عدنان: كرسي المثقفين الشاغر ينمي المزايدات السياسية للهوية

على امتداد حلقات “مشارف” كان سؤال اللغة يؤرّقني: كيف أفتح نقاشا ثقافيا وفكريا وأدبيا بلغةٍ سهلةِ المأخذِ مُتاحةٍ لعموم المشاهدين. لغَةٌ سلسةٌ دونما إسفاف، فصيحةٌ بلا تفاصح، رصينةٌ من غير تَقْعير، مبذولةٌ دونما ابتذال؟

كنتُ على الدوام مشغولا بهاجس اللغة. أريدها لغةً حيّةً تتيح الحوار مع رموز الأدب الشعبي والأمازيغي والفرنكفوني في بلدنا – جنباً إلى جنب مع أدباء الضاد – دون أن تكون اللغة حاجزًا ولا حائلًا. رغم تخصّصي الجامعي في الأدب الإنجليزي فأنا مرتبطٌ بالعربية وآدابها قارئا وكاتبا منذ اليفاع. إنما في البرنامج كان عليَّ أن أقدِّم مُقترحي الخاص: بلورة لغة إعلامية رشيقة لا تتنازل عن فصاحتها ولا تتعالى مُتفاصحةً على المشاهدين.

خلاصة القول إنني أدافع عن العربية بأسلوبي، دون مزايدة ولا ادّعاء. لست أصوليًّا لغويًّا، وأنبذ الانغلاق. أؤمن أنّ اللغات حيّة، وأعتبر التفاعل بينها أمرا طبيعيا بل ومطلوبا. فهناك أكثر من 1600 مفردة فارسية دخلت إلى قاموس اللغة العربية، بل حتى القرآن الكريم الذي أنزله ربّ العالمين بلسان عربي مبين يتضمن أكثر من أربعين كلمة فارسية، مما يعني أن الصفاء اللغوي الخالصَ محضُ وهمٍ ومجرّدُ أسطورة. لذا لا أعرف شخصيا كيف أغلق على “عربيتي الفصحى” النوافذ، ولا أريد حمايتها من لغتنا المغربية الدارجة، حيث التلاقي أهلٌ والتساكنُ سهلٌ بين الأمازيغية والضّاد ولغات الجوار.

ومع ذلك، فقد فاجأني أنني تلقّيتُ انتقادات، بعضها عنيف، من أكثر من جهة. هناك مثلا من يؤاخذ على البرنامج تعاليه على لغة الشعب. فهذا الشعب الأمي يجب أن نبسِّط له الأمور والقضايا ونخاطبه بدارجة مغربية مفهومة. وهناك من يطالبنا بالاشتغال أكثر على لغتنا لتصير أكثر تلفزيونية، وكأن التلفزيون صنو الابتذال، أو كأنّ العربية السليمة ليست لغة تلفزيونية. فديكتاتورية نسبة المشاهدة اختارت للتلفزيون في هذا البلد لغته ورسَّمتها غصبًا دونما حاجة إلى قانون ولا نص دستوري. إنها لغة الإشهار التي تعرفونها جميعًا: دارجة بسيطة تعاني من فقر في الإبداع. بل إن بعض صقور نسبة المشاهدة لا يفهمون كيف يواصل “مشارف” مغامرته على امتداد هذه السنوات رغم أنه لم يقبل الامتثال لقواعد اللعبة اللغوية المرسومة ومخاطبة الناس بلغة “التلفزيون”؟ والطريف أن حملة الانتقادات التي حاولت النيل من البرنامج، وكانت تسخر من لغته بالذات، اشتدّت في سنواتٍ كان شعبنا المُفترَى عليه يسدِرُ خلالها في تيهٍ إعلامي طويل قاده إلى ما يشبه الهجرة الجماعية إلى “الجزيرة” وجاراتها في الأرخبيل المشرقي أيّام ما كان يُدعى بالربيع العربي. كنت أرى الأميين ومحدودي الثقافة، في محيطي الشخصي، يتابعون الجزيرة من صبح الله إلى مساه، ويناقشون فيما بينهم تفاصيل ما يحدث في تونس ومصر وسوريا في بداية الحراك بالكثير من الحماس، وأصحابُنا هنا يتباكون وهم يدافعون عن حقّ هؤلاء المساكين في تلفزيون شعبي ديمقراطي يخاطبهم بلغتهم. فعن أيِّ شعب يدافع هؤلاء؟