إيجابي

 

سكنته هذه الكلمة، وعلقت بذهنه، وظل طول حياته يؤمن بها، فكان لها وقع السحر عليه ،وعندما عثر عليها ، أحس كأنه عثر على سر كبير من أسرار الحياة. فحرص أشد ما يكون الحرص ،على أن يكون فعالا خدوما ومن ثمة «ايجابيا» ، لا يني يساعد ، يبادر، يمد الخطوة الأولى ، ويكون أول المُلقين…
في كل مكان و في كل ناحية، يكرم جيران البيت وجيران العمل …دائما كان يجيب مبتسما: على المرء أن يكون «إيجابيا».
كان يعتقد أن الناس خلقوا ليخدموا بعضهم البعض، فردٌ واحد إيجابي الشحنة، يكفي ليحول مئات الناس من ذوي الأقطاب السالبة، إلى شحنات موجبة قادرة على تشغيل مصنع بأكمله.
يتذكر مرة ،أنه قال لصديقه على مقاعد الدراسة :
« ممكن أن نولد الكهرباء ، من دون قطب سالب، الموجب وحده يكفي …! «
ابتسم التلميذ، وتابع درس الفيزياء ، والأستاذ يشعل المصباح الكهربائي من التقاء السلكين…
ومن فرط إيمانه بالفكرة، علقت بذهنه وارتسمت حروفها أمامه كأنه يراها…
ويسير الموكب، وتجري الحياة وكأن الزمام بيدنا، ويُخيل للإنسان أنه أحاط بما ينبغي الإحاطة به، وأنه رتب الأمور وفق ما يريد، على الأقل تلك التي تطالها يداه، وتقع تحت عينيه …
ومن بين ثنايا الزمن ، وفي غفلة منه تنبجس الفجيعة وينشق صاري السفينة ، ليولد الألم وينمو و يكبر.
من الهلام ومن ميتافيزيقا الحياة التقطها ، كانت حلما لذيذ الاشتهاء، ورحيقا حلوا على الشفتين، وحبييات رمل مغسول على الشاطئ اللازوردي، تضغط جهة القلب فتعصره، فتنز العين دمعا و ذكرى هفهافة…
في سكتة الزمن ، ذابت ، انمحت ، لم تعد… ، كأنما بلعتها الأرض…
لم يعِدها لا بالمركب ولا بالمنزل، وإنما منّاها بالحب الدافق الجارف، و الحضن الدافئ المنيع، الذي يقف في وجه العواذل والأزمات القلبية والسكنية والمرورية، وتحرشات رؤساء العمل ونميمة الجيران…
لم يدْر، ولا خطر على باله، أن الزمن سيتوقف، وأن الهواء سيصبح عصيا على الاستنشاق… في بضع ثوان، أصبح غريبا ووحيدا في هذا العالم، وبدأ يشعر بالبرد يسكن جسده…
في بضع ثوان، انهالت عليه الغربة تأكل أحشاءه، وشعر بخواء يملأ جوفه، وكل ما حوله زال وبهت وانمحى ، أشباح وظلال ، واللون الرمادي يمتد ليبلع كل شيء…
ما أشد غربة الإنسان في هذه الحياة، والغربة هي أشد ما يهابه الناس…
وهو يغادر المركز الصحي، لم يكن يمشي، ولم يكن يشعر بأي أثر لقدميه على الأرض ، كان يسبح في الخواء ، ومن الخارج لم تكن الأصوات تصله، فقط صوت الداخل العميق، صوت الصمت و الهوى السحيقة.
ضغط ورقة الفحص الصحي بين أصابعه…
وعلى ظهرها كانت تظهر كلمة “ إيجابي”…


الكاتب : عبد الحكيم برنوص

  

بتاريخ : 14/12/2018