الروائية العراقية عالية ممدوح لـ«الاتحاد الاشتراكي»: أجمل الاصدقاء عبد الجبار السحيمي..أيام حدادي عليه لاتتوقف

أطلق عليها محمد شكري لقب « الجنرال»

أنا امرأة معنية بتأويلات الحياة التي لا تنتهي

 

بصوتها الهادئ والقوي في آن، المعجون بلكنة أهل الرافدين ، احتفت بالحب الذي رأته مشعا في عيون من جاؤوا لحضور حفل تكريمها بالملتقى الخامس للرواية بأكادير الذي نظمته رابطة أدباء الجنوب بداية ماي الجاري.. هي المتمردة على الثابت والمألوف، الذاهبة بالوجع عميقا في كل رواياتها من» ليلى والذئب» إلى «النفتالين» فـ «الغلامة»، المريدة لدين « المحبوبات « الذي يبدد إحساس “الأجنبية” وسط باقة الصداقات، المؤمنة بالـ”الولع” ولو في “غرام براغماتي”. إنها نخلة الفرات، الروائية العراقية المقيمة بباريس عالية ممدوح.
ظلت عالية ممدوح متمردة على البنية التقليدية للرواية العربية في كل كتاباتها، تشق الإجماع الذي يغلف خيباتنا، هي التي جعلت الحب والرغبة والعلاقة بين المرأة والرجل في جميع تجلياتها، محورا وتيمة رئيسية لرواياتها في ربط دقيق ودائم لها مع عوالم السياسة والمجتمع.
تعتبر نفسها امرأة معنية بتأويلات الحياة التي لا تنتهي ، وبمفردات مكائدها. لذا لا تطمئن الى الروايات السعيدة، فتصر على استفزازنا في كل عمل جديد بأن تضعنا أمام خساراتنا الإنسانية وعرينا الجماعي.
في هذا الحوار، تفتح عالية ممدوح خزائنها المضمخة بروائح الأعظمية، فتخرج أسراب الحكايات مع الكتابة، والرجل والصداقات، والجسد المرتحل الذي يسكنه الوطن.

 

p الكتابة بالصدمة، أو الحفر عميقا في الوجع سمة تميز كتابات عالية ممدوح. هل حققت لك الكتابة بهذا الإيقاع ، الخلاص؟
n هي أفخاخ تتعقبنا ونتعقبها ، وننكب في خطوات أعمارنا للإفلات منها : بعضنا بالإبداع أو السياسة ، المقامرة أو الثمالة أو التطرف والتزمت .. أو .. أو .. هي سياقات بعضنا توسع له الهامش ، فيحاول استيعاب معنى الوجود وإعادته بتشكيلات شتى ، من الكتابة إلى الرقص ، إلى المسرح ، إلى السينما ، إلى الهذيان أو العدم . في أثناء الطريق قد لا ننتبه ماذا يعني الخلاص ، فالدرب يقترح عليك علاقات متناقضة مع الذات ، وهذه بالدرجة الأولى كانت تقدم لي في كل يوم ،وبصورة مبكرة من حياتي ؛ أن لا خلاص في أية مرتبة يصلها المرء في سلّم وعيه ودرجات شغفه وهو ينتظر حتفه . الحفر شاقوليا وعلى الجوانب حتى بتنا نرى خيوط عدم اكتمال الألم حتى . أنا امرأة معنية بتأويلات الحياة التي لا تنتهي ، وبمفردات مكائدها . هي تلعب وأنا ألعب معها ، ونشرع في كدح يومي منذ الصبا حتى وأنا في سن الأفول هذه ، كما لو كنا في دورات رياضية ، كالمصارعة في ما بيننا ، فأرى الدم يتخثر ، وأحيانا كثيرة يسيل فأصوغ منه مفرداتي وشغلي . بدا لي من صيغ أسئلتك أنك قارئة تحفر عميقاً وهذا أمر يسعد المؤلفة ، فأنا كاتبة لا تستهويها الروايات السعيدة والصيت المرضي عنه من مرجعيات شتى، ولا يعنيني من يرمي كتابي بعيدا ، فهذا حقه ، لكني سأسعد لو أنجزه كاملا . الكتابة الجيدة لا تكترث بأية سلطة أو مرجع إلا مرجعية وضمانة الإبداع ذاته .. فجميع شروط السلطات وعلى مر الحضارات تتغير، وتغيرت ، إلا سلطته فهي مازالت منذ ملحمة كلكامش ولليوم، واحدة .

p في كل كتاباتك الروائية، يحضر الهواء الأول: العراق، ما الذي يتحكم في هذا الحضور رغم قسوة المنافي وما تعتبرينه «خسارات»؟
n هناك مقولة مؤذية تستهويني لبارت : “ يوميات الحداد “ . منذ الغزو وبعد الاحتلال الأمريكي صار هذا القول نافعاً . شخصيا أفضل مفردة البلد . لقد تٌركنا ولوحدنا نتعلم امتيازات الجوع والعطش ثم الفطام مبكراً منه و لِما يسمى مرثاة الوطن ، مما جعلني في الأخير أخسر جميع شهواتي ، وأستفظع أي نوع من أنواع الحب للبلد . فالحب وحده لا يصنع الأوطان . هناك أشياء أقولها دائما ولم تتغير : الضجر من البلد ، والندم عليه ، واللاعدالة التي يتصف بها . لم نفلح أبدا أن تحبنا بلداننا كما نشتهي ، فحتى الساعة ، لا أفهم تلك اليافطة التي رفعناها في أيام الشباب ، ومات من مات لأجلها وهي تقول : نموت ، نموت ويحيا الوطن . ترى ، لماذا نموت نحن ويحيا الوطن ؟ كيف يتم الأمر بهذه الصورة من الاختلالات : وكأن الاوطان: الجوهري فيها هي الجماجم والجثث ؟
الفنان تنهض الخسارات أمامه لأن لا أحد يثق أو يصدق بأعراض الوعي المبكر والمختلف لديه ، فتتكرر الخسارة تلو الثانية ، وأنت تأخذ على عاتقك جملة تصرفات وكتابات تشق بها الصف والإجماع من أي نوع كان . فتهجر عائلتك مبكراً، وبعد سنين غرامك ومحبوبك ، وبالتالي يستهويك الفعل المضارع ،فتردد بينك وحالك : أريد ترك بلدي . أنت تحدد ذلك بكلمة واحدة وتقول وراءها : اللهم آمين .

p هل يمكن اعتبار عملك “ الأجنبية” احتفاء بالصداقات التي طوقتك هنا وهناك، ودعوة الى التعايش في زمن الخوف من الآخر؟
n على العكس خيبت آمال البعض من الصديقات فخسرت البعض . إننا لا ندري كيف يستقبل الآخر عملك مهما كان هذا الصديق قريبا منك وحميماً من شغلك ، وكيف يشيح وجهه عنك وعن كتابك هذا بالذات أو غيره ، لا أعرف . فتتكلف أنت بالتأويل والشرح لروحك ، وتتعطل لديك بشاشة الصداقة ، وتتوجس وأنت تشطب على اسم فلان أو فلانة ، فيحكم على بعضنا باللالقاء ، فلا تعرف ما أنت فاعل بسوء الفهم الكوني الذي يتلقاه المرء ويربكه طوال رحلة الحياة ، فتبقى تردد : ما عساي فاعلة بالمودة والأريحية والوفاء الذي ترسب في الأعماق . أنا أبذل من أجل الأصدقاء ، ومن المؤكد لدي عيوب لا حصر لها ، لكن بذرة الصداقة هي المؤونة لجميع ما أملك ، وأول مرة أقولها وبثقة ، وبذات الصوت الذي أهديت فيه «الأجنبية» لأصدقائي : هم الخسرانين هذه المرة . حسناً نعود للتعايش مع الغير وعدم الخوف منهم : فعلاقات الاختيارات الكبرى للبشر تحت عنوان الصداقة ، أظن ليست حتمية ، أن تدعنا نخاف أو نخيف الآخر منا . بمرارة أقول الآن : إنني أتورع من اللقاء بالكثير من أبناء البلد الواحد والدين الواحد ، وكثيراً ما يتم الاستئناس باللقاء مع الأجانب الذين لا يحكمون عليك إلا بأعمالك فقط ، لا بالجندر ولا بالدين ولا باللون ولا بالنوايا . مودتهم لي ليس بما أكتب فقط ، وإنما بذاتي ولذاتي شخصيا .

p عاصرت حقبة البعثيين وعانيت منها كما العديد من الكتاب والمثقفين العراقيين، وربما كانت مبعث الخوف الذي ظل يسكن نصوصك خاصة في روايتك “الغلامة”. كيف ساهمت الإيديولوجيا في تقزيم وقتل دور المثقف والكاتب العربي بصفة عامة؟
n غادرت بلدي بمزاجي واخترنا الرباط من أجل إكمال ابني الوحيد دراسته الثانوية في المدرسة العراقية ، وذلك عندما كانت طبول الحرب البعثية مع إيران قد بدأت. ولقد احتضنتنا الرباط بحنان وسخاء من مجموعة من الأصدقاء والمثقفين والكتاب والمنابر الإعلامية كما لو كنت في بلدي ، اليوم علي الاعتراف لجميع الأصدقاء الذين لم يشاهدونني من ثقب قفل المشرق والمغرب ، وإنما من مساحة الضيافة المفتوحة التي كانت تفضي للتضامن والبذل والحرية . من الجميل استحضار جميع الأسماء التي بقيت شاهقة في شجرة ثمارها زاخرة بالإبداع ، واتساع الصدر ، وإذ علي أن أبدأ بالأسماء فلا أقدر إلا أن أضعه في المقدمة ، أجمل الأصدقاء: عبد الجبار السحيمي ، فأيام حدادي عليه لا تتوقف . ثم يحضر الأصدقاء تباعا ، الذين لم يتغيروا كما لدينا في المشرق : مع حفظ جميع الألقاب الاعتبارية ، محمد الأشعري ، عبد الفتاح كليطو ،فاطمة المرنيسي ، محمد القاسمي ، الخطيبي ، هؤلاء الثلاثة وأنا معهم كنا نعيش في مدينة واحدة تشبه الجنية وتدعى « الهرهورة « ، محمد بنيس ، سي محمد برادة ، فريد بكاهية ، المديني ، خناثة بنونة ، عائلة آل العلج من الكبير إلى الحفيد ، ليلى أبو زيد ، القمري بشير، محمد الشركي . الغائبان اللذان لا يتكرران ، محمد زفزاف ، ومحمد شكري الذي أطلق علي لقب : الجنرال، بعد أن قدمته للمرة الأولى للعالم العربي في حوار طويل .. اليوم ، وبعد اللقاء الفاتن في أكادير وأريحية وحماسة الأصحاب جميعا الذين قاموا بدعوتي ، على رأسهم الروائي والكاتب عزيز الراشدي ،وهم يضعون يدنا بيد الكتاب والشعراء: االروائية والشاعرة الجميلة فاتحة مرشد، عبد الكريم الجويطي ، الروائي عبد الحميد شوقي وغيرهم من الشباب الذي قرأ شهادات لا نظير لها، ففتحوا أمامي قارة جديدة من الكتابات الثمينة ، ما زلت أصوات شخصيات أعمالهم تتشابك مع بعض شخصيات أعمالي ، فتتسع بغتة مخيلتنا .
نعود لتلك البلاد ، ولهذه البلاد التي أعيش فيها . شخصيا لا أفضل نعت المنفى ، فأنا لم أتعرض لأي نوع ومن أي شكل كان من الأذية ، على العكس ، كنت أشغل وظيفة رئيسة تحرير صحيفة أسبوعية مستقلة ، ولم تحذف من مقالاتي وتحقيقاتي الصحافية كلمة واحدة ، أو يوجه لي أي نوع من زجر أو لفت نظر. إنني لم أشتغل مع أية جهة ، أو فريق سياسي ، بالرغم من عيشنا لسنوات في بيروت كلاجئين سياسين بسبب نضال زوجي السري كمسؤول بعثي ، وبالتالي تركه التنظيم نهائيا بعد عودتنا للعراق. كنت أعرف أنني لا أملك عضلات بطلة ، ولا سلطة من ستتحول إلى شهيدة ، ولا أقدر على حفظ جميع أسرار المناضلة ، كل هذا وأنا بعد يافعة ، لم أدع أي أحد يتلاعب بي ، ولا أسقطت نفسي تحت أية قوة تمثلها الأيديولوجيا ، فهذه الأخيرة تريد امتلاك الحقيقة ولوحدها ، وأنا أريد “ اللحقاق بذاتي “ قبل أن أخسرها هي أيضا . حزب البعث كان حزبا علمانيا لم يؤمن قط بالطائفية ، وكان يجمع بين صفوفه جميع الطوائف والاديان ، وكان لدى النظام مشروع نهضوي حقيقي ، لكن ــ مهن القسوة ــ التي كتبت عنها في ورقتي بملتقى أكادير للرواية جعلت النظام دمويا ، يركن لسلطة المخابرات والسجون أكثر من قوة الحوار والتعدد والاختلاف . من هنا دونت رواية “ الغلامة “ وكانت نشيدا للقتلى في النادي الرياضي المجاور لبيتي في الأعظمية ، وصدرت والنظام البعثي في الحكم . منفصلان كنا أنا وزوجي، وهو يعيش في بغداد ، فسألته التبرؤ مني في ما لو تعرض لأي أذى بسببها ، فأطلق قهقهة مرتفعة مردداً : أنا كما عرفتِ مؤمن بجميع ما تكتبين . كان رجلا حقيقيا ومحبوباً لا يتكرر ، وهذا هو الجانب الجنوني الهوسي من خسارتي وحدادي حتى اللحظة . كتبت عما كان يسمى بالحرس القومي لحزب البعث في أقسى مرحلة دموية مر بها العراق قبل الاحتلال الأمريكي هي مرحلة العام 1963. وكيف تحول النادي الرياضي إلى سرادق للمساجين ومن الجنسين للشيوعيين والشيوعيات . عليك امتلاك جرأة القاتل وأنت تجوس تلك القيعان الشائكة من ذاتك ، فرفضت حذف كلمة واحدة عندما عرضتها لدار النشر المرموقة تلك في بيروت . ثم قدمت لي عرضا «دار النهار» الممتازة في وقتها ، وبعدها «دار الساقي» بشخص مديرتها المثقفة والصديقة لاحقا مي غصوب ، فبقيت في حيرة فجميع الدور ممتازة لكني سمعت نصيحة الشاعر الكبير والصديق أدونيس فصدرت عن دار الساقي . اليوم عادت دار الآداب وأصدرتها بطبعة جديدة . هي رواية ملعونة وممنوعة تقريبا من عموم البلاد العربية ، وتستنسخ مئات المرات في بلدي لكي يتم عمل الأطاريح حولها . كان مشروع إصدارها من الدارين في رأيي خاسرا من الناحية المادية ، لكنهما جازفتا .. على الدور المهمة في جميع أنحاء العالم ، الإيمان بالمجازفات الحقيقية في عملية النشر كما هو حاصل في دور النشر العالمية .

p هل يستطيع الكاتب العيش خارج نصوصه وخارج لغته، وبالتحديد في حالة الكتاب المغتربين؟
n الحياة ليست في الكتب . علينا الاقتراب والتجاور مع الجميع ، جميع أنواع البشر والنصوص والتراجم . شخصيا لدي التياع بالترحل والاسفار الكثيرة ، وأظن علينا ككتاب أن نصلح لإيواء جميع الإفكار واللغات والفنون . الاغتراب أمر نافع لجميع أنواع البشر ، على الخصوص للفنانين والكتاب رغم ثقل وحمولة المكابدة . أشعر دائما أنني هنا ، في باريس ، في إحكام عزلتي المختارة الجازمة من أجل الكتابة ، وهذا جعلني أتوصل إلى سن رشادي ومسرات وجودي وتوهجي الإنساني وخصوبتي الأنثوية . لا شيء يحضر من الخارج بالتأكيد ، فالصمت والضجيج والدوي يحضر من داخلك . في الغربة تستطيع أن تكون في قلب عزلتك وقلب العالم معا ، هكذا ، أنت واختياراتك ، وأعترف أن الوحدة تحتاج إلى عزيمة شديدة ليس في مقدور كل البشر حيازتها فهي تتطلب انفكاكا وتعافياً عن الكثير من الترهات والسفاسف والأكاذيب ، فتدعك تجاور داخلك ، ومطروداً من مجاميع الزيف والمخادعة .

p تحضر المرأة كذات وموضوع في جل أعمالك الروائية، لكن صورة الرجل تبدو مختلفة عما هي عليه في باقي الكتابات النسائية، إنه كائن هش وشفاف كما في «غرام براغماتي». ما الذي يلهمك في الرجل روائيا، وهل يمكن للأدب أن يجسر إنسانيا العلاقة بين المرأة والرجل في ظل مجتمع ذكوري؟
n وضعت يدك على كتاب عزيز عندي كثيراً . لقد سئلت من الكثيرين ومن الجنسين : ترى من هو بحر ؟ هل هو كائن حقيقي ؟ هل هو محبوبك الآن ؟ هل .. وهل ؟ لدي من الأصدقاء الرجال وفي جميع أنحاء المعمورة ، أكثر من النساء . في الغالب الرجال أكثر توقدا وحضورا، وأقل غيرة وتحاسدا وتضامنا في الجانب الإنساني من النساء . حتى الصداقات الحقيقية مع الرجال أكثر ثراء وعمقا من الكثير من علاقات النساء . . إنني ، ما زلت مسكونة بشخصيات رجالية كتبت عنهم ، ـ مصعب ـ في رواية «الولع» و»الغلامة» هو الأكثر عذوبة وعمقاً وذكاء . محمود في» النفتالين» ، المراهق الشيوعي ، به رائحة الحب الأول وأنا على عتبة البلوغ . «فاو» في» المحبوبات» كائن أثيري لم أسمح لسهيلة البطلة بالذهاب معه للأقصى، فربما لكي لا تتعرف على عطبه الجواني .. بحر في «غرام برغماتي» قال كلمته الأخيرة للأسباب الغرامية القاتلة : لن نلتقي ، لكي يدوم صوتنا وغرامنا وقتاً طويلا . وكانت ترد عليه راوية : أجل أن الذي لم نقم بعمله أخطر من جميع ما قمنا به .. الخ . في رواية «التشهي» تجولت داخل جلد الرجل سرمد برهان الدين ، ورصدت هشاشته أكثر من قسوته وأذيته ، وكٌتب عنها : إن المؤلفة تقوم بدور التشفي بالرجل لفقدانه ذكورته . شخصيا لا أرد قط على ما يكتب عني فهذا شأنهم ، وأنا أحترم الكل ، لكن الرواية لا تحمل أي نوع من الضغينة أو الشماتة فهذا قول يقوله ناقد لم يفقه في فاعلية الرجل والجنس والسياسة في بلد قاسى جدا كالعراق . هذه الرواية بالذات هي المكان الذي اخترت من شخصياتها السيد ــ نسيم جلال ــ فاستجاب لي ولبطلة غرام برغماتي وصار محبوبا لراوية ، فأطلقت عليه اسما طازجا : بحر .. قدمت له يدا ممدودة ، أنا المؤلفة التي ما زلت أنتظره في الواقع والحياة، عله يظهر في أحد الأيام والمدن لكي أقضي معه بقية حياتي ..!! من الجائز هذا هو الجانب الفكاهي في الكتابة . إنني إذ أتحدث عن الرجل كذكر مريض بذكورته ، والمرأة التي تتقزز من أنوثتها .. لكني شخصيا أسعد بأنثوتي كما سعدت بأمومتي جداً . شخصيا لا أتخيل الوجود بدونه ، ولا أستحي من تداول عيوب الجنسين ، فأنا منحازة للفرد الوحيد الفرداني الغشيم والمضطرب والخسران مثلي .

p اشتغلت كثيرا على الجسد، مع اختلاف في زوايا النظر. الى أي حد يمكن لهذا الجسد أن يكون مرآة لعورات المجتمع الاجتماعية والسياسية، بالنظر الى ما تمثله تيمة الجنس في المنظومة الثقافية العامة؟
n لم أشتغل على الجسد بمعزل عن آليات الحوادث ودرجات الألم واللذة التي يتعرض لها ويمنحها ، والفجائع التي يثيرها من حوله وفي جميع حالاته ، والعلاقات التي تعترضه و تدخله في الذل والحصار . في «الغلامة» صبيحة تعرضت للاغتصاب في النادي الرياضي على أيدي مليشيا الحرس القومي التابع لحزب البعث .. اليوم أنتظر من سيكتب عما تعرضت له ، وما زالت المرأة والفتاة العراقية تعاني على أيدي مليشيات مختلفة ،وتحت يافطات شتى لا حصر لها من الشمال الى الجنوب . الجسد المستباح بسبب منظومة القوانين التي قامت بهتك كل شيء : بدءا من الأبدان وانتهاء بالأوطان وباسم المرجعيات والقوانين الشرعية . فأية كتابة عما حصل ويحصل وحاصل ومنذ العام 2003 وإلى هذه الساعة هي أمر يتجاوز مخيلتي كروائية وكاتبة ، وآمل أن ينخرط في كتابة الكتب والأعمال المنتظرة جيل آخر كلنا بانتظاره .. ستظهر الروايات من بلاد ارتهنت للذل والفتك والانحطاط والفساد ، وأخاف عليها من نفاد صبر جيلها الجديد الشاب ، فأتمنى قراءة ذلك النص أو الرواية قبل أن أغادر الدنيا .

p تشتغلين حاليا على موضوع «النقص» بما هو أحد فروع النظام الحقيقي الذي ينقاد إليه الكاتب بوعي أو بدونه.الى أي حد تساهم الكتابة في تثوير الوعي بهذا النقص، ومن ثمة إحداث التغيير الذي أضحى حلما بعيد التحقق بل مستحيلا في ظل تصاعد العنف والفكر النكوصي؟
n معذرة ، لا أود الخوض عميقاً في مشروعي السردي الجديد كتاب ــ النقص ــ ولا أريد أن أعرّضه للإعلان عنه ، لكني أذكر أن الفكرة بزغت بغتة وأنا أمام أحد الشعراء العرب المعروفين، ونحن في دولة عربية وكنا مجموعة من الاصحاب ونود تبادل الحديث سوية بانتظار الطائرة الخ . والشاعر بيده الجوال لكي يجيب على ما ذكر أمامنا على ـــ 185ألف ــ متابع له على الفيس بوك . فسألته ببراءة : وهل ستجيب على الجميع ؟ رفع رأسه باستغراب ، وأنا أرى علامات الترياق تخترقه حتى بدا لي مضطربا، ويود الاختفاء عن طريقنا لكي يتفرغ لهذا الارتهان : قال وهو ينظر في عيني : نعم إنني في حاجة إلى هؤلاء جميعا ، وإذا حصل وتضاعف الرقم فخير وبركة الخ .. . هذا الانسحاب من ذات المرء والذهول أمام كوكب آخر تسكنه أشباح كشرت عن النظام الحقيقي لعدوانية الانفصال : عني وعنهم وعنا .. عن إقصائي وإعفائي من عقد روابط المودة والمحادثة مع مثقف احترمه ، عن الذي يجري من أحداث دموية في ما حولنا . إذن ما عاد هناك واقع معياري إلا هذا التلاشي في الوهم .. لا أدري لم شعرت بالبلاهة والخطر معا . بلاهة هذه القطيعة المفرطة واستبدالي أنا المخلوق البشري بكائنات منطوية متخيلة مقفلة، ومن الجائز مهزومة تستنفد جميع طاقات الشاعر، وأي كائن بشري ، وتعلّي من شأن هذا الهذر واللغو الخ ، ربما لهذه الخدمة بعض المنافع لكني لم أجربها قط .. أما الخطر فعلينا طرح السؤال المركزي ، بعيداً عن خيال المؤامرة العالمية هذه المرة : من يقف وراء هذه الظاهرة ؟ لا يكفي مخالفتها واعتراض سبيلها ، فهذا المرض يقلقنا ، وعلينا الإعلان عنه دون خجل ومواربة من هذا الشاعر أو تلك الكاتبة .. كانت أمارات الأنا العليا ، والنرجسية المهولة ،والتكبر الفادح تقف بجاذبيتها أمامي ، وهي تحمل نقصا لا يقاوم بمقدوره أن يقوم بتزييف كل شيء ، في المقدمة : الذات والحب وباقي الظواهر . كان الشاعر يركض لكي يأخذ مكانه في الطائرة بعيدا عنا جميعا ووحيدا، وقبل أن نفترق سألته بخبث : هل لديك عائلة وأطفال ، وأنا أعرف أنه كذلك ، فرد بنرفزة : وما الفرق ؟ صحيح ، أي فرق ، وما الفرق . في الطائرة فتحت دفتري الصغير وبدأت أدون العنوان ــ النقص ــ .

p شكل الأدب العراقي بمختلف تجلياته السردية والشعرية ، ولعقود، منارة وعلامة فارقة في المشهد الابداعي العربي. اليوم وفي ظل هذه الطائفية والتدخلات الاجنبية والعنف المتوحش، واغتراب جل رموزه الأدبية، هل يمكن الحديث عن تغيير في تيمات الكتابة العراقية بالنظر الى سلم الأولويات اليوم؟
n في بعض الأحيان تصلني دواوين شعر آخاذة كما لدى الشاعر العراقي الشاب كاظم خنجر فكتبت عن إعجابي الشديد بنصوصه وديوانه الأول .. أما الأعمال السردية فمعظمها تكتب عما أسميه إعياء الحنين . لا يتغيب الكثير عن صفوف هذا الدرس المجاني الذي يرى البلد مزدحما بالجمال ، وتنتظره حفلات للشواء وطهي الصحون العراقية، أو تناول الحلويات الشهيرة الخ . كل هذا وغيره يدخل في صلب المتن السردي، وفجأة ينطلق صوت ناظم الغزالي لاكتمال استراتجية الحنين . زلزال ما قبل الاحتلال وأثناءه، وما نحن فيه الآن يدعنا نترقب الأعمال التي تقوم بمحاكمة ذلك الماضي المخيف والحاضر المنحط . تفويت الكتابة عن هذه أو تلك من الحقب الدموية، هو أمر أعتقد يدخل في قصور وبؤس آليات وأدوات الكاتب الجيد والحقيقي . أستثني بعض الروايات ذات الانشقاقات السردية والفكرية الممتازة مثل مشروع الروائية دنى غالي ، وسنان أنطوان وعلي بدر وحميد العقابي وسلام ابراهيم وجنان جاسم حلاوي وغيرهم الكثير ومن الجنسين ، الذين لم أقرأ لهم، وهذا قصور مني بالدرجة الأولى ، أو لم تصلني كتبهم لأسباب جغرافية، أو لم يرق لهم إرسالها ، لكني أنتظر امتلاء المشهد بالذين سيحضرون لكتابة رواية الروايات من داخل أتون العراق وسوريا سويا ..

p ازدحمت الساحة الثقافية العربية بالجوائز، وصرنا نلاحظ تهافتا للروائيين على قوائمها، فهل تهدف كلها الى تقدير الابداع والاعتراف بدور الأدب رغم أن الجوائز لا ولن تصنع أدبا؟
n كما قدمتٌ في ورقتي في ملتقى أكادير : إننا نشهد تأسيس العالم الجديد ، وهو يتشكل أمامنا ونحن نجلس في صفوف المتفرجين شبه العميان . لقد تم تدمير الدول العريقة ذات الثقافة والحضارة الشاهقة ، بأدوات داخلية وخارجية ، وإجرائيا نحن الآن نبصر خرائط للطريق لكل شيء ، بدءا لمجلس النواب وانتهاء بكتابة الرواية النموذجية وعلى مقاس العالم الجديد، المطلوب منه: أن لا نتجاوز خانة الفشل ، والثبات على مرحلة الاحتضار المستديم . فصممت لكل دولة شفرة خاصة بها ، تقوم بنفسها بالتبدد والتفكك ، لكي يزداد بعض الكتاب سعادة وبلاهة وركاكة . الجوائز لا تخرج عن هذه المقاييس . حتى اللحظة لا أدري كيف مرت بأعجوبة» القوس والفراشة» و»طوق الحمام» لمحمد الأشعري ورجاء عالم ، لكنني تقصيت وتأكدت أن اللجنة لم تسمح لأحد بالتدخل ، ورئيسها كان الشاعر المجدد والرائد السردي الكبير فاضل العزاوي الذي كما قيل لي : كذا وكيت حتى تم فوز الاسمين المبدعين ، ثم تناهى لنا أن من بين الأعضاء ناقد مغربي مرموق دافع باستماتة عن هذا النوع من الكتابة الانشقاقية الخطيرة والمسؤولة فكسبنا جميعا ، نخباً وقراء ودور نشر .


الكاتب : أجرى الحوار : حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 25/05/2018