابتكار آلة يُروج أنها واعية بذاتها وتمتلك قدرات ذاتية لامحدودة، وتوفر شروط “الخلود”؛ غير أن غوغل باعتبارها مقاولة، كما يلاحظ المراقبون، بقدر ما تحترم الالتزام الاجتماعي والدعم الخيري إلا أنها تقتصد في نشر المعلومة، ولا تراعي الحياة الخاصة، كما أنها لا تحترم مقتضيات المسؤولية الاجتماعية إلا بنسبة30 بالمئة فقط.
لقد انخرطت الصناعة الرقمية في عملية “غزو” شاملة للحياة، وتسعى، بالتدريج، إلى تكييف كل مستويات الوجود، من المستوى الحميمي إلى عالم الشغل، والصحة، والتنظيم الحضري.
ويعتبر العديد من المفكرين أننا بصدد عملية كلية لـ» تبضيع» العالم ومَكنَنة الحياة، لأن الإنسان كان يكتشف تقنيات من أجل الاستجابة لمهام “وظيفية”، أما اليوم فإنه يسلم كثيرا من أدواره للتكنولوجيات. واعتبارا لذلك فإن قدرة الإنسان على التقدير والحكم وعلى التصرف بوعي وبحرية قد تتعرض للتهديد. فما هو مقترح على العالم، اليوم، يتمثل في نوع من المواجهة ما بين حضارتين: الأولى ذات نزعة إنسانية تعمل، أو على الأقل تدعو إلى الحفاظ على الاستقلال الذاتي، وعلى إمكانيات التعقّل والحكم، والعمل بحرية نسبية؛ وأما الثانية فتبحث عن إخضاع الناس لمنطق “تشييئي”، وعن “تبضيع” مظاهر الحياة وتأطير الوجود الإنساني بواسطة أنظمة تقنية.
والظاهر أن الرهانات التي تفرضها “الإعلاميات الذهنية”، والفلسفة الحاملة لها تستدعي يقظة فكرية وسياسية لحماية مبدأ الاستقلال الذاتي القاضي باحترام حرية الإنسان في التقدير والتفكير. وإذا ما تحمّس لما يحصل فعلى الأقل أن يكون ذلك على أساس امتلاك القدرة على الحكم، وعلى القرار المستقل، ضمن شروط تراعى فيها كرامة الإنسان وتعددية وغنى الحياة الإنسانية، ما دام استعمال التكنولوجيات يصب في مصلحة الإنسان. لقد عرفت البشرية ثورات كبرى تمثلت في اكتشافات اللغة والكتابة والمطبعة والكهرباء، ومختلف وسائل النقل، وغيرت هذه التحولات وجه التاريخ وخدمت البشرية، أما التكنولوجيات الرقمية، وإن كان من الصعب التقليل من إيجابياتها العظيمة، فإن ارتهانها لشركات عملاقة لها سلطا لامتناهية، وتوسعا “كونيا»، فإنها قد تهدد أنظمة سياسية، كما تختزل الإنسان إلى كائن- بضاعة.
لقد تمكنت هذه الشركات من خلق صناعة جديدة، واستفادت من الليبرالية التي على الرغم من كونها لم تدّع إسعاد كل الناس، فإنها، مع ذلك، كانت خاضعة لقيود ولقوانين. أما “الليبرالية – التكنولوجية” فيبدو أنها تخترق كل الحدود، بما فيها الحياة الشخصية، وتعمل بسرعة فائقة على خلق حالات استلاب جديدة، و”عبودية طوعية” للوسائل الرقمية، فضلا عن مظاهر “تبضيع” للثقافة وللعلاقات الإنسانية.


الكاتب : محمد نورالدين أفاية

  

بتاريخ : 25/05/2018