ديوان « روتين الدهشة « لعبد الهادي السعيد: الفضح اللذيذ في الشعر وبه

يتقدم الشاعر المغربي عبد الهادي السعيد على أرض القصيدة ، خطوات راسخة في سلم الشعر الطويل . فبعد ديوانيه « تفاصيل السراب « و «لا وأخواتها «، يصدر له عن سعد الورزازي للنشر بالرباط ديوانا شعريا ، يمتد على مدار 95 صفحة من الحجم المتوسط ؛ مذيلا بحوار مع الشاعر نفسه ينير بعض المغالق المتعلقة بالكتابة والتلقي ..
يحتوي الديوان قيد الفحص، على تبويبات شعرية صغرى ، فهناك التبويب الأول بعنوان» نهايات « ويضم : استقالة ، تعب ، أنا والأرض ، الحرب والسلم .. والتبويب الثاني اتخذ له عتبة « الواحدة قبل الزوال « ويحتوي على : حفلة ، حفريات ، سكون … في حين عنون التبويب الثالث ب « شؤون لغوية « احتوى على : شعراء ..ولكن ، آفاق مغلقة ، عدالة أعمال كاملة ..أما الباب الرابع فأتى موسوما ب : «ورقة توت خريفية « ويضم : فن المستحيل ، غزل ، موعد ، الليل …
ويبدو أنه تقطيع شعري غير ارتجالي ، سعى من خلاله الشاعر إلى تصنيف التيمات إلى خانات ، في الرأس طبعا . وبعد ذلك يحرك وقود مطبخه الداخلي ، ليوجه ضرباته بسهام ملونة تلمح ولا تقول ، تفضح وتتوارى في الشعر .
في عنوان « النهايات « الكبير، ترصد القصائد على طريقتها بعض تفاصيل اليومي اللصيقة بالذات المتكلمة. وبذلك فالأشعار هنا تغطس في الهامشي ، ليس لتقديمه بشكل فوتوغرافي بارد ؛ بل لبنائه ثانية كمتواليات محكومة بالقلب والنفس الساخر الذي يذهب عموديا وأفقيا في الديوان ؛ وقد يصل إلى حد السخرية من الذات واللغة نفسها .. فكان التأمل سفرا في النهايات الصغيرة لكتل الضجر الملقى خلف قفا التاريخ . يقول في قصيدة بعنوان « استقالة « ص11 :
انقرض الليل
والحانات راحت إلى حال سبيلها
…………
انقرض الليل
وهاهي الشمس
تكنس بتشاؤم برد الفجر
كعاملة كسلانة

يلعب الشاعر لعبته الشعرية مع الأشياء التي تغدو مؤنسنة ومنطلقة على ماء الحالات التي تضيف لفوضى اليومي ، فوضى أخرى ، يرعاها الشعر وبكامل شأنه اللغوي .
في قصائد التبويب الثاني ، يستحضر الشاعر عبر ألم وجنون هادئين ، المصير الإنساني، ومنه العربي النائم على تركة تاريخية عقيمة . يقول في قصيدة « تاريخ العرب « ص62 :
سبع سنوات عجاف
يتبعهن سبع سنوات
عجاف
وهكذا

للشاعر تأويله الخاص المشبع بالقلق الجميل ، ومن داخل مربعه الشعري اللزج الذي يضيق ويتسع في تجاذب مع سير زمني معطوب . وهو هاهنا ، يستحضر حلما دينيا ، ليوجهه في اتجاه تاريخ قوم بدون تحولات مزهرة، رديفة للربيع في الشعر الذي يتوق إليه الشعراء دوما.
في حين ، حاول الشاعر في شعرية الباب الثالث ، مجالسة شؤون الأدب ومؤسساته ، متأملا في إمارة الشعر وممالك اللغة ، مركزا في تصويره على الإختلالات من ذلك مثلا : مجلة بلا آفاق ، موقع بلا اتحاد ، أعمال كاملة ولكنها ناقصة…يقول في قصيدة بعنوان «أعمال كاملة «:
الأعمال كاملة
أما القصائد
فناقصة جدا

يشخص الشاعر الخلل ، ويعصره باللغة وفيها ، لأن الأفكار تكون متخفية في الشعر كالغذاء في الثمر على حد تعبير بول فالري . فهذا التشخيص للاختلالات كان بإمكانه أن يذهب ببريق قصيدة عبد الهادي السعيد ، لتنضاف إلى الاختلالات السابقة ، لولا لمسات خفيفة على وعي دقيق بذاك الخيط المتخلق الذي يقوض البناء ويعيده في الاستعارة ولو القريبة المأخذ ، من سماتها القلب ووضع الثنائيات وجها لوجه دون اجترار أو تكرار وذاك ما سماه أجدادنا بمقتضى الحال والنظم . فكلما فاضت اللغة عن المعنى ، اضطرب هذا الأخير وسقطت مشاكلة اللفظ للمعنى . وكما يقول شوقي عبد الأمير في إحدى مقالاته المقارعة: كلما زادت حمولة سفينة اللغة تكون مهددة بالغرق…
أما قصائد القسم الرابع من الديوان والذي حمل عنوان : « ورقة توت خريفية « ، فنرى الشاعر يعود لتفاصيل صغيرة تؤثث دائرته والتي لم تنج هي الأخرى من فخاخه الشعرية ، مهندسة في اللغة وبها ، اللغة التي تتحول إلى علبة مكتظة في القصيدة من المشاعر والحالات والأطر العليا التي تمتد بشكل من الأشكال للنص . تقول قصيدة : « مشنقة الهواء « ص91 :
بينما كانت قدماه
تقتربان من قمة ذلك الجبل
كان هو يهبط أكثر في قرارة نفسه

أتوقف عموديا ، بعد هذا الذهاب الأفقي في خطية الديوان ، على ملمحين فقط كرهانات مبنية من خلال رصد التفاصيل حتى ولو تعلق الأمر بتفاصيل السراب ؛ فالملمح الأول كون مجموعة « روتين الدهشه « خلقت قدرة على قول مواضيع عديدة تمتد من المعيش واليومي إلى الأدب ومؤسساته المليئة بأوهامها إلى التاريخ وجرجرته ..مركزا في تصويره ، أو بالأحرى تشخيصه، على الاختلالات التي قدمت في هذا المقام بفضح لذيذ كما صراخ الصبية المكسر لكل التابوهات .
إنها جرأة في القول والتناول قل نظيرها في الشعر للحفاظ على وقاره وترتيب تعليقه ؛ كأن هذا الشعر إحساس غفل ينهض بالأرض عاليا في اللغة دون قومها . والجميل ، أن الديوان يتموقع بالشعر في زاوية ما من العالم ترقب الإختلال وهو يسري في القصيدة كأن الشاعر يجذب المفارقات من آنيتا ، ويحبسها في الزمن ، للتأمل والغوص ؛ فتكبر المفارقات وتتلون .
أما الملمح الثاني ، فهو تلك السخرية التي تقضم الأشياء ، وتضرب على الرؤوس ؛ وهي تعبر بنا في نفس درامي تصاعدي من التفاصيل إلى القضايا ، من اليومي إلى وطء الوجود ، من الآني إلى المطلق .. كأن الأمر يتعلق ببحث عن روح أو صفاء في هذا الكل الذي ندعوه بالتدرج مؤسسة ، مجتمعا ، وجودا ..
تستطيع في « روتين الدهشة « أن تتأمل ، أن تعرف ، أن تتهكم …لأن الشعر ليس كتلة مشاعر أو نزوات ؛ بل معارف ، استعارات ، لعبا ، تمردا ، مقارعات …كل ذلك ينطرح أمامك وتبقى الدهشة تعلو محلقة فوق الروتين وآلاتة الساحقة . فترى تعددا ـ معطوبا ـ يساق ضمن صياغة كثيفة ، هادئة الملمح ومضطربة الغور، كما براكين في لوحة أو في قصيدة ؛ وعلى الأرض الجامدة في الهيكل السلام … تلك بصمة عبد الهادي السعيد الذي يتقدم في خرائط القصيدة ، فاتحا لجروح عدة ، ضمن مغالق شعرية عدة أيضا .


الكاتب : عبد الغني فوزي

  

بتاريخ : 05/10/2018