تمثلات العزلة والاغتراب في «مذكرات معتوه» للقاص حسن بوفوس

عوالم شخصيات نصوص «مذكرات معتوه» للقاص حسن بوفوس تعج بالقلق، ويتسم طابعها النفسي بالشعور بالتهميش والدونية والاضطهاد. تحاصرها عزلة ذاتية ناتجة عن وحدة وغربة مفروضة عليها ذاتيا واجتماعيا. لهذا تعتبر هذه الدوال (الاغتراب/ الوحدة/ التهميش/ العزلة) إحدى الخيوط الناظمة لقصص المجموعة. وهي تؤثر في تواصل الشخصيات مع المحيطين ومع المجتمع. لهذا نجد قصة «إطلالة على الشارع» تصور لنا انقطاع حبل التواصل والتفاهم ما بين أحمد (الذي اكترى شقة صغيرة) وصاحب تلك الشقة الذي أراد أن يخرجه منها بالقوة لطمعه في الزيادة. والعلاقة الاجتماعية المنفصلة والمتوترة، هي في حد ذاتها معادل مرادف لغربة ووحدة يعيشها أحمد في مجتمع مُضطهِد يتواطأ على نبذه.
لقد حاول المتشرد في قصة «العربيد» أن يفتح منفذا للتواصل مع السارد عبر توسله بالحوار، باعتباره مخرجا مؤقتا يدفع عنه الشعور بالوحدة والغربة الاجتماعية. لكن التواصل جاء من طرف واحد، إذ أن السارد اكتفى بالمشاهدة والإنصات، بل والارتياب، بحكم أن المتشرد شخص منبوذ/غريب، كأنه، وبوعي خاطئ، لا ينتمي للمجتمع، ويعيش عزلة التشرد والإهمال. فتوارت خلف مظهره ومنظره حقيقة ظروفه، وأنه ضحية بيئة تتسم بالتدني القيَمي، وضحية مجتمع قابله بالاستعلاء والمكر…
تحمل الشخصيات أفكارا سوداوية قاتمة ناتجة دائما عن قلقلها المستمر نحو الحياة وتقلباتها، ونحو المجتمع الذي لا يرحم. ونقرأ في قصة «نظرات»، ما قاله السارد عن المرأة (شخصية القصة): «انطوت على نفسها ثم شرعت تحرك الهواء. انهالت عليها أفكار سوداوية. منذ أسابيع شعرَتْ بالجنين يتحرك. كيف تواجه مستقبلها؟ الحياة في المدينة صعبة بمعزل عن زوج يخفف عنها ثقل مسؤولياتها» (ص20). في هذه القصة، المرأة تُشعرها أفكارها السوداوية بفقدان الأمن والطمأنينة وهي على متن القطار، لهذا كانت تُريبها نظرات الرجل الذي كان أمامها، وتبعث في نفسها الخوف والحذر من المجتمع حولها، فالنظرات في بعدها الدلالي تحيل على رأي المجتمع ككل في المرأة المطلقة… وهذا الشكل من الوحدة والاغتراب يتحول إلى حزن خانق، كما نجده كذلك في قصة «مرآة تتكلم»، إذ قال السارد: «اضطرتها الظروف إلى العيش لوحدها.غالبا ما ينتابها شعور بالضيق والاختناق…» (ص15)
وفي قصة «ثقب أسود»، تفر الشخصية من ضغط الأفكار المقلقة التي تسيطر عليها، والتي يختلط فيها الخيالي بالواقعي، وإن كانت هذه الأفكار هي في الحقيقة تعكس صورة صريحة إلى ما وصل إليه الإنسان من الاعتداء والتجبر على أخيه الإنسان، إلا أن تلك الأفكار امتزجت مع تخيلات الشخصية وتصوراتها الذاتية، كأنه «شعور الانفصال والصراع بين قوى اللاوعي الدفينة والذات الواعية»(1)، فحاول صاحبها الهروب من عزلته ومن أفكاره بمغادرة المنزل إلى المقهى «حيث يكثر الدخان والضجيج»(ص38) فهو هروب من مجال فارغ إلى مجال ممتلئ يقل فيه ضغط الأفكار، وعلى اعتبار أن المقهى فضاء صاخب التمس فيه مخرجا لشعوره بعزلة نفسية وفكرية. وقد وُظف المقهى كفضاء رمزي بنفس الشكل في قصة «عالم لا يحتمل»، فالبطل في هذا النص يتحول جلوسه في المقهى كفضاء ممتلئ إلى محطة للإحساس بالوحدة واللاجدوى، فيستغرق في استرجاع ما حدث له في أمسه مع رب المعمل الذي كان يشتغل فيه، حيث أن صاحب المعمل أهانه، فما كان منه إلا أن صفعه انتصارا لكرامته الشخصية، وإن كان يعتبر نفسه انتصر أيضا لكرامة جميع زملائه. وتصرفه يعتبر محاولة انتفاض سببها «شعور بالذات متزايد الاتساع» (2) وكما يقول ألبير كامو: «إن المتمرد مسك الإنسان المطلع الشاعر بحقوقه»(3). غير أن احساسه بالاغتراب يبتدئ حين يعي بنفسه أنه يواجه مصير الطرد وحده دون تضامن من زملائه، فتتصارع الأفكار في ذهنه، وبوعيه يدرك أن العالم حوله غير محتمل لأنه يعج بالمتناقضات… وصار يعيش غربة نفسية بسبب عطالته وإحساسه بدونيته وسط الناس: «يتيه كالمجنون هكذا إذن يقتحم هاته الأمواج المتثاقلة من البشر» (ص43)، والقصة تشير إلى اغترابين: الأول سلبي، إذ يبيع الإنسان ذاته في سوق الحياة، (وهذا يتعلق بزملائه في العمل). والثاني إيجابي وهو الذي يخص شخصية النص، لأن الإنسان يعطي ذاته للكل، ويقوم بتضحيات في سبيل هدف نبيل ودفاعا عن مجتمع وأفراده(4)، لهذا فقد أشرقت فكرة إيجابية في ذهنه في خاتمة النص، تحثه على أن يصوغ من جديد قدراته الفردية أو قدرات آخرين مثله في قالب واحد ويوظفها خدمة لأهداف واحدة…
في قصة «العصا لمن عصى»، بسبب ظروفه الاجتماعية السيئة: يؤدي الشعور بالدونية والاحتقار والوهم ببوابِ أحد الحانات إلى أن يتحول إلى إنسان عدواني عنيف يسكب شحنة غضبه في أقرب الناس إليه وهي زوجته، ثم ينتقل هذا العنف إلى ولده الذي بدوره يعنف شقيقته. ولعنوان هذه القصة رمزية تحيل على الضرب والعنف والإرغام على الطاعة والمذلة، كإشارة إلى أن المجتمع صار متواطئا على اتخاذ العنف وسيلة في كل المجالات، بمبرر التعديل والتقويم أو دون مبرر واضح كما حدث في القصة.
أما في نص «مذكرات معتوه»، فيقول السارد عن صاحب المذكرات: «لا شك إذن وعلى الرغم من أنه لم يكن يكثر الخروج ومخالطة الناس كان يعيب ما أطلقوه عليه من لقب» (ص56)
وإن شعور الشخصيات بالعزلة والاغتراب وعدوانية المجتمع يتجلى أيضا في قول صاحب المذكرات: «أشعر كأنما المجتمع يريد أن يدكني دكا بين أسنانه الحادة (..) أحيانا أشعر بالخوف والغربة وسط الجماعة..»(ص60)
ثم يقول في موضع آخر من نفس النص: «إذا تماديت فيها أمست فقرا وقفرا: العزلة شيء مهم للغاية بمقدار أهمية الغوص في الجماعة وتوكيد الذات، هي ترادف البطالة إذا ما طال أمدها…»(ص62)
في قصة «تحت رحمة المطر»، يحاول المتشرد أن يخرج من عزلته بفتح حوار مع الشخصية الساردة، في نفس الوقت الذي يبحث السارد فيه عن السكون، فيضعنا الكاتب أمام شخصيتين متضادتين، متشرد يقول: «لي رغبة التحدث قليلا من الوقت. الإنسان بطبعة يمّل الوحدة». وشخصية ساردة ترد: «على العكس منك، أريد أن أخلو إلى السكون» (ص64)
هنا نتبين، أن العزلة قد تكون عند أغلب الشخصيات معادلا للوحدة والشعور بالحزن الشديد من أثر اغتراب نفسي وقلق لا ينتج إلا أفكار سوداء قاتمة. وقد تكون العزلة في بُعدها الإيجابي صفاء والتماسا للسلم الداخلي، لهذا لنا أن نعود إلى الانطباع السابق الذي منحته لنا صورة الغلاف.
وفي قصة «عجوز شمطاء»، يقول السارد: «إنني أحب الحياة على هذا الشكل منعزلا عنها شيئا ما. وتحت إلحاح الجميع قررت الخروج» (ص75). ثم بعد تأملات شتى في الطبيعة يكتشف بعض الحقائق التي كان لا يراها، ليعترف بعدها: «اعترف بخطئي إذا كنت بعيدا عنك، منعزلا تظهرين لي في أثواب متعددة ألوانها» (ص78)، إنه نوع من معرفة الحياة على حقيقتها، فالعزلة أحيانا تقف كمانع من إدراك حقيقة الطبيعة والحياة، وإن كانت العزلة تمنح مساحة للتأمل والتفكر، لكن التجربة تبقى أساسية ومهمة للاختبار، والاحتكاك بالواقع، لهذا نجد القاص يولي أهمية كبيرة لرصد حياة المتشردين والمقهورين، أولئك الذين عزلتهم الحياة عن رفاهية المجتمع، أكرهتهم ظروفهم الاجتماعية أن يكونوا ضحايا التهميش.
كما يصور لنا حياة كائنات حيوانية على حقارتها قادرة على تصوير مفارقات تضع الإنسان في موضوع التساؤل انطلاقا من سيطرته وتجبره وتدهوره الأخلاقي. إن الكاتب يمتلك حسا نقديا ككاميرا تعرض جوانبا من حياة الهامش التي تتجلى فيها بعض حقائق الحياة والطبيعة. وليس إدراك حقائق الأشياء قاصرا على المنعمين والمترفين، بل قد يرى المهمشون ما لا يراه الآخرون، كما قال المتشرد في قصة «تحت رحمة المطر»: «فأنا على الهامش أرى ما لا ترونه أنتم أثناء سباقكم مع الوقت».(ص64)

الهامش:

1-الاغتراب قراءة في نص الشاعر قاسم سهم الربيعي»غربة الروح» – حسين عجيل الساعدي – موقع الحوار المتمدن، 17/12/2017
2-الإنسان المتمرد – ألبير كامو – ترجمة: نهاد رضا. الطبعة الثالثة: 1983. ص: 27
3-السابق
4-الاغتراب في رواية طشّاري لإنعام كجه جي – مذكرة لنيل شهادة الماستر في الآداب 2016/2017– أسماء توبة. ص8


الكاتب : بقلم: رشيد أمديون

  

بتاريخ : 09/10/2018