رمزية الأمكنة في ديوان «عطر ونبض محطات» لمحمد بلقس

تنتمي لغة القصيدة في ديوان “عطر ونبض محطات” للمبدع محمد بلقس إلى سجل اللغات الرومنطيقية التي تتشيّد على تشغيل خصب للأنا الشعري الغنائي الوجداني، والحضور الرمزي للطبيعة واعتماد الصورة الشعرية ذات المنحنى الشعوري التأملي.
اعتمد الشاعر في بناء متخيله الشعري على مرجعيتين :
التجربة المعاشة للذات، واختبارات الكينونة لأسئلة الواقع والوجود، وما انطبع من وعي وإدراك في النفس والجسد من معرفة وحمولات شعورية رمزية. وهذه التجربة ذات توزيع موضوعاتي رباعي :
ثيمة السفر
ثيمة الحب
ثيمة الانتماء للأرض والوطن
ثيمة الإبداع والكتابة
الاشتغال على رمزية المكان، وهو اشتغال يجعل قراءة الديوان نوعا من الترحل في خرائطية أمكنة تتسع على أكثر من قارة واحدة، وتصل الشرق بالغرب، وتسافر بنا من المحلي إلى الكوني :

الدار البيضاء : في القصيدتين “ جميل عطرك أيتها البيضاء “ (ص 15) و “ حزيران البيضاء “ (ص41).
باريس : في قصيدة “ أرصفة باريس “ (ص23)
مونتريال : في قصيدة تحمل الإسم ذاته (ص27).
أفريقيا : من خلال نصين الأول بعنوان “دكار “ (ص69)، والثاني بعنوان “ لومي “ (ص85).
روسيا وأمريكا : من خلال قصيدتين الأولى “ موسكو “ (ص35)، والثانية “ نيويورك “ (ص31).
جغرافيات أمكنة الشرق العربي : سوريا والعراق وفلسطين ولبنان والخليج في النصوص “ بيروت “ (ص37) و
“ محنة الشام “ (ص49) و “واحة عربية “ (ص53) و “ قداسة وزعتر “ (ص61).
المدينة المغربية السليبة : في قصيدة “ باب سبتة “ (ص77).
المكان الرمزي لانتسابات الشاعر : “ تمعروفت “ (ص87) من الجنوب المغربي.
يصوغ الشاعر عالمه التخييلي من خلال موضوعة السفر، ولهذا فهو مجازا يقتبس عطر أو روح « أدب الرحلة «. تكتب القصائد في مجازات الترحل والعبور من مكان رمزي إلى مكان رمزي آخر، وتتشكل هوية الذات الشعرية من خلال كتابة الذات منعكسة في رمزيات الأمكنة الواردة أعلاه.

نقرأ من قصيدة ( محنة الشام ) :
رائحة الموت
وحدها تجوب الشوارع
قميص يوسف يكسو الأزقة
ولعنة الذئب التصقت بالجدران
وأنا أمشي بين المباني
كالعلب تسقط المباني
أبحث عن بيت لجيران
سكنوا بيروت
سكنوا القدس
سكنوا دمشق
سكنوا بغداد
سكنوا الشام
أجساد تكسو الأرض
ودماء
دماء
دماء (ص 51-52)
قصيدة تمجد الانتساب إلى الأرض والوطن والعروبة، وهي تشخص شعريا الواقع الأليم والوجود التراجيدي للذات العربية في أزمنة الحرب والقتل والاحتلال، وتطاحن السلط والعشائر وسماسرة الغيب ووكلاء السماء المزيفين، في زمن تردي السلطة العربية وهيمنة الاستبداد.
تتداخل في النص مشاعر الحب والألم على خلفية رمزية للمكان يتجاذبها الصراع المأساوي بين الواقع والحلم. نفس هذا العالم الدلالي نقرأ علاماته ورمزيته الوجيعة حين يتحدث الشاعر عن هوية المكان المغربي ( السليب / المغترب ) في قصيدة « باب سبتة « التي نورد منها :
سبتة علمان
معبر حدودي
قلق وابتسامات
سلع مهربة
….
سبتة شرطيان يتصافحان
سلع مهربة
حملتها جباه نساء
نساء من بلدي
تعبرن المسالك
تطوق أغنياتهن المنعرجات(ص 77 – 78)
موضوعة اغتراب المكان السليب تشكل هنا حبر الكتابة ووشم المعنى . فقدان المكان لهويته الأصيلة ليس إلا انعكاسا لتمزق الهوية وتصدعها، وهذا الألم الاغترابي يرافقه وجع حب مجروح بالفقدان، لذا يكتسب النص طابعا رثائيا ويسود فيه الغناء الحزين، وتلك الروح البكائية التي نلمسها تتردد بخفق مشتد في قصيدة « قداسة وزعتر « التي تتمحور حول مأساة فلسطين، وأوجاع الاغتراب في المخيمات، ومحنة الذات العربية وهي تواجه سلطة نزاعة إلى محو الهوية وإبادتها، واقتلاع جذور هويته وثقافته وتدمير قيم الانتساب إلى الأرض :

وحده الليل
جرّد أحمد الزعتر
من قدسيته
رمى به لمخيم
هو فيه القناص
هو فيه الطريدة
ليسكب نبيذه
في قدح أسود
يروي الكرمل
وتل الزعتر
(ص 61 – 62 )
يشتغل الشاعر محمد بلقس طيارا ( ملاحا جويا ). وحياته الخاصة ترحل دائم بين القارات والعواصم، بين الأمكنة والمدن والهويات والثقافات. لذا فإن مجيئه إلى الكتابة والإبداع الشعري وذلك منذ ديوانه الأول « سفر… عشق… وترحال « ارتهن باشتغال نصوصه الشعرية على « رمزية الأمكنة «.
كل قصائده تتحول فيها الأمكنة إلى مرايا رمزية تعكس أحوال الأنا الشعري. لا يضع الشاعر ذاته في علاقة حياد مع المكان. هو دوما ذريعة جمالية لإنتاج المعنى والدلالة : الحب والحرية والمعرفة والحداثة في الصوغ الرمزي لمدينة مثل باريس. وتاريخ استعباد الغرب الاستعماري لأفريقيا في قصيدة ، المكان فيها دكار، موضوعة العنف السياسي وهجنة الهويات وضياعها في تشخيص صورة مدينة مثل نيويورك. وثمة مدن تصير علامات نصية لتمثل أحلام الذات العربية في مجتمع إنساني لا يتسم بالإكراه والعنف وسلب الحريات ( مونتريال، موسكو ).
في نصوص ديوان عطر ونبض محطات، تنحت اللغة الشعرية جسدها الإيقاعي من اللجوء إلى غنائية الجملة الشعرية : وهي غنائية مشبعة بموسيقى الأنساق التكرارية، سواء أخذ التكرار شكل التجنيس اللفظي أو المجانسة الصوتية : ( تأتين كما الكلام يأتي )، ( قبليني كما تقبل الشمس القمر )، ( اعبثي بأحوالي كما تعبث الريح بالموج )، أو أخذ شكل متوازيات التركيب الجملي : ( أسأل الشمس أن تغيب/ أسأل الليل أن يأتي ) ، ( في ذاكرة أمي/ في ذاكرة أبي/ أبحث عن هوية/عن أشكال القداسة/ عن فرحة العيد/ عن شجر الزيتون/ عن بسمة الأطفال ).
التكرار، التوازي، التماثل : أنساق صوتية وتركيبية وبلاغية ناحتة لهوية الإيقاع في لغة هذا الديوان الذي يجعل الجمل الخبرية في تماس دلالي متواتر مع الجمل الإنشائية. ولأن الأمر يتعلق بغنائية وجدانية، فإن الجمل الخبرية غالبا ماهي جملة فعلية ( مع حضور زاخم للأفعال الشعورية/ أو المعجم النفسي الوجداني)، فيما يخترق جسد الجمل الإنشائية ترحل دائم بين صيغ النداء والاستفهام الاستنكاري، والأمر والنهي، والتمني والترجي، إلى جانب التعجب… صيغ تنعكس فيها مختلف الحالات الشعرية الوجدانية للأنا / الشاعر.
تمثل قصيدة « قدوم الليل « – ص 43 – نموذجا مثاليا للغة الشعرية التي تنشأ فيها مجازات وبلاغة القول الشعري كانعكاس لتطابق صوت الشاعر مع الطبيعة كرمز مؤسس للمعنى :
من كل الجهات / تأتي الريح / من الصراخ / أكاد أجن / أبحث في الماضي / في ماضي الريح / في موج البحر /
عن حكاية / تشبه حكايتي …
( … )
تعاتبني الريح / أعاتبها / تزمجر في عناد / أصرخ في وجهها / أصرخ في كل جهة / تأتي منها الريح….
( … )
بحارة عرض البحر يغنون / قمر يداعب صفحة الماء / سفن تراقص الموج / وأرخميدس تائه في دوائره / يوم قتلته جنود الروم / لم يصرخ يومها : وجدتها ، وجدتها…/ وحده السيف تكلم /…
( … )
ذئب يعوي
يغتال فينا الإنسان..
( ص 45 – ص 47 )
الريح، والبحر، والموج، والقمر… رموز مقتبسة من عالم الطبيعة تنصهر في تشكيل بلاغة شعرية لانعكاس صورة الذات على جسد الطبيعة، ولتجسيد الرمزية الدائبة لصراع الواقع والحلم البديل، ولصراع الخير والشر في أزمنة الحرب والدم وقتل الإنسان. سيرورة صورة شعرية تتراوح بين حدي القيمة الإنسانية ( رمزية أرخميدس ) واللاقيمة صورة الإنسان- الذئب.
محمد بلقس : شاعر غنائي بامتياز.. وقصيدته قصيدة غنائية بامتياز تعتمد كلية على جماليات التعبير الرومنطيقي والتوظيف الرمزي للطبيعة من أجل تشخيص صوت الأنا الشعري. إنه في هذا السياق وفي لروح الغناء الشعري.
الإضافة النوعية في ديوان « عطر ونبض محطات « تكمن أساسا في خلق معمار قصائدي ينتظم من خلال ثيمة السفر وتشغيل تكنيك رمزية الأمكنة كما أوضحنا في مبتدأ هذه القراءة. وأعتمد أن هذه التجربة قد استوفت معالمها من خلال ديوانه الأول والثاني استيفاء كافيا ليخلق لدى هذا الشاعر الطائر نزوعا إلى تجاوز أفقه الشعري نحو استكشاف خرائطية شعرية جديدة، تنهل من مرجعيات تخييلية مغايرة، محرضة على القفز من متخيل القصيدة الرومنطيقية الغنائية إلى أزمنة قصيدة النثر وعوالمها المفتوحة على أكثر من شكل واحد للكتابة الشعرية.

هامش:

« عطر ونبض محطات « منشورات أفريقيا الشرق، ط 1، 2017، هو الديوان الثابي للشاعر محمد بلقس بعد ديوانه الأول « سفر، عشق، وترحال « عن نفس الدار 2014.


الكاتب : الناقد: محمد علوط

  

بتاريخ : 21/09/2018