«كلام الصحرا» فيلم مغربي يراهن على جماليات البطء

ظل المخرج السينمائي والفوتوغرافي داوود أولاد السيد يراهن على جماليات البطء عبر الاقتصاد في حركة الكاميرا وإنتاج حركة بديلة على الشاشة، والعمل على دعم تلك المكوّنات بشريط صوتي غنيّ بالصمت وجمع للأصوات المنسجمة مع الإيقاع الفيلمي الذي يرفع من إثارة أحاسيس المتلقي، وهو ما لمسناه في فيلمه الجديد “كْلامْ الصّحْرا” الذي لا ينفصل عن رؤيته الفوتوغرافية

 

يربط لفنان الفوتوغرافي والمخرج السينمائي المغربي داوود أولاد السيد في فيلمه الجديد “كْلامْ الصّحرا” كعادته الفوتوغرافيا بالسينما، وهو المسار الذي اختاره أولاد السيد وراكمه وتميّز به، ممّا جعله يكون واحدا من أهم المخرجين المغاربة الذين ذاع صيتهم خارج بلدهم.

إيقاع مغاير

يعود داوود أولاد السيد إلى فضاء الصحراء، والجنوب المغربي عامة، كعادته في كل أفلامه الروائية الطويلة، إذ يبدأ الشاب اليتيم “مولود” (قام بالدور نورالدين سعدان) رحلة بحث عن أبيه تنطلق من مراكش، لعله يكشف لغز إيداعه في دار للأيتام، وتخلّي أسرته عنه والتي يجهل عنها كل شيء، بطريقة غير مفهومة منذ الولادة.
ويستند الفيلم إلى حكاية مطروقة في الحكي الأدبي والفيلمي، تتذرع برسالة عثر عليها الشاب مُودعة داخل قارورة زجاجية مملوءة برمال الصحراء. هكذا، ستكون الصحراء فضاء جامعا لمصائر ثلاث شخصيات، وستتحوّل الرمال إلى مطيّة للسرد الفيلمي.
وسيلتقي الشاب بالشيخ “حمّادي” (أحمد الشحيمة) الذي يعيش رفقة زوجته على أمل عودة ابنه الوحيد، المُسافر بعيدا، وسيتعرّف على طالبة (هاجر الشركي) تسعى من خلال بحثها الأكاديمي المتعلق بتجميع التراث الشفهي (القصائد الزجلية) إلى تخليد ذاكرة أبيها والمنطقة كافة.
ويكرّس المخرج الاشتغال على البطء كمكوّن أساسي في سينماه، وذلك باختياره “اللقطة-المشهد” كإستراتيجية للكشف عن نمط العيش في المناطق الصحراوية التي تسير على إيقاع مغاير، يختلف جوهريا عمّا يجري في المدن الكبرى.

وبالعودة إلى تاريخ السينما، تسعفنا أفلام “الويسترن” الأميركية في فهم طبيعة هذه اللقطات في التعامل مع الفضاءات الشاسعة، والوقائع البطيئة، وذلك ما يجعل السينما تنفذ إلى الأعماق النفسية للشخصيات، ومنها للذات الإنسانية التي يشفيها السفر، ويسعفها في التفريج عمّا يعتمل في دواخلها من ذكريات مكبوتة، وهواجس ضاغطة قد لا يمكن تجاوزها دون كشف خيوطها المجهولة أو الملغزة.
وبهذا يكون فيلم “كْلامْ الصّحْرا” عبارة عن متوالية بصرية تتأسّس على منظومة من المشاهد ذات الجاذبية البصرية الخاصة بالنظر إلى جمالية تأطيرها وتركيبتها المبنية على عمق المجال، والبحث في زوايا التصوير في علاقتها بالمنظور، ووضعية الشخوص وبقية العناصر المُشكّلة لإطار الصورة السينمائية.

وفي هذا الفيلم يمكن الانتباه إلى تعميق المخرج البحث في ما يقع خارج الإطار، وخارج مجال الصورة عموما، وكذلك في اعتماده الفني المكثّف والموفّق لتقنية الصوت الخارجي كأسلوب سردي ينبعث ممّا لا يراه المتفرج، إذ كنا أمام عدة مشاهد يخضع فيها التقطيع الفيلمي أو المشهدي لتلك التقنية، وهو ما يفسح المجال أمام الاشتغال على البعد اللامرئي في الصورة كما يحدث أكثر في التشكيل والفوتوغرافيا ممّا يستدعي تحفيز الجهاز الحسي للإنسان، واستدعاء خياله وعقله للتفكير في المجرد.
وبالقدر الذي نعتبر فيه السينما فنا للإظهار والكشف، فإن الخفي واللامنكشف يصاحبان فيه الظاهر والمجسّد بشكل حميمي وحتمي، ويمكن النظر إلى اللامرئي في هذا الفيلم من خلال ثلاثة جوانب، أو وجهات نظر، تهمّ الشق المادي والشق النفسي والشق الروحي.

هشاشة السيناريو

يرى الكثير من النقاد وعشاق السينما والمرتبطين بها أن هذا الفيلم يعرف تراجعا كبيرا مقارنة مع أفلام المخرج السابق، وأعتقد أن السبب يعود إلى ترحيل الحكاية إلى الصحراء، والتفاوت المهول في طاقة الممثلين إلى درجة صار الممثل أحمد الشحيمة حاملا لثقل الفيلم على عاتقه، فقد كان مندمجا في الموضوع، ومنسجما مع روح الشخصية، وهو الأمر الذي لم نلمسه لدى الشخصيات الأخرى التي اكتفى بعضها بالأداء فقط، مع الإشارة إلى أن الشاب نورالدين سعدان ظل متجهما طيلة الفيلم، محافظا على ملامح ثابتة، وغير عاكسة تماما لحالاته النفسية، وإن كان مبرّر هذا أنه يعيش شرخا نفسيا بليغا جراء قلقه الوجودي المرتبط بجهله لأصوله.
ولكن الإنسان مهما بلغت به درجة اللاطمأنينة لا بد أن يجد بعض الأشخاص أو يصادف بعض المواقف التي تعود به إلى تلقائيته وعفويته وإنسانيته، وهنا ينجلي الوعي العميق بالشخصية التي يمكن أن يتقمصها مُمثّل معيّن، وأن يعمل المخرج على إدارة إيصالها إلى المتلقّي دون زيادة أو نقصان كي تكون أكثر صدقية.

وتتمثل مشاكل الكتابة السيناريستية في هشاشة الخيط الجامع بين الشخصيات، ونقصان المكوّنات الدرامية المبرّرة لمختلف العلاقات بينها، إذ لا يمكن أن تلعب الصدفة دور الرابط الأساسي في تطوّر الحدث، وإن تمّ ذلك فالتعويض يكون بواسطة عوامل أخرى قد تتمثل في نوايا الشخوص وانشغالاتهم أو جاذبية الإخراج، وهي أمور ظاهرة الهشاشة لم تستطع تلك القصائد المُعبّرة أن تشكّل الأرضية الصلبة والجامعة لها، بل بدت مُقحمة في غالبيتها، وغير متساوقة مع الفضاء الفيلمي ومناخه العام.

ومع ذلك فإن الجهد المبذول في الإخراج، وخاصة الاشتغال الكبير على جماليات الصورة، قد شكّل المحفّز على تخيّل ذلك التيه الداخلي الذي يعانيه الشاب الباحث عن الأب، والذي كان باعثا أو معادلا لما يمكن أن نسميه التيه البصري الذي سعى المخرج إلى تأطيره أو التلميح إلى اللامرئي منه.

واحتفت الصورة في فيلم “كلامْ الصحرا” بجمالالصحراء ورمالها وكثبانها وصفرة لونها في جوّ ربيعي اختاره المخرج عن قصد، وهو الذي خبر خصوصيات الضوء في الصحراء عبر مختلف فصول السنة، لذلك، لم يخلف عشّاق مثل هذه السينما ومتذوّقيها شغف الاستمتاع بها، والنظر ببطء إلى العالم بغية تعميق الصلة بأشكال الهشاشة التي تثيرها جمالية الصور، وما يمكن أن تفيض به النفس وتستلهمه من مشاعر تدفع نحو الحلم والاستلهام(عن العرب).


بتاريخ : 09/06/2018

أخبار مرتبطة

  أوضح أحمد الحسني رئيس مؤسسة مهرجان تطوان للسنينا النتوسطية أن الدورة 29 للمهرجان ستعرف عرض اثني عشر فيلما متوسطيا

تستعد مدينة مشرع بلقصيري، خلال الفترة الممتدة ما بين 4 و 6 ماي المقبل، لاحتضان فعاليات الدورة الأولى لمهرجان سينمائي

  يستمر المهرجان الدولي للسينما المستقلة في مساره بخطى تابثة و مطمئنة، حيث شهد المركب الثقافي محمد زفزاف بالدارالبيضاء، ليلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *