قراءة في ديوان «ألوان الوقت» لأيوب العياسي ديوان «حب وعشق» وما جاورهما

عندما ننتهي من قراءة ديوان “ألوان الوقت” للشاعر أيوب العياسي، نشعر بأننا استمتعنا بكلمتين أساسيتين: الحب والعشق… تردد كلمة “الحب” كلمة وفعلا، عشرين مرة بالتمام والكمال.
وترددت كلمة العشق كلمة وفعلا، عشرين مرة بالكمال والتمام. يقول الشاعر في الصفحة العاشرة: “أنى لي أن اختار.. عشقا انزياحا يختارني! ينزاح عني. ينزاح معي… نحو عشق آخر… نحو حب، يختار الحب… بدل الانزياح”.
الحب في القصيدة ليس إحساسا فقط، والعشق في القصيدة ليس شعورا فحسب… إن أكثر ما يحبه الشاعر. هو الحب.. وأكثر ما يعشقه الشاعر هو العشق: وما اصعب إقناع النفس بالحب والعشق؟ الكلمتان تترددان في القصائد عشرين مرة لكل واحدة منهما..
وهل يجنب الحب الخراب.. وهل يحول العشق دون الدمار؟
القصيدة تقول «نعم» والشاعر اسير وعيه وثقافته..
نقرأ في الصفحة 8 “هل الإعجاب حب مستتر أم نزوة تترصد القلب في لحظات التعب والضجر؟ هل الحب عاصمة دون العواصم؟ هل الحب منفى؟ أم جزيرة أبعد من هو نولولو وأقرب..»
وفي الصفحة. 13: “هكذا صرنا كمترو الانفاق، نحفر الطريق وتحفرنا.. وندفن الحب قبل أن يموت معنا”.
الحب إذن كيان مستقل بذاته.. شأنه في ذلك شأن العشق، فلنستمع: في الصفحة 9: “كيف لي أن أشرب كأس العشق صهباء… وأنا لا أدري أكأس العشق أشرب.. أم كأس الغياب؟»
نعم، إن ثنائية الحب والعشق هي مربط فرس البناء الشعري… هي القلب النابض للمواجهة والمجابهة عبر القصيد.
نقرأ في ص 16 «أنا العاشق الذي تتبدد المسافات أمامه.. ويتمسك بأشرعة حبك، وإن أعلنتِ الرحيل”.
وفي الصفحة 21 “هل قدر الحب، أن يكون هاجسا في بحر الحياة؟ وأن يظل ثقل الإحباطات يملأ المساحات في محطة السكك العابرة؟!
للقصائد معنى.. وللحب لغة وللعشق منحى.. يزداد عنفا حين يغازل الصفر.. يزداد عنفا حين يغازل السفر..” ص 51
الموضوعية في الديوان موضوعية نسبية… ويمكن أن نقرأ جل القصائد قراءات تتفاوت في وفائها للنص. نلاحظ بأن هناك إحساسا بالعجز حين يغيب الحب، وتندثر الأشواق.. وهذا الإحساس يتجلى أيضا في اللغة، حيث يضحى فيها خمول وجفاف.. فحين تحضر ثنائية الحب والعشق، نجد أمامنا نسقا لغويا بحكم البناء، ونقصد بالبناء، وحدته الموضوعية أو النفسية وتفضي هذه الوحدة الى وحدة عضوية… فبالرغم من العناوين المختلفة والمتباعدة للنصوص، فالقصائد ليست بحال مبعثرة.
ص 58″ الحب لا يكترث للقصائد التي تغنيه.. العشق أكبر من أبيات منثورة.. هل لي أن أختط على جسدك قصيدة نحياها.. كزمن تطبعه العبرات؟
القصيدة اذن، تتحذ من الحب والعشق متنفسا… بل سلاحا ضد الزمن البذيئ، يقول الشاعر في الصفحة 81 “ما أسهل الضغينة! ما أسهل المكيدة! حتى المشي فوق الجثت سهل… مادامت حرمة القبور لا تعني للوصوليين شيئا.
الصعب هو ذلك الاختلاف الواضح. تلك المصارحة الأنيقة التي تبصق في وجهك بكلمات عذبة.. قبل ان يستحل دمَكَ الآخرون؟
يؤكد لنا ديوان أيوب العياسي، إن كنا في حاجة الى تأكيد… بأن جوهر الشعر هو الخيال.. وقوة الشعر، هاهنا.. في عمق خيال الشاعر: فلنقرأ الصفحة 82 : “لو كنت أقطن هذه المدينة… هل كنت سأشتري العطر كل يوم؟ أم كنت سأطلب من بائعة العطر أن تعتزل حرفتها، لتستخلص لي وحدي عطرا من رحيق شفتيها” ألا تروا معي قصيدة غنائية في المستوى الذي في البال أغنية.
كدت أرى بأن النصوص مفعمة بالدلالات والإيحاءات.. بالمباشر وغير المباشر. بالسطور ومابين السطور. يقول أيوب في الصفحة 35: “وجوه تفضحها القسمات.. تحاول بالابتسامة الماكرة الخبيثة أن تداري بشاعة القلب.. صداقات، قرئ عليها السلام… ورفاق باعوا الضمير في بورصة الحزب”.
وما يثير الانتباه والاعتراف أيضا هو قوة الشاعر في الحديث عن الحزن والقبح بالعذوبة والجمال. فالحب والعشق دائما حريصان على حلاوة المتن الشعري.
«الشعراء يغازلون الهواء لمن يدري.. والعاهرات تبعن الهوى لمن يشتري « صفحة 85
في ديوان “ألوان الوقت” الوقت يتلون كالحرباء، والشاعر عبر الحب والعشق، يعاكس العالم ليبدع كل عالم.. الحب والعشق في مواجهة عصيان الاحلام.. التمرد في مواجهة الانكسارات.. وبالحب والعشق، يقوى الوعي ويتعمق…
الحب والعشق سلاحان في مواجهة صرامة الواقع والعنف… اليقين…. وعبث الحياة…
تتردد كلمة الحياة عشر مرات في النص.. نصف عدد الحب، ونصف عدد العشق..
«الحياة زوجة تريد زوجها على انفراد “(ص 86)
«حياتهم معرض… لوحات مخملية… وحمام موري» (ص 78)
«الحياة عناق ووصال.. الحياة أنثى ترتشف اللذة من شفاه تصلي.. والقمر يسري في عروق المداحين» (ص 50)
لكن، لماذا هذا الحزن؟ ألا ترى أن الحياة نهد جميل في حاجة لمن يداعبه؟
ألا ترى أنت أننا النهد. تمتصنا. تغتصبنا… هذه الحياة الرديئة. صحبة عواء الذئاب – عفوا لكلاب؟ وآخر عبارة نن الصفحة الأخيرة من الديوان.. هي عبارة: كم نحب الحياة!»
وهذه العبارة الاخيرة تحيلنا الى المقولة المعروفة: من يحب الحياة… يذهب الى السينما…
ها نحن أمام تساؤل يفرضه علينا واقع النص؟ الحب والعشق: الركيزتان الأساسيتان كما سبق القول… حب ماذا؟ وعشق ماذا يا ترى: قد يكون حب الشعر، وعشق السينما؟ قد يكون حب السينما وعشق الشعر… وإذا كانت السينما فنا، فالشعر أيضا من أجمل الفنون.. وإن كان ذلك يستوجب صبر أيوب، أيوب العياسي…
فبعيدا عن الدراسات المعمقة.. والدبلومات المعلقة…. إن الشاعر في العمق فنان…. “كنا نربط الموعد بمقهى باليما، حيث السياسة مواظبة… والفن تيه واختيار». (ص 67) والشاعر يختار التيه.. ويرفض المواظبة على تمحيص وتدارس الملفات…
هناك الصورة الشعرية للفنان…. صورة عميقة تعكس الشاعرية في الفن، والفن في الشاعرية بعيدا عن سرعة الاستهلاك.. عن سرعة الصورة المضببة التي لا حق لها في الجمال.. ولا في الحكي.. عالم تطغى عليه سرعة الصورة بعيدا عن كل أناقة وجمال… فلنستمتع الى الشاعر في الصفحة 54،
«بسرعة تأكلين… بسرعة ترقصين.. بسرعة تسكرين…. وتترنحين.. بسرعة كذلك بسرعة تحبين… بسرعة أكثر تكرهين.. وبين سرعة وسرعة تتناكحين…»
الشاعر فنان يعيش المعاناة.. والشاشة بظلامها لا تبالي يقول الشاعر (ص 48)، “الروح شامتة، تبوح للظلام.. والشاعر يعتصم بحبل الانكسارات (…) الروح هجرت أجسادكم لأنكم لم تحبوا الحياة…».
القاسم المشترك بين الشاعر المحبوب والفنان المعشوق هو الإبهار، والا سيكون الغياب هو المصير…
«وإن فقد الشاعر قدرته على الإبهار.. ليس له إلا أن يتمسك بأناقة الانصراف.. وأنا أندلسي يطربني انصراف العشاق..» ص 29
وفي الصفحة 24 يخرج الشاعر من الخطاب الضمني، الى الخطاب المباشر… وتوضح لغته الشعرية موقفه الجلي بين ثنائية الحب والعشق من جهة، وثنائية الفيلم والقصيدة: انتبهوا جيدا:
«كم لي رغبة قوية.. في أن أضع هذه المشاهد على الرف
وتكون قصيدتنا أبدع من أي فيلم يسكنه الصمت.. وصوت القطار الذي يربك المشهد، ويحبس الأنفاس.. لكن بعض المتفرجين قد غرقوا في القبل دون اكتراث بمصير البطل. لأنهم يحبون الحياة… فلنعش على إيقاع قصيدتنا… نكاية بالصمت!
فمن جهة هناك أسفار… لقاءات… لحظات.. اعترافات.
ومن جهة أخرى… هناك صمت صمت صمت (صفحة 31)
الشاعر يتحدث عن المقاربات، وليس عن المقارنات.. فاللذة لديه بدهشته حين يكتب القصيدة.. والاشياء الأخرى حد المكان والزمان. الشعر أوسع بكثير من أن يختنق في الفضاء… والعلاقة بالقصيدة علاقة نبيلة خالدة، وليست عابرة بحال.. يقول في الصفحة 55: «أكتب قصيدتي.. أتلذذ بدهشتي.. كأنك على نفس السرير ستظلين.. وما أنت سوى صديقة. وأنا إلا عابر سرير”.
فما فائدة القفطان المزركش.. إذا كان القفطان مخزنيا…
وأحيانا، تتحول المقاربات في النص الى مفارقات… كلمات وعبارات تواجه كلمات وعبارات أخرى في الديوان:
مثقفون يصفقون.. ونساء تطلقن الزغاريد.
الضغينة والمكيدة والمشي فوق الجثث في مقابل المصارحة الأنيقة والهدايا والعطر…
الانكسارات والظلام والطاعون في مقابل التحدي وصدق العواطف وصدق اللحظات.
العواصف والإعصار والبراكين في مقابل الفخر والأنفة والنصر والسعادة، المكر والضجر والتذمر والعنف و الفرق والارق في مقابل الرقص والحسناوات والشلالات وأطباق السمك اللذيذة.
الضياع والانزياح والتمزق والبؤس في مقابل الشموع المضيئة وسر الحضارة والطهارة والقداسة…
هذه الثنائيات وغيرها في النص، تمنح للقصائد توازنها… فالحياة خير وشر.. مد وجزر.. جمال وقبح، برد قارس وحرارة. شعر وفن.. نعم، مع كل هذا وذاك… وبالرغم من ذلك وهذا.. فالحياة جميلة يا صاحبي وأجمل ما فيها الشاعر الفنان.. والفنان الشاعر، وصديقنا أيوب، هو ذلك الرجل.


الكاتب : حسن نرايس

  

بتاريخ : 21/09/2018