عن تلك القصة أحكي

حَضَرَنِي جنّيُّ القِصّةِ، وأردْتُ أن أكتبَ واحدة، طاوَعَـتْـنِي الرَّغبَةُ ولم تُطاوعني اللغة.. الفِكرة بسيطة تسير أمامي في غنج، واللغة عصيّة تتشبّث بالمستحيل.
حاولتُ أن أراوغ، هل أسَجّل العنوانَ ثم أسترسلُ في الكتابة؟ أيّ عنوانٍ يكون موحيا، مُـبْهما، رشيقا، فاتنا، آسِرا.. له معنى دقيق مثل ما تعنيه يَـدُ صبِيٍّ بين قبْضةِ أمه، وهي تسير مُسرعة تحت مطر خفيف..!
مِن الأفضلِ أخْذُ لقطةٍ مُكبّرة لتلك اليَدِ الصغيرة وهي بيْنَ دفْءِ أصابع قابضة بحَنان وقسوة.. الصورة الفوتوغرافية بليغة. لكن مسألة المطر الخفيف، والسرعة في المشي، لا يُمكن القبضُ عليها ضمن تلك الصورة الفوتوغرافية، ووضعها عوض عنوانٍ مُحتمَلٍ بالكلمات..
أما خفقانُ القلبين، فلا يُمكن بالمطلق دمْجُ وصفيهما سواء مع الصورة أو النص المحتمل!
بماذا يحس الصبي؟ هل في أمان مع أمه؟ أم يشعر بالقلق؟ ما رغبته في هذه اللحظة وهو يُجاري مُكرها هَروَلةً بخطوات واسعة؟ وهل يهمّ الأمّ البحث عن ملجأ يقيهما المطر؟ أم تسعى إلى غايتها مهْما كان الثمن؟ واستعجال وضْعِ نهايةٍ لهذه الخَرْجَةِ غير المناسبة تحت المطر؟ هل كانت لا تعلم بِمَقْدَمِ المطر؟ وهلِ العلمُ بالشيء يَصْلُحُ لتجاوزِ صِعابِهِ؟
هذا فقط عن العنوان الذي يقود إلى متاهات لا تنتهي، ورغم صغر العنوان وتَـشكُّلِهِ مِن مُفردةٍ أو كلمات قليلة جدا، فهو ثقيل على اللسان ولا يفي بالبرهان.. مِن اللازم على القصة أن تقبض على التفاصيل باقتصاد غير مُجْحف..
أفترضُ توجّها آخرَ مُختلفا؛ أترك العنوان إلى النهاية، وبعدما يتشيّدُ النص، ويعلو مِعمارُهُ كمنزلٍ مُناسب للسكن، أختار له بابا يُناسِبُهُ، وعَتبةً تكونُ مَدخلَهُ البارزَ لِوُلوجِهِ عَن رغبَة وحُبّ.. القصة مَنزلٌ متكامل بنوافذَ مُشرَعة..
إذا كان النص ينطلق مثلا مِن:
شاهدتُ امرأةً تَجُرُّ طفلَها، وهي تهرول بالشارع تحت مطر خفيف..
كل كلمة سأضعها، أو جملة أنحتُها، تُشكّلُ جزءًا ثابتا مِن بناء نهائي لا يَـقبَل المُراجعة! وكُلُّ هدْم وإعادة البناء، عملية مُكْلفة، ولا معنى لها، سوى أنها دليلٌ كافٍ عن غيابِ مُهندس بارع!
هل يجبُ عليّ وضع خُطة لكل قصة تبتدئ بتحديد الشخوص؟  أمْ بضبط الأحداث والتحكم في المنعرجات وخلق مَشاهِدَ جديدةٍ تكون شاهِدَةً على تشكُّل هيولا جديدة!
في الحالة الأولى، لا تكتمل الشخصية بدون علائق مع الأحداث. وفي الوضعية الثانية، لا تستقيم الأحداث بدون فاعلين يصنعونها ويَحْيَوْنَهَا.
عليّ أن أكتب قصة.. أن أزيحَ عن كاهِلي ثِقلا..
هل مِن الضروري أن تكون القصة ذات تدَرُّجٍ ومسارٍ خَطيّ؟ ولها شخوص مِن طبيعة عادية مُشخصَنَةٍ؟ مثل بَشر مِن لحم ودم أعرفهم، أو أتخيّلهم؟ أمْ لك أيها القارئ وحدك أن تكشف عن منعرجاتها؟ إذا كنتَ عاشقا لسبْر المتاهات، حيث ذاتك تُداريك وتختفي عنك.
هل الحدث يجب أن يكون له امتدادٌ في الواقع؟ فأكتب عن انتحار جاري الطيّب ذي النظارات الطبية؟ أو عَن توهان قطار في غابة الأمازون مثلا؟!
وأنا أتساءل، أرى أمامي الآن جزءا مِن عنوان كبير مُثبت على جريدة مطوية على سريري، يظهر من العنوان كلمتانِ بخط غليظ: «السرّ في..». ليستْ لي رغبة في فتح الجريدة وقراءة العنوان كاملا.. بالمناسبة، قد أكتب في غرفة النوم أو في قاعة مقهى أو على رمال الشاطئ!
أمس كنت بمقهى، ولما رنّ هاتفُ زبونٍ كان يُجاوِرُني، ظل يَرُدُّ بتكرارهِ: نعم، نعم.. وقبْل نِهاية المُكالمة، خاطب المُتحدِّثَ إليه بقوله «كُـلْ شي كايْـن»! لا يهمني بالمطلق مع مَن كان يتحدث، ولا ماذا كان يقول..
ألا يمكن اعتبار العنوان المبتور بالجريدة، والجواب الغامض لزبون المقهى، عنوانين لقصة مشوقة؟ أو بداية لها؟
سألت مرة صديقا ناقدا كنتُ أجالِسُهُ بمقهى، عمّا تعنيه له القصة؟
حك رأسه، نظر مَليا إلى الأرض، ثم رفعَ نظره عاليا كفرسٍ جَمُوحٍ، تنفس بعمق وقال:
القصة وَرْطة، إقرار، لَعب، شوْق، تشظي، تيه..
لم أردَّ عليه، ولم أطرح سؤالا آخر… رَشفتُ ما تبقى في قعر الكأس مِن قهوة سوداء مُرّة، وقُمْت أتمشى في الشارع لَعلّي أجدُ قصة.


الكاتب : مصطفى لمودن

  

بتاريخ : 13/07/2018