بُوثًلـْمسيردين

1.
قلت : من الواجبِ أن تتحجَّجَ إلاَّ بما ترَاه العين ؛ فالأذنُ خديعة والعينُ بصيرة .
قال : هذا يكفينا من الوساوس و المحن . حورياتٌ البحر بشعْرهنَّ السَّابغ من نور يُضئـْن سماء آيت عبو ، رأيتهن بأم عيني ، فجر ذاك اليوم الأغبر ، يتوضَّأن ، ويُطرْطشن أجسادَهن العارية بماء عين بُوثـْلمْسيردين.
قلت : إنَّ الملائكة تطوفُ مجالسَنا ، فلا فزع و لا حزن إذن ، وأينما وليت وجهك ، تجدُ كلامَه جلَّ علاه.
قال : عينُ بُوثـْلمْسيردين ؛عينٌ جَلاَّبة الأذى … لِمَ لمْ تقل طلعُ دُغلها كرؤوسِ الشياطين ؟ موضع تحفه أقدام … لا كالأقدام ، تبقى راسخة أبدا كجُذور الطـَّلح في الفلاة .
2.
عند الحجرة الملساء ، مجلس ينشط كلما ضاقت القرية ضائقة ، جلسوا جميعا ، قابعين وراء الهمِّ و الغمِّ ؛ تسري فيهم رجفة خوف تعْتلجُ في صدورهم . صورٌ تثرى في أذهانهم عمَّا تجلبُه هذه العين المائيَّة من الدَّهشة والأسى ، غير أنها فيَّاضة بماء رقراق زُلال ينعش الروح و البدن .
لم يتوانَ عَبّو في تغوير هذا الجرح الدَّامي بحكي مستفيض ، حول ما لقاه في بُوثـْلمْسيردين ليلة النُّحور ؛ ليلةٌ قدَّاحة ريح صَرْصر عاتيَّة … جلس فيها بين الأشنَّة والدُّغل يتوضَّأ لصلاة العشاء قبل أن يصعدَ عبر المسالك الوعرة إلى المسيد ، حيث ترك محافل أقدام تتراقص لأجساد يَسْبغُ لها شعرها ، حتى كاد أن يغطي باحة العين المائية كلها . من الفزع … والوجل … والضَّيْم أيضا …قام من مجلسه ملسوعا ، كأنه أصيب بهمس جنون ، دون أن يتمم فرائض وضوئه ، و قـُطيرات ماء عين بُوثـِلْمْسِيرْدين تلمع كالكريستال ، وتتندى على وجهه المُصحَّن ، مُخللة ًلحيته الشعتاءَ الشمْطاءَ.
ـ وا كبدي ! أضنى الأسى كبدي ، ونالني ما يشبه القـُداد ، إنه يعتصرني…
ذاك الرقص بتلك الوجوه ، وبذاك المكان …لايزال يزلزل ذهني ، ويذكرني باليوم الموعود ؛ يوم القيامة. يُستعادُ كشريط مُلفِح لا يكفُّ عن الدوران … مررتُ بمدن كثيرة ، وصادفت وجوها عدة في الشوارع والطرقات وعند وصائد المساجد و الكنائس و المعابد القديمة . لاحقتُ أطيافا بنفسجيَّة تحوم في سماءات مدن نائمة ، وعند المطارات وفي صور جوازات السَّفر … وفي عيون القتلى والمجرمين والمهجَّرين من أوطانهم والنشَّالين والفاسدين والصَّالحين ؛ ولم أعثر عليهن … اِستيقظ جمالٌ عابرٌ تحت جلدي ، واخترقني كشعاع قرمزي فاتن .
3.
سمعتُ من نداءاتٍ بعيدة وغامضة أن ماءَ عين بُوثًلـْمسيردين ، أوجدها اللهُ كي تكون بجوار الرُّموس ؛ فجاءت إليكِ يا عينيَّ الرَّوامسُ ، لا تبقي ولا تذر . تقدح شراراتها ، فتدفن ما تبقى من البشر والحجر.
4.
عين بُوثًلـْمسيردين ستبقى عينُ الله …


الكاتب : ذ. رشيد سكري

  

بتاريخ : 13/07/2018