ستة أيام في لبنان : دائرة الإقفال 19

رن هاتفي نهاية الصباح الموالي ليوم الاقتراع لانتخابات تشريعية حاسمة في تاريخ لبنان السياسي، كان صديقنا محمود على الخط، سألني عن الفندق الذي نتواجد فيه، ووعدني بزيارة، مقترحا علي اصطحابنا إلى جنوب لبنان، وافقت بسرعة، وعزز موافقتي رشيد الذي يعرف الجنوب جيدا، سألت محمود عن سبب عدم الرد على مكالمتنا السابقة، فقال لي إنه كان مشغولا جدا بالانتخابات، مؤكدا لي أن «حزب الله» هذه المرة كان حريصا على أن يتبوأ المقاعد الأولى، وأن يقتحم الدوائر التي كانت محسوبة على خصومه السياسيين.
وما كادت المكالمة تنتهي حتى بدأ تفكيري يجرني إلى نواتها، كون «حزب الله كان حريصا هذه المرة على أن يتبوأ المقاعد الأولى في الانتخابات التشريعية اللبنانية، وأن يقتحم الدوائر التي كانت محسوبة على خصومه»، جملة تحمل أكثر من دلالة، في الكشف عن الأسلوب الذي اتبعه الإسلاميون في أكثر من دولة عربية، فلغة الاقتحام تستمد مشروعيتها من «القوة» ومن التواجد الذي يتطلب إمكانيات ضخمة ودعم لوجستيكي قوي، يجعل من المقتحم لاعبا أساسيا في فضاء مرتب ومجهز بآليات اللعب التي لا تقبل الوافدين إليه فرادى.
تركت هذا التفكير الذي لا يريد أن يغادر مخيلتي، لأفتش في دفتري عن النتائج التي سربها لي مصدري قبل أن يتوجه اللبنانيون إلى صناديق الاقتراع.
لقد عمد المتحكمون في دوائر إقفال مفاتيح البلد الى رسم دوائر نفوذ انتخابية، وفقاً لمصالح الأحزاب، وضمن ذلك،» خيار دائرة انتخابية واحدة على أساس النظام النسبي، والعودة إلى خيار النظام الأكثري ضمن «دوائر صغرى» بنهج صيغة وسطية نتيجة لتسوية سياسية باعتماد تقسيم البلاد إلى 15 دائرة انتخابية كبرى والعمل على توزيع المقاعد على الطوائف».
بهذا يخصص البرلمان اللبناني الذي يتكون من 128 نائبا ونائبة، 64 مقعدا للمسيحيين، و64 للمسلمين. وبخصوص المسلمين، يترك 27 مقعدا للسنيين و27 مقعدا للشيعيين، و8 للدروز، و2 للعلويين. وبخصوص المسيحيين، نجد العدد المخصص للمارونيين يحدد في 34 مقعدا، والأرثدوكس 11 مقعدا، والكاثوليك 9 مقاعد، والأقليات المسيحية مقعدان.
وسجلت في دفتري، حسب ما أملاه علي مصدري المطلع جدا، أن هناك تحالفات أساسية، أولها بين «حزب الله» و»حركة أمل» التي يرأسها نبيه بري، وثانيها بين «تيار المستقبل» والقوات اللبنانية، كما أن هناك تحالفات ثانوية، بين «تيار المستقبل» والحزب التقدمي الاشتراكي»جنبلاط»، ثم تحالف ثانوي آخر يمثله حزب الله والتيار الحر، أما بخصوص التقاربات فنجد الحزب الاشتراكي التقدمي وحركة أمل» بري وجنبلاط»، تم تقارب آخر يمثله تيار المستقبل والتيار الوطني الحر»عون والحريري»، كما أن هناك تقسيما طائفيا لمؤسسات الدولة والممثلة في «رئاسة الجمهورية، ورئاسة البرلمان، ورئاسة الحكومة». فرئيس الجمهورية ماروني مسيحي، ورئيس البرلمان مسلم شيعي، ونائبه من الأقليات، ورئيس الحكومة سني، ونائبه أرثدوكسي، والقائد الأعلى للجيش ماروني، والمدير العام للأمن العام شيعي، والمدير العام لأمن الدولة مسيحي، والمدير العام للأمن الداخلي سني.
ويأتي ذلك حسب اتفاق الطائف والدستور، وفي لبنان 18 طائفة منها أربعة طوائف مسلمة»الشيعة والسنة والدروز والعلويين» والمسيحيون ثلاثة عشر، أما اليهود فهم مندثرون، في الوقت الذي تشير فيه الإحصائيات إلى ثلاثة آلاف نسمة في لوائح القيد، ولا يمكن للمواطن اللبناني أن يمارس حياته السياسية إلا من خلال طائفته، فالقيد في اللوائح يتم عبر ذلك، والترشيح للانتخابات يتم حسب اللوائح المخصصة لطوائفه، ناهيك أن جميع المناصب في الدولة توزع حسب هذا النمط، وذلك لحفظ التوازن، كما تدخل في هذا التوافق، القنوات الاعلامية الموزعة على هذه الحساسيات.
تركت دفتري جانبا، قلت مع نفسي هناك حلقة فارغة في هذه العملية، وهي الحلقة الناتجة عن التعامل مع المواطن في خندق الآلية، التي تفرض نفسها بالفعل والقوة، بدءا من القيد في اللوائح الانتخابية، وليس انتهاء بالخندق الكبير المتعلق بالطائفة.
تساءلت ربما أن الوضع في لبنان يفرض ذلك، لكن أي وضع هذا الذي يجعل أكثر من نصف اللبنانيين غير معنيين أصلا، لا بالترشيح ولا بالتصويت.
انتبهت إلى تصريح قبلي لأحد الوزراء المنتمين لحزب يعتبر قويا داخل لبنان، عندما اعترف أمام الرأي العام أن اللبنانيين غير راضين عن المنظومة التي ترتب عملية الانتخابات في لبنان، وأن هذه المراحل الانتقالية في إجراء الانتخابات المتفق على معالمها الكبرى ينبغي التفكير في تعديلها، من أجل رفع نسبة المشاركة، وتكسير قفل المقاطعة…


الكاتب : بديعة الراضي

  

بتاريخ : 08/06/2018

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *