عود على صين: على ضفاف البحيرة الشرقية.. 4

على جانب الفندق، بباحاته المخضرة، يقف المسرح الأحمر، بناية على مشارف «نهر يانزي»، تطل على رافد وعلى بحيرة، يتلألأ بهندسة كما لو أن الضباب الذي سبقنا إلى المكان هو الذي صاغه من دخان أحمر لعشبة تفوق الأفيون في تهويماته…

نحن هنا بمحض الجهوية المتقدمة، نحن هنا نطلب الجهوية المتقدمة ولو في الصين..لكن على ضفاف أطول نهر في آسيا وأحد أطول أنهار العالم، حيث اختار أهل البلاد بناء مسرح عالي الطبقات، على ضفافه..كل الشعوب التي ستحل بالفندق المصنف عالميا، سترى هذا المسرح ومكانه..
تقودنا الأعراف الفندقية إلى غرفنا… ونعود إلى الباحة، موزعين بين التعب الذي ضاعفه التفاوت الزمني، واختلاف الليل والنهار في ترتيب الجسد.
الثانية ليلا في المحمدية، التاسعة صباحا في الصين، على ضفاف البحيرة الشرقية!
يا إلهي، كيف تخرج الليل من ساعتي البيولوجيا وتدخل النهار إلى مسام دماغي في الوقت نفسه..
لا شك أن الساعة البيولوجية دقت في بيتي بالمحمدية، وأنا استيقظت في يوهان..
هل سبق لك أن زرت الصين؟
نعم.
وهل زرت يوهان؟
ربما،
يدور الحوار مع مرافقتنا، هي بفرنسيتها التي تتسلق اللسان «الغولي»، وأنا بما يشبه امتلاك لغة ليست لي..
خلت لحظة أنني زرت بالفعل يوهان، بسبب صور غامضة لليَشْب والأضواء، وأيضا بسبب الحدائق التي رافقتنا طوال الطريق من المطار إلى الفندق، وبسبب البحيرة التي كانت ترتمي، مثل حورية، على ضفاف العين والمشهد…
الفارق الزمني فرض علينا قيلولة، سباتا، لحظة نوم تجمع بين ساعتين بيولوجيتين في جسد واحد..
بين نعاسين، بين ليلين: واحد في المغرب والآخر ما زال يتمدد بحثا عن غروب يبدأ به عتمته.
نستيقظ، لنفاجأ بالأضواء تغمر الخارج: ليل الصين القصير، يصل باكرا والساعة مازالت منتصف النهار في المحمدية…
فضالة البعيدة التي أحملها معي أهلا ورائحة..
في مطعم الفندق، ملامح صينية مألوفة تقول إن الوفود لم تبدأ وصولها بعد…
جولة تظهر أن المطاعم كلها هنا: ذوق فرنسي، وآخر انكلوساكسوني، والباقي صيني… آسيوي.
شيء ما تغير عن الزيارة الأخيرة: هل هي الرائحة التي لم تعد نفاذة بنفس القوة والسطوة؟
هل هو ترتيب الطعام؟
هل هي الرطانة الإنجليزية التي انتشرت بين أروقة الفندق، بعدما كانت نادرة في الزيارات السابقة؟
هل هي الكتابة بالحروف اللاتينية التي تعادل الحروف الصينية الرسومية؟
ربما هذا، وربما شيء آخر لم نتبيَّنه، ولكن الثابت أن الأجواء، منذ نزولنا في المطار وإلى وصولنا المطعم، تشي بتغير عميق ولكنه ليس محدد الملامح في الصين الجديدة.
ليل أول في يوهان، يشبه غربة طويلة في الجسد، وفي المنام: ما بين ظلمة تحيط بك في الغرفة، هنا في يوهان، ونهار ما زال يسكن الجسد القادم من تخوم إفريقيا،هنا أيضا: تُرى، ماذا سيختار الحلم،
وأي منام: حلم يقظة أو حلم تأويل؟
لا شيء يعلق بالذاكرة، عندما «تستيقظ» ويبدأ النهار الصيني برنامجه..
في بهو الفندق، بعد فطور اليوم الثاني، الاثنين 15 أكتوبر، تنتظرنا السيدة كريسطال، واسمها الحقيقي، جين تشين. عندما سألتها، خلال زيارات وردت من بعد عن هذا التزاوج في الأسماء، فهمت منها أنه اسم غربي يخترنه لتسهيل مهمة التواصل عوض أسماء تبدو متشابهة أو صعبة التذكر.
وكذلك كان الاسم مع «أوغوستين،» طالبة السنة الثانية أدب فرنسي، التي اختاروها لكي ترافقنا أيام المنتدى الأخيرة..
على كل اختيار جيد يسهل التذكر ويسهل التواصل.
جين تشين، سيدة أعمال، في شركة عائلية إلى جانب عميها اللذين يتوليان تدبير الشركة ذات الفروع العديدة في الصين..
وهي الأولى من حيث الانتشار في بلاد المليار ونصف ساكن… وتعمل على الاستقرار في العديد من الدول، منها مالي والسنغال وتنزانيا ونيجيريا ورواندا..
تعمل في مجال المنصات الالكترونية الجديدة.
جين تشين إلى جانب ذلك، طالبة دكتوراه، تستعد لمناقشة دكتوراه في السوسيولوجيا، تكتب المقالات والأبحاث، وهي عضو في مركز الأبحاث حول إفريقيا في جامعة يوهان ومديرة شركة «جين لي سوفتوير»، بمالي.
المقر الذي توجد فيه الشركة يوجد بعمارة شياكة (أنيقة)-، كانت في وقت ما من أفضل العمارات، وأكثرها شياكة قبل أن تتحلق حولها ناطحات السحاب والقامات الإسمنتية الفارعة..
عندما دخلناها وجدنا أحد عميها في استقبالنا، رفقة طاقم من الشباب المسير، ذكورا وإناثا.
كالعادة، كان الشاي الصيني الأخضر، الذي يصب في فناجين صغيرة للغاية، بشكل مستمر وتلقائي، وكلما أفرغ الضيف فنجانه..ثم كان العرض المركز والمسهب حول عمل الشركة وحول آفاق تطورها.
جين تشين، كريسطال، تحب المغرب وتفكر أن تستقر فيه.
وربما لو أسعفتها أحلامها، ستنشئ فيه مطعما آسيويا..تريد أيضا أن تنقل الموزع المركزي،”serveur” من إيرلندا إلى الدار البيضاء، لتزويد الفروع في الدول السمراء بخدماتها.
يعرض المدير العام صورا للأنشطة في نيجيريا والدول الأخرى، ويعرض في الوقت نفسه طموحا صينيا كبيرا في العمل الإفريقي…
كل ما يعرض مهم
وكل من يتابع مهتم!
مطر خفيف يغطي إغراءنا بالخروج… وبالجولان. يصل منتصف النهار فتتوقف الساعة، إلا من نداء الغذاء.
الصينيون يضبطون شهيتهم على منتصف النهار، بلا زيادة ولا نقصان.
صلاة منتصف النهار اللذيذة، المتنوعة على مائدة تدور باتجاه الساعة… تقول مرافقتنا إن الوقت هو الوقت وإن الغذاء هو الغذاء..
وما بين شدق وآخر يدور حديث عن بلاد المغرب وعن طموحاتها… عن قوانينها وعن مشاريعها…


الكاتب :  عبد الحميد جماهري

  

بتاريخ : 26/10/2018