أنيس الرافعي، القصّة البرزخيّة المُقيمة في التّخوم

الكتابة القصصيّة عند أنيس الرافعي ورشٌ مفتوح لاشتغال اللغة والبناء والمعرفة القصصيّة الممكنة. كُلُّ مجموعة من مجاميعه هي مشروع أدبيّ وكتابيّ قائم الذّات، بشكله وشخوصه ومرجعيّاته وآلياته واستراتيجياته. قصص أنيس تؤسّس لمبادئ كتابةٍ يلعبُ فيها الكشفُ والتنقيب دورًا لا جدالَ فيه. تغدو الكتابة حقلا واسعا للعمل، مشتلا ومختبرا تجريبيا لكتابة قصصّية لا تكتفي بمكوّن الحكي، ولا تبالي بالشّخصيات إلّا في تفاعلها مع الكائنات الفيزيائيّة والحيوانية والأشياء والأمكنة.
من عنوان المجموعة إلى منتهاها «خياط الهيئات»، كلّ كلمة، كلّ جملة، كلّ فقرة ينبغي الاحتياط في قراءتها على جهة واحدة أو بتأويلٍ واحد. وإذا كان الجنس القصصي بامتياز هو جنس المزْج بين الأجناس [المطلق الأدبي]، فإنّ الكتابة القصصية عند أنيس تؤسّس لهذا المبدأ بكيفيّة جيّدة. بمعنى أنّ الأمر عنده لا يتعلق (أو لا يتعلّق فقط) بتعدّد الحكايات، بقدر ما يتعلّق بتنوّع الأشكال السّردية(وظيفة الخطّ المضغوط، اللغة التراثيّة في الغرزة التشريحيّة: سرد انسيابيّ يعبّر عن حالة السارد، الإيهام بالواقع من خلال توظيف أسماء أعلام واقعيّة معروفة، لكنّها تأخذ بُعدَها التخييلي في النّصوص، الضّمائر تُصبح شخصيّاتٍ حكائيّة: أنا-هو-بيننا). كما أنّ عناصر القصّة، من حكاية ووصْف وشخصيات وزمان ومكان…، توجد في المجموعة مُشتَّتة ومشذَّرَة وموزَّعَة من جديد بواسطة إعادة تركيب مصحوبةٍ بآليات جديدة (السخرية تُجاه هذه التوطينات النّصية الجديدة).
الهيئات جمع هيئة، وهي الحال التي يكون عليها الشّيء، محسوسة كانَتْ أم معقولة. والهيئة الشّارة. والهيئة علم الفلك الذي يبحث في أحْوالِ الأجْرام السماويّة وعلاقة بعضها ببعض وما لها من تأثير في الأرض، والهَيْئات هي الهوّيّات المتعدّدة، والهيْئات، عن طريق المجاورة المرآتيّة هي النّصوص، هي الكتب التي يشير الكاتبُ في الصّفحتيْن (24 و25) إلى أن بعضها يمكن (كالهيئات في الدولاب) أنْ يعديَ البعض الآخر، ويسرّبَ إلى جوفها خلسَةً أجواءها وشخصيّاتها وحواراتها وديكوراتها وحبكاتها ومعمارها.
نحن في الحقيقة أمام إثْنولوغْ قصصيّ يوثّق باللغة لتعدّد السّجلات (شعبيّ -عالِم)، وتعدّد الأساليب (لعِبي – نقدي، وتعدّد النّبرات (ساخرة -درامية)، ممّا يؤدّي إلى تغيير مواثيق القراءة ومسالكها باستمرار. وبدلا من البحث عن وحدة «عضوية» مُفتَرَضَة، تدعونا المجموعة إلى القيام بقراءة حركيّة، تحويليّة، انتقاليّة.
إنه فنّ التركيب والدّمْج الذي يجعل الكتابة القصصيّة أسْلبة بالمعنى القويّ للكلمة. لا وجود لكلمة على سبيل الصدفة، لكل شيءمبررهودلالته. مبدأ لا شيء يقف في وجه الإبداع، مهما بدا متناقضا أو غير ملائم في الظّاهر. يدخلنا أنيس في المظهر اللعبي للسرد الذي ينفلت من إكراه الجنس الأدبي وإكراه القصة النمطية المكرورة. إنّ الراوي في قصص أنيس مثل جُرْد يحفر بنفسه متاهة ويخلق إمكاناتِ الخروج أو الانفلات منها (على غرار الروائي الكبير جورج بيريك). القيود اللغوية والتصويريّة هي التي تخلق إمكانات الخروج هذه، إنْ عن طريق توزيع عناصر متنافرة، والبناء التركيبي للجمل والتحريفات المجازية والكنائيّة للكلمات والعبارات التراثية التي تتجاورُ مع تعبيرات من الدارجة المغربيّة. القيْد مبدأ وليس وسيلة (شكليّة ولا تركيبيّة)، من هنا وظيفته الدّيناميّة
في مجموعة خيّاط الهيئات نجد أنفسنا أمام نصٌّ كوسمولوجيّ لكونه يستثمر مجالا آخر هو مجال الكوسمولوجيا.حركة الكون والأجرام مثلها مثل حركة الكتابة (صعود، نزول، تحوّل، انصهار، ذوبان، الخ). سجلّات واستراتيجيّات الكتابة. رهان خيّاط الهيْئات يتعدّى القضايا التي تتعلٌّق بمزْج الأجناس أو التداخل أو الهُجنة، ليراهِنَ على الحوار العميق وعلى الأخذ في الاعتبار سجلّات تختلف في ظاهرها. لذلك فإنّ أيّ قراءةٍ تنغلق داخل السيّاج الأجناسيّ والموضوعاتيّ للمجموعة لنْ تفضيَ إلى شيء.
بنيةُ المجموعة الحكائيّة (أو هندستها الحكائيّة) رُباعيّة تأخذ الصّورة التالية:
أ – الدّباسة، ب – الغُرزة المتصلة، وتهدف هذه الغرزة إلى التجميع حيث يتم جمع قطعة من قماش حول بعضها البعض على شكل طيَّات صغيرة.وهي تغرز قماشَة الأطياف (محمد شكري).
ج) الغرزة التشريحيّة، وهي عبارة عن غُرزَة مؤقّتة تستخدم بهدف شدّ قطعتين من القماش أو أكثر مع بعضها البعض. وهي تغرز قُماشة السحر (حكاية ميمون بن سوسان المذهّب، رسّام المنمنمات).
هـ) غُرزة ساقِ الغراب [وهي غرزة ثلاثيّة].وهي تغرز قُماشةَ الرهائن.
المحكيّات القصصيّة الأربعة لا تتعاقبُ فضائيًّا فقط، بلْ تتداخلُ وتتعالقُ في ما بينها تيبّوغرافيّا عن طريق المشابِكِ، التي تؤمّن الربط والاستمرارية، وهي من الناحية الشكليّة جُمل تحتها خطّ وطريقة التوزيع النّصي والصيغة (السردية والوصفيّة والتوثيقيّة):
المشبك الأوّل: جملة «المدن الحديثة التي تتأسّس دائما على أنقاضِ المدن القديمة…»، التي وردت في سياق مماثلة الكتابة في الصفحة 30 من الغرزة الأولى، سيُعاد توظيفها (ص. 60) في سياق الحديث عن مدينة طنجة، مع إضافة نعت [الحقيقيّة إلى المدن الحديثة]؛
المشبك الثاني: جملة «كيس بلاستيكيّ أسود اللون…»، في الصفحة 79، الذي كان يمسك به الكاتب الميّت، وبداخله حزمة أوراقٍ مكتوبة بخطّ اليد تحمل عنوان «رحلة حول غرفةٍ بفندق ريتز»، سيعاد توظيفها في الصفحة 87 من الغرزة التشريحيّة وبداخلها ليس العنوان، بلْ رسالة نفيسة في علوم السحر الأسود وتسخير ملوك الجان، بالصدفة داخل أحد الأقبية السّرّيّة بملاح يهودي بمدينة الصويرة؛
المشبك الثالث: جملة «شكل مصغّر وكائن ضئيل يجرّ من ورائه بسلسلةٍ حيوانا لامرئيًّا…»، التي ترد في الصفحة 109، سيُعاد استعمالها في الصفحة 119 من غرزة ساق الغراب
أمّا الموجّْه العامّ لهذه المجموعة رُباعيّة الدّفع فهي الخياطة. الخياطة مثلها مثل الكتابة تتطلّب المعرفة والحِذْق والمهارة والممارسة. تعتبر الخياطة إحدى الخطوات الرئيسية في تجهيز الملابس-النّصوص. آلية الخياطة تحضر في المجموعة كترسانة وأدوات.
ما معنى أنْ تكون كاتبا للقصّة بيدٍ حرفيّة، يدِ الخيّاط تحديدا؟ ما العلاقة بين الكتابة والحياكة؟ التطريز؟ ربّما السّرد نفسه يحيل لغويّا على فعل النسج والحَبْك. وبالتالي فإنّ خيّاط الهيئات القصصية هو سليلُ النبي إدريس الذي كانَ أوّلَ نبيٍّ تعلّمَ الريشة والإبرة، أيْ الكتابة والخياطة
يُضاف إلى ذلكَ المكانة الجديدة التي أُعْطِيت للفضاء النّصّي داخل المجموعة، والذي لمْ يعدْ بمثابة مكوِّنٍ خارجيٍّ أو مُوازٍ للنّصّ (بّاراطيكستْ)، بقدْر ما أصبحَت له وظيفة سرديّة. في الصفحات 11، 33، 42، 44، 48، 50، 61، 66، 116، الخ. وهي صور وزخارف ورسوم توضيحيّة تلعبُ وظائف إحالية لأنّها تبني أثرَ الواقع أو توهمُ به، بمعنى أنّ ما نراه رأيَ العيْن يضفي الشّرعية على المحكيّ الذي قرأناه. يُضاف إلى ذلك تكسير وتيرة وخطّيّة السّرد وخلق المحكيّ المَرْئيّ الذي يمكّن القارئَ من مفاتيحَ لفهم الشخوص ووضْعهم في سياق تاريخيّ واجتماعيّ، ووضْعهم في محيط تفاعليّ. وقبل هذا وذاك، فإنّ الصورة في المجموعة تُساهم في استكمال دورة متخيّل النّصوص. لا يتعلّق الأمر بكُولاج بلْ بمونطاج قصصيّ مُحكم.
الدّباسة[أو الكبّاسة، وهي أداة ميكانيكيّة للتثبيت والربط والتجميع]؛ تستحقّ لوحدها قراءة متعدّدة الجبهات: النّصّ كهيئة ثوب يتمدّد ويتقلّص وينكمش، حيث الحكاية تصعد نحو السّماء، الهواء والغبار، لتعودَ في حركة تنازليّة معكوسة نحو الأرض، التراب، الطين. نحو الخيّاط، خيّاط الهيئات الماسِكِ بإبرة غير مرئيّة، إبرة رمزيّة لحياكة أحوال الشخصيات الورقيّة. يُسند السّاردُ لهذا الخيّاط، طيلة فصول المجموعة أو غُرَزها، مهمّة مزدوجة: رصد أحوال الكوْن في تقلّباته وتحوّلاته الرّمزية والآثارِ التي تخلّفها تفاعُلاته مع الإنسان، ورصد أحوال الحكاية وتقلّباتها وتحوّلاتها والآثار التي تخلّفها تفاعلاتها مع الشّخصيّات (بما فيها الأسماء الحقيقيّة التي يغرزها السارد في سَدا المتخيّل القصصي).
النسيلة: معجميّا معناها الولَدُ والفتيلَةُ والعَسَلُ إِذا ذاب وفارق الشَّمعَ،والنسيلةclone، تُشتقّ من خلايا سابقة يستعمل الكاتبُ النسيلةَ محمّلةً بهذه الدلالات كلِّها: النّسائل هي الاتصال والانفصال، هي النّص الموازي والنصّ المستقلّ بذاته في آنٍ، هي الفتيلة المشتعلة التي يتواصل ضوؤُها في نصّ -جسم لاحق، وهي ما فضُل من عمليّة الخياطة ومن الحكاية –الإطار، الحكاية-الأمّ؛ وهي الأثرُ الذي يولّد حكاية أخرى، كأنّ أنيس يريد أنْ يقول إنّ الحكاياتِ لا تٌبتكر، الحكاياتُ تُكتشَف. هي موجودة هنا والآن، بيننا، ولا تحتاج إلّا إلى إبْرة الخيّاط الرمزية وغُرَزها.
والنسائل\النسول أربعة تتوالى في خطّ تنازُليّ (حاشية حردة الرقبة، حاشية دائرة الوسط، حاشية تقويرة الكمين، وحاشية حافتي البنطلون ). تُختتم النسائل بمشْبَكٍ هو الذي، في علاقته بالنسيلة وبفضل التكرارات، يضْمَن الاستمرارية والانسجام السّرّي بين النصوص. المشابكُ يوردها السّارد، ليس في آخر القصّة كما هو الشّأن مع النسيلة، بلْ يوردها في آخر هذه الأخيرة، في آخر النّص الموازي ليخلُق نصّا شقيقًا هذه المرّة.
النّسائل والمشابك في خيّاط الهيئات تدلّ على مسألة جوهريّة في الخطاب الأدبي الحديث، وهي أنّ هناكَ بُعداً زمنيّا للنّص، أو بتعبيرٍ أدقّ لصيرورة النّص. النّصّ يبقى في النهاية (أو في البداية) أثرًا لتحوّلات، ويشتمل على ذاكرة تشكّله الخاصّ. آثارُ النّصّ هي بمثابة قرائن ومؤشرات ماديةومخطوطات غير مرئيّة وطروس تنطوي على ذاكرة نصوص سابقة. الإشارة إلى الروائي الأرجنتيني César Aira على سبيل المثال.
خيّاطُ الهيئاتُ، الرّجُلُ ذو الحِرفتيْن، ذو النّطاقيْن (نطاق الوجود ونطاق الكتابة)، ليس همّه هو وضْع القوانينِ ولا تقديم النماذج. هو جمّاعُ أثوابٍ وقصص وأيقونات:
الأيقونات في المجموعة عددها أربع تُفتتح بها القُماشات (النسيج المحكيّ أو نسيج المحكي): أيقونة ماندالا من أمريكا اللاتينية، أيقونة ماندالا الأوروبيّة، أيقونة ماندالا الإفريقيّة (قُماشة السّحر) وهي قناع يشير إلى صورة حيوان؛ وأخيرا أيقونة ماندالا البوذيّة، أيقونة الضفدعة الكونيّة التي تُرسم عليها مختلف الحسابات الفَلَكية (قماشة الرهائن). دلالات السلحفاة في القصّة: محطة السلاحف حتى الطرامواي باعتباره سلحفاة حديدية كبرى. لماذا يفتتح الكاتبُ المحكيّات الأربعة بأربعِ أيقونات لماندالات تعود لأربع جهات وأربع ثقافاتٍ؟.
لإبراز الدّور الوظيفيّ لهذه الأيقونات الأربع في المجموعة، يستعمل الكاتب (الذي أعطى لنفسه مهمّة المساعد الاحتياطي الثالث لخياط الهيئات) توصيفاتٍ صوفيةً قائلا: «خيّاط الهيئات هو أيضا جمّاعُ أيقوناتٍ هندسيّة (عددها أربع مثل الأوتاد لتثبيت القلبِ على مقاماتِ القصّ وترسيخ القدم في ولاية التجريب) بالأبيض والأسود لونها، تتشكّل من نقوشٍ متوازية بنظام محدّد متساوي الأضلاع يلُمُّ في ضفيرةٍ واحدة بين الكون في لاتناهيه الميتافريقيّ وبين جزئيّاته الدقيقة. وعند اتّحاد «دوائر الماندالا» ذات الأثر الاستشفائي (الدوائر: استعارة بديلة لحلقات التطريز الخيزرانيّة، وبنية مُضمَرة للكتابة بوصْفها قرصا له مركز ومحيط وحضرة برزخيّة بين الغيب والشهادة).
«الأوتاد، المقامات، الولاية، الاتحاد، البرزخ، الدليل الروحي….»، نحن في قلب اللغة الصوفية المُكثّفة والمُغرَّزَة، لغة الباطن والكشف.
«الأوتاد»:أربعة في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون، الواحد منهم يحفظ الله به المشرق وولايته فيه، والآخر المغرب والآخر الجنوب والآخر الشمال والتقسيم من الكعبة.مهمتهم حفظ الأرض من كل سوء أو شر، ولكلّ واحد مقام جهة من جهات الأرض.والمقام «مايتحقق به العبد بمنازلته من الآداب، مما يتوصل اليه بنوع تصرف، ويتحقق به بضرب تطلب، ومقاساة تكلف. (القشيري)؛والوَلاية محبّة وقرب دائمان، وكسب ذاتيّ لا انتهاءَ له؛ والاتحاد امتزاج الشيئين واختلاطهما حتى يصيرا شيئاً واحداً.أمّا البرزخ الصوفي فمعناه أنّ العالَمَ، على الأقلّ بالمعنى الذي نجده عند متصوف مثل ابن عربي، فيتألف العالم مِنْ عالَمَيْن، ولكل عالَم حضرةٌ تقابله. فحضرة الغيب تقابل عالمَ الغيب والملكوت، وحضرة الحسّ والشهادة تقابل عالم الشهادة الذي يعيش فيه ابن آدم..وبين العالمين حضرة ثالثة، برزخية، هي حضرة الخيال، عالَم الرموز والدّلالات حيث تظهر المعاني في قوالب محسوسة، فيتحوّل معنى العلم إلى صورة اللبن، والموت إلى صورة كبش أملح.
تجربة أنيس الرافعي كلها استعارة برزخيّة لأنها تؤسّس لكتابة حدودية، كتابة البيْن بيْن، وهو نفسُهُ قاصّ يقيم في منطقة برزخيّة بين الأجيال والاتجاهات والأهواء القصصيّة.
وعند الوصول إلى هذا الاتحاد، فإنّ القارئَ، في النهاية، سيحصل على الشكل الختامي [الأوبرالي] المتعدّد الأصوات البوليفونيّة والطبقات والأشكال للكتاب القصصي [الأوركسترالي] المتعدّد العازفين والآلات، وعلى الدّليل الروحي للوصول إلى الحقيقة الدّفينة والنهائيّة للكائن باعتباره وترا فائقًا داخل السمفونيّة الكونيّة. (ص. 18).
هلْ يمكنُ القوْل إنّ الفانطاستيكَ هو أَحَدُ الآلياتِ الحادّة المؤسِّسَة للكتابة القصصيّة عند أنيس الرافعي؟ الفانطاستيك الذي يتغذّى مِنَ العجائبيّ بمكوّناته الكونيّة والحيوانية (يشكّل الحيوان حقلا معجميا ودلاليا قائما بذاته في خيّاط الهيئات): في البناءِ، بناءِ الشخوص وبناء الزّمن وبناء الحَدَث وبناء الدّلالة. آلية الفانطاستيك التي كل شيء في كل شي: الإنساني في الحيواني والحيواني في النباتي والنباتي في الكوني والكوني في النّصّي في دوائر تصيب بالدوار القصصي. وفي ذلك لم يكن أنيس في حاجة إلى شخوص فوق طبيعية أوخارقة أو مفارقة لشرطها الإنساني، بقدْر ما يحتاج إلى الأشْيَاءِ الصّغيرة، الموضوعات البسيطة، العلاقات الثنائيّة غير الممتدّة، الفضاءات والأمكنة غير المتوقَّعة، الخ. ذلكَ الفانطاستيك الذي يُوَلِّدُ لَدَى القارئِ الإحساسَ بالتردّد ويولّد الإحساسَ بالغرابةِ المُقْلِقَةِ. «الغرابةُ المقلقة» التي تُوَسِّعُ من إمكاناتِ المتخيَّل القائمِ على عنصر المفاجأة والمُفارَقَة واللّاتوقُّعِ، وتدفع القارئَ إلى الانفتاح على قُبْح العالَم وبشاعته، وعلى الخطابات الجوفاء والعاهات البشرية اليوميّة، وتجعل المتلقي وجهًا لوجْه أمامَ كائناتٍ وملامحَ مختلفةٍ وأحداثٍ لاواقعيّة وعوالمَ مغايرة. كِتَابَةُ الغَرَابَة المُقلقة هي كتابَة عدم الرّضا وَرَفْض الواقع القائم. لذلك تُبنى الفصول والأمكنة والشخصيات والحيوانات والأرقام بناءً مرآويّا ينعكس فيه كلُّ شيء في كلّ شيء، بدْءًا من ثنائية الكوسموسواللوغوس إلى ثنائية الإنسان والحيوان (تتكرّر كلمة «مرآة» ومشتقّاتها في خيّاط الهيئات في أكثر من موقع: المرآة الكاشفة والمُضاعِفة، والمرآة الماحية أيضا، التي تخفي أحيانا بتعمّد وهي تحاول أنْ تُظهر. ص. 77). هي المرآة التي تجعل الكتابَةَ القصصيّة عند أنيس الرافعي كتابة تُخوميّة وبرزخيّة بين الأشكال والأساليب والأجيال.

 
* ورقة قدمت في اللقاء الاحتفائي بالقاص أنيس الرافعي بمركز أجيال للثقافة
في 2 يونيو الجاري


الكاتب : مصطفى النحال *

  

بتاريخ : 08/06/2018