وسائل الاعلام التقليدية تتصدى للتضليل الإعلامي والبرازيل تتصدى للآفة بالمدرسة..

دق انتشار الشائعات والاخبار غير الصحيحة قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية في العام 2016 وقبل الاستفتاء على بريكست في المملكة المتحدة ناقوس الخطر لدى وسائل الاعلام التقليدية التي باتت تعطي الأولوية لترسيخ مصداقيتها من خلال دور ريادي في حملة التصدي للتضليل الاعلامي.
عززت المنظمات الإعلامية الكبرى التي تقيم في كثير من الأحيان شراكة مع شركات التكنولوجيا الكبرى وشبكات التواصل الاجتماعي من عمليات التدقيق وتقصي الحقائق وغيرها من الخطوات لدعم الصحافة القائمة على الحقائق.
ولكن هذه الجهود تعقدت بسبب الهجمات المتواصلة على وسائل الإعلام التي يشنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب وغيره ممن يميلون إلى تصنيف أي تغطية غير مواتية لهم على أنها «أخبار كاذبة».
إن «الأخبار الكاذبة» قديمة قدم الصحافة نفسها وكثيرا ما لعبت المؤسسات الإعلامية ذات السمعة الطيبة دور «حارس المرمى» حرصا على نشر أنباء موثوق بها.
لكن هذا الدور بات يواجه صعوبات وتحديات جمة في عصر الإنترنت الذي يتيح انتشار الشائعات والأخبار الكاذبة بسرعة وعلى نطاق واسع لتخلف في بعض الأحيان نتائج مأساوية.
ومن الأمثلة المرعبة ما حدث في الهند حيث انتشرت إشاعة على «واتس أب» تحذر من أن 300 شخص نزلوا إلى ولاية غوجارات وانهم عازمون على خطف وبيع الأطفال، الأمر الذي تسبب بهجمات غوغائية مميتة.
قال جون هكسفورد، أستاذ الصحافة في جامعة ولاية إلينوي، «أصبحت الأمور أسوأ بكثير مع وسائل التواصل الاجتماعي لأنها سهلت على غير الصحافيين تجاوز حراس المرمى المحررين وبات أي شخص قادر على نشر أي شيء مهما كان متحيزا أو غير دقيق أو ملفقا».
وأضاف «كان دور حارس المرمى الذي تتولاه الصحيفة لتقرر ما هو خبر وما ليس خبرا دائما مثيرا للجدل، لكننا نرى الآن إلى أي مدى يمكن أن تسوء الأمور عندما تنهار هذه الوظيفة».
لقد عززت شركات الإنترنت، بعد ترددها في البدء في تعريف نفسها على أنها «وسائل الإعلام»، الجهود الرامية إلى تحديد الأخبار الكاذبة واعتماد الأخبار والمقالات التي تأتي من مصادر «موثوقة».
وأفاد تقرير صدر في مارس 2018 عن مركز تاو للصحافة الرقمية بجامعة كولومبيا الأميركية أن «شركات التكنولوجيا بما في ذلك أبل وغوغل وسناب تشات وتويتر وفيسبوك على وجه الخصوص تولت معظم وظائف المؤسسات الإخبارية وأصبحت لاعبا رئيسيا في عالم الأخبار سواء أرادت ذلك الدور أم لم ترده».
أظهر العديد من الدراسات أن الأخبار الملفقة والتي غالبا ما تكون أكثر إثارة من المعلومات الحقيقية تنتشر بسرعة أكبر على الإنترنت نظرا لاتاحة الانتشار السريع والواسع عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
وأفاد تقرير صدر هذا العام عن معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أن «الأخبار السياسية الكاذبة انتشرت بصورة أعمق وعلى نطاق أوسع، ووصلت إلى عدد أكبر من الناس وكانت أكثر انتشارا من أي فئة أخرى من المعلومات الكاذبة».
تقصى باحثو معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا 126000 شائعة نشرها ثلاثة ملايين شخص ووجدوا أن عدد الأشخاص الذين وصلت إليهم الأخبار الكاذبة كان أكبر ممن تلقوا الأخبار الصحيحة. ووجد التحليل أن الحقيقة احتاجت وقتا أكبر بستة أضعاف من الأخبار الكاذبة لتصل إلى 1500 شخص.
وكتب الباحثان في جامعة أوكسفورد سامانثا برادشو وفيلب هوارد «إن السرعة والحجم الذي ينتشر فيه المحتوى «على نطاق واسع» يتزايد بسرعة كبيرة «بغض النظر عما إذا كانت المعلومات التي يحتوي عليها صحيحة أم لا».
وقال هكسفورد إن العديد من مستخدمي الإنترنت ليسوا بارعين في التمييز بين الأخبار الملفقة والصحيحة وهذا يجعل دور المنظمات الإخبارية الرئيسية أساسيا .
وأضاف «من هنا نفهم مدى الضرر الذي يتسبب به ترامب عندما يصم عن غير حق وسائل الإعلام الرئيسية بأنها ‹أخبار كاذبة›. هذا يعني أنه في الوقت الذي يوجد فيه الكثير من التلفيق والأكاذيب التي تحوم في الأجواء من كل حدب وصوب، يجري تقويض مصداقية مصادر الأخبار الأكثر موثوقية».
لقد رأت وسائل الإعلام في بعض الإشارات مدعاة للأمل مثل تزايد الاشتراكات الرقمية لدى نيويورك تايمز وواشنطن بوست. لكن العديد من المؤسسات العريقة مثل الصحف المحلية تعاني مع التحول إلى المنصات الرقمية.
قد يواجه الصحافيون أخطارا جديدة في البيئة الحالية وهم في بعض الحالات عرضة لهجمات القادة السياسيين حتى عندما يحاولون كشف المعلومات الخاطئة.
في البرازيل، تعرضت جمعيتا «لوبا» و»أوس فاتوس» لتقصي الحقائق واللتان عقدتا شراكة مع فيسبوك للحد من الأخبار الملفقة، تهديدات ومضايقات، حتى أن بعض المجموعات اتهمتها بالتحيز الأيديولوجي.
من ناحية أخرى، ألغت الحكومة الفيليبينية ترخيص موقع «رابلر» الذي انضم أيضا إلى جهود تقصي الحقائق ضد الرئيس رودريغو دوتيرتي.
وفي حين تحظى الصحافة في الولايات المتحدة بحماية دستورية واسعة، بقول البعض إن هجمات ترامب تترك تأثيرا . وبعد الهجوم المميت على غرفة أخبار في أنابوليس بولاية مريلاند، قال أحد الكتاب البارزين إن هجمات ترامب مهدت الطريق للعنف ضد الصحفيين.
وقالت جينيفر روبن الكاتبة في واشنطن بوست في مقابلة مع شبكة «اتش بي أو»، «إنه يسمينا أعداء الشعب ويقول إننا لسنا وطنيين ولا نحب بلدنا ثم نفاجأ عندما يحمل أحدهم السلاح ليقتلنا».
مع اتساع انتشار الأخبار الملفقة على مستوى العالم، بالمثل اتسع نطاق تقصي الحقائق مع وجود 149 مبادرة تعمل الآن في 53 دولة، وفقا لمختبر مراسلي جامعة ديوك.
وعقدت شركة فيسبوك شراكات لتقصي الحقائق مع 25 مؤسسة بما في ذلك وكالة فرانس برس في 14 بلدا لوقف انتشار المعلومات المضللة.
ولكن حتى تقصي الحقائق له حدوده وسيستمر بعض الأشخاص في تصديق المعلومات الزائفة بغض النظر عن جهود التقصي والتحقق، مثلما أظهرت بعض الدراسات.
في أواخر العام 2016، أطلق مسلح النار في مطعم للبيتزا في واشنطن على أساس الاعتقاد الخاطئ بأنه كان موقع عصابة تستغل الأطفال جنسيا تم ربطها بهيلاري كلينتون. ووفقا لمغالطة أخرى واسعة الانتشار، قال 51 في المائة من الناخبين الجمهوريين في استطلاع حديث إنهم يعتقدون أن الرئيس السابق باراك أوباما ولد في كينيا.

وأظهر استطلاع أجراه مركز «بيو» للأبحاث في العام الماضي أن ثلثي البالغين في الولايات المتحدة يقولون إن قصص الأخبار الملفقة تسبب الكثير من الالتباس حول الحقائق الأساسية المتعلقة بالقضايا والأحداث الراهنة.

ووجد الاستطلاع أيض ا أن 23 بالمائة قالوا بأنهم شاركوا قصة إخبارية ملفقة مع أن ما يقرب من نصف هؤلاء قالوا إنهم كانوا يعرفون أنها كاذبة في ذلك الوقت.

المدارس البرازيلية تتصدى

فرضت البرازيل على المدارس تعليم مادة التحليل الاعلامي في قرار يهدف الى التصدي لظاهرة تفشي «الاخبار الكاذبة» على شبكة الانترنت.
ويشهد العالم نقاشات متزايدة حول مشكلة اجتياح المعلومات المتفلتة من اي ضوابط لوسائل التواصل الاجتماعي، والتي يتم تحميلها بواسطة اشخاص لا يقيمون اي اعتبار لاخلاقيات الصحافة، ولعدم الانحياز او حتى للحقيقة.
ويشكل مدى الاثر الذي يمكن ان تخلفه هذه المعلومات المضللة لدى الاشخاص الاكثر عرضة لتأثيرها مصدر قلق بالغ.
ويقول لياندرو بيغوسي مدير التحرير في معهد خبراء التعليم نوفا ايسكولا إن «الهدف هو تعليم التلاميذ كيفية رصد الاخبار الكاذبة، والآن اصبح ذلك ضمن المناهج الدراسية الوطنية لان البلاد ارتأت ضرورته».
ويتابع بيغوسي ان «انتشار شبكات التواصل الاجتماعي خلق اوضاعا طارئة» في هذا الاطار.
وتقول التلميذة كايو رودريغيز (14 عاما) إن الصحافة البرازيلية ليست كاملة، لكنها تلعب دورا اساسيا في التصدي ل»الاخبار الكاذبة» لان «الانترنت أو وسائل التثبت من الحقائق ليست متاحة للجميع».
وتسجلت رودريغيز في برنامج «الصحافة الشابة» الذي اطلق قبل ست سنوات في مدرسة «كازا بلانكا» الرسمية في ساو باولو.
وتعلم المدرستان لوسيلان فيرانداس وهيلدينور غوميش دو سانتوس تلاميذهما الذين تتراوح اعمارهم بين 8 و14 عاما عدم الاخذ بصحة كل ما يشاهدونه او يقرؤونه من دون تحقق.
وتقول هيلينا فيتال (11 عاما) وهي ابنة لمدرسين «عندما تصلني معلومة، اجري بحثا عنها على شبكة الانترنت واتساءل عما اذا كانت صحيحة».
وتقول فيتال إن البرنامج علمها النظر الى وسائل الاعلام من زاوية مختلفة.
وتضيف فيتال «اعلم الآن ان الامور ليست بهذا السوء، البلاد لن تنهار»، معتبرة ان الاخذ بالاخبار من دون التشكيك فيها «يجعل الناس تعساء» وان «امورا سلبية كثيرة ليست حقيقية».
وتقول فارانداس التي تسعى الى اقامة تعاون بين وكالات التثبت من الحقائق من اجل توسيع تربية الاطفال إن هؤلاء لا يملكون وسائل التحقق من كل شيء، لكنهم «ينظرون الى المقالات، ومن كتبها، ومن قد تهمهم واين نشرت، وهي كلها وسائل للتشكيك في صحة المعلومة».
ويبدو ان الاجراءات تحقق هدفها على الرغم من صغر سن الاطفال.
وتقول رودريغيز التي يملك والدها متجرا وتعمل والدتها في تدريم الاظافر «لا يتطلب تشارك الاخبار الكاذبة سوى نقرة: هذا المشروع يعلمني ان افكر في نقراتي» خلال تصفحي للانترنت.
ويحلل التلاميذ المسجلون في برنامج «الصحافة الشابة» كذلك الاخبار المنشورة في الاعلام المحلي حول المشروع، وقد وجدوا مغالطات.
ستخضع التغطية التي تجريها وكالة فرانس برس للتدقيق.
وتتمتع البرازيل التي يبلغ عدد سكانها نحو 208 ملايين نسمة بحضور ضخم على وسائل التواصل الاجتماعي مع 120 مليون مستخدم لتطبيق واتساب واكثر من 100 مليون مستخدم لفيسبوك واكثر من 50 مليون شخص على انستغرام.
ويقول بيغوسي وهو يعمل في التدريب الصحافي «في الماضي كان الاهل يعلمون اولادهم، لكن الآن اصبح ذلك يمر عبر مجموعة من الوسائل، ما يغير الدور الذي تلعبه المدرسة».
ويضيف «المثير للاهتمام في البرازيل هو ان الاعلام والمعرفة التكنولوجية يعتبران باهمية المعرفة الكلاسيكية».
وينفي بيغوسي ان يكون التحليل الاعلامي بشكل عبئا اضافيا على النظام التعليمي، بقوله إنه يشكل «سياقا لتحسين التربية».
ويقول «نحن نتحدث عن امور هي جزء من عالم التلميذ».
وبحسب فيرونيكا مارتنز كاناتا منسقة التكنولوجيا والتواصل في مدرسة دانتي اليغييري الخاصة إن على الاطفال تحمل قسطهم من المسؤولية في ما يتعلق بالاخبار الكاذبة.
وتقول «التكنولوجيا سهلت التواصل لكن حان الوقت للتشكيك في محتواها».
وتضيف «كابناء للعصر الرقمي، على الاطفال والمراهقين تحمل المسؤولية بتحليل المحتوي قبل اعادة نشره».
وتدرس «دانتي الييغري» التحليل الاعلامي منذ 11 عاما وقد ادخلت المعركة ضد الاخبار الكاذبة الى قاعات التدريس.
وتقول مارتنز كاناتا إن الاطفال يكونون سذجا في البداية لكنهم سرعان ما يكتسبون نظرة نقدية تغير طريقة استهلاكهم للمعلومة.
الا ان دراسة التحليل الاعلامي لن تخلق بالضرورة جيلا جديدا من المراسلين.
وتعتبر فيتال ان الصحافة تنقصها المصداقية في بعض الاحيان، ولدى سؤالها حول ما اذا كانت ترغب بان تصبح صحافية اجابت فيدال «افضل السباحة».


بتاريخ : 16/07/2018