انزياحات في قضية آيت الجيد/حامي الدين، تليها فرضيات ساذجة للغاية‮!‬ 2/1

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr

 

لم تنل اللغة القانونية، والمتفرعة عنها، قضائيا ومسطريا وغيرهما، سوى القليل من المتن اللغوي الذي يتناول قضية استدعاء القيادي حامي الدين، في قضية الشهيد بنعيسى آيت الجيد..فيما تم تأطير السجال كله بمتن آخر، يعود إلى الذاكرة والتاريخ والأحكام الأخرى بغير قليل من الحماس واليقينية..
تداخل التاريخي
بالسياسي
بالانتقالي
بالعقائدي
بالعاطفي
بالقضائي…
وانزاحت اللغة إلى حواشيها السياسية والتاريخية والهوياتية أكثر من غيرها، مما كان سيشكل إضافات في الاجتهاد وفي النقاش الحقوقي، بل مما يمكن اعتباره فصلا آخر من تدقيق الإصلاح القضائي أو التنشئة السياسية لكل مكونات الحقل الوطني…
الانزياح الأول لغوي:
– كان أبرز ما فيه هو الشعار«لن نسلمكم أخانا»، المنسوب إلى رئيس الحكومة السابق الأستاذ عبد الإله بنكيران، وهو شعار يمتح من مرجعية تراثية، ترفع الاخُوَّة إلى مصاف الفيصل والمعيار في تحديد المواقع والمواقف.
والمرجعية هنا واضحة، لا تخلو من نفس تعبوي، بروح الدينية، والذي يعود بمجاز الصراع إلى أصوله
التاريخية :
– أصول عقائدية: كما في حكاية عم الرسول عليه الصلاة والسلام مع ابن أخيه لما قال لأهل قريش: لن نسلمكم ابننا…
وتظل الإحالة هنا ذات أصل عائلي، عشائري، تظلل بظل الإسلام في ما بعد، ليكون مرجعية تاريخية اكتسبت قوة عقدية لارتباطها بنبي الإسلام عليه صلوات لله وسلامه…
– أصول عصبية، ترتكن إلى بلاغة التعاضد والعصبية في الائتمان على الأحلاف، كما وردت في قصة بنو النضير، وفيها «بعث رسول لله ﷺ محمد بن مسلمة يأمرهم بالخروج من جواره وبلده، فبعث إليهم أهل النفاق يثبتونهم ويحرضونهم على المقام، ويعدونهم النصر، فقويت عند ذلك نفوسهم» …
وفي نفس الرواية أنه: «قد كان رهط من بني عوف بن الخزرج منهم: عبد الله بن أبي، ووديعة، ومالك بن أبي قوقل، وسويد، وداعس قد بعثوا إلى بني النضير أن اثبتوا وتمنعوا، فـ”إنا لن نسلمكم …”» .
وسواء في الرواية الأولى ذات النكهة الروحية الإيمانية أو في الثانية المعاكسة لها.. روحا وجسدا، فإننا أمام إعادة صياغة تاريخية، لواقعة حديثة، معناها لا يتجاوز السقف الحالي أو على أكثر تقدير العهد الذي سبقه..ونحن لا نضمن قوة الحجية بالاستناد إلى التاريخ باعتبار أنه يحمل الشيء وعكسه، أي الإيمان وضده..
وفي كلتا الحالتين، يكون من نتائج ذلك، حدوث تقسيم لاتاريخي للواقع :
جزء يمثله أخانا، أو حليفنا وهو جزء منا،
فئة أو عقيدة …
وجزء تمثلونه أنتم، كجزء من الآخر الحامل للشيطنة والحسابات والمكر..
فئة أو عقيدة أيضا..
وهكذا انزياح يحشر القضية في زاوية يصعب معها التعامل، كا أنه يستدعي انزياحا آخر كمقابل له يرد به من يرى أن القضية في ميزان شد الحبل ورهانات القوة…
كالقول: لن نسلمكم الوطن، كما لو أن الوطن بحجم شخص أو الشخص بحجم الوطن، عند هذا الطرف أوذاك…
* انزياح سياسي، هذه المرة، يحمل لغته معه وينقل النقاش إلى حيث توجد السياسة أكثر مما توجد العدالة..
فيرد بانزياح آخر، يعتمد مضمرات أخرى لعل أهمها الجماعة مقابل الدولة:
وبذلك تخرج القضية من معادلاتها الوظيفية، أوالقانونية أو الجنائية، إلى أفق أوسع يستحيل أن يظل مضماره هو القضاء، كما لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون القضاء – كسلطة – قادرا على فك شيفراته، مهما كثرت القضايا والتنابزات والسجالات، إنه من نوع القضايا التي يعالجها التاريخ الكبير للأمم، بجدلياته كلها…
ولا يمكن اختزالها في محاكمة مهما كانت شموليتها، بالأحرى في قضية بين طرفين! ..
إلى جانب الانزياحات المسجلة والتي يتعذر معها الانخراط في نقاش هادئ في قضية ساخنة تستوجبه ولا شك، هناك ثنائيات وفرضيات قد يكون من المفيد التأمل فيها، ولو من باب الاستحضار المشفوع بالشك،
ومنها، فصل جديد من معركة القضاء:
قوة الرد الذي جاء على يد السيد وزير الدولة في الحقوق، في الحكومة الحالية، بالرغم من شرطيته الآنية، وما هو مرتبط فيه بالقضية في راهنيتها، يمد بعض ظلاله إلى ما قبله.
هناك اليوم، قاضي التحقيق، وهو مشمول بتعريف النيابة العامة في النازلة، ومواردها البشرية والقانونية، من جهة، والوزير الحالي في الحقوق والسابق للعدل.
وقد عادت بعض فقراته، في ضمن الحديث عن النازلة، وسمعنا، من القضاة كما من العديد من المواقع، إشارات إلى السجال الذي دارت رحاه تحت مسمى كبير هو خطر «دولة القضاة « ، والذي عارضته الوصاية السياسية، والحزبية، في معمعان الإصلاح والحديث عنه.. .
وتجدر الإشارة إلى أن السيد الوزير الحالي السابق، كان قد دخل، في وزارته، على مجهود كامل من الحوار الوطني للإصلاح، قاده عبد الواحد الراضي، كوزير سابق عنه، غير أنه اختار مسح الطاولة برمتها وإعادة النقاش من أوله حول إصلاح القضاء، وهو ما يعني بأنه تحمل مسؤوليته كاملة غير منقوصة في ذلك، بعد أن «جب» ما قبله من إرادات في الموضوع ومن مجهودات اكتملت قبيل مجيئه..
يحق، من باب التدرج الزمني على الأقل أن نتساءل: ألا يمكن أن نكون هنا أمام فصل من فصول هذه الثنائية ( نيابة عامة-وزارة العدل) التي أثرت في النقاش حول الإصلاح، لا سيما عند الحديث عن النيابة العامة؟
كم كان بودي لو أن قضاة، من جهة ووزراء وسياسيون من جهة أخرى تدخلوا بنقيض ما يذهب إليه عموم الزملاء في المهنة، أو بعيدا عن التكتل المفروض بقوة الاصطفاف الذي تم على الجبهة السياسية، لكن منطق الثنائيات يغلب في الحالة الراهنة…
الفرضية الثانية: يعلو وينخفض نقاش مصاحب للقضية يدور حول العدالة الانتقالية والواقع الحالي.
ومجمل الحديث فيه هو المعرب عنه في سؤال ضمني: ما هي حدود العدالة الانتقالية في قضية مقتل آيت الجيد، بعد إدانة سابقة للمتهم، ثم بعد رأي اللجنة المكلفة بالمصالحة الوطنية الشاملة؟
وهذه الثنائية، بين عدالة انتقالية، مهمتها المصالحات الكبرى في تاريخ الدولة وتاريخ المجتمع، وبين عدالة جارية، تُضْمر حق الاستفادة منها من عدمه…
وبمعنى آخر: هل تكون العدالة الانتقالية قد استوفت كل جموحها في المصالحة لكي تفتح الطريق إلى عدالة عادية، تم إصلاحها، وأن القائم على إصلاحها، هو من يشكك فيها عندما استوت للنظر في قضية، قد تكون في محكم القضايا المحسومة سابقا؟
سؤال إشكالي ولا شك، لكنه يطرح علاقة العدالة الانتقالية بما بعدها، وتدبير ذلك.
وقد كان لافتا أن يكون أحد صناع تلك اللحظات في الإنصاف والمصالحة، صلاح الوديع ممن تدخلوا وكتبوا في الموضوع، طالبا من المتهم الرئيسي دفترا أبيض حول الملف، بمعنى تقديم رواية شاملة للحادثة، كما سمعها منه…
كما لو أن أوراقا من القضية أفلتت من العدالة الانتقالية وظلت بيد المتهم نفسه، لم يصدر الحكم بإغلاق قضيته ( إغلاق الحساب بلغة الماضي solder l histoire) …
وأمامنا واقع متشابك بالفعل، وثنائيات دقيقة:
القتيل يطالب بالعدالة الحالية
والمتهم يطالب بالعدالة الانتقالية ..
قضاة ضد رجل الدولة.. يستكمل إصلاحه للقضاء بساعات إضافية في السجال السياسي..
استعارة التاريخ اليانعة
مقابل المسطرة الجنائية الجافة..
ونعود إلى السؤال الذي تفرعت عنه هذه السذاجات بانزياحاتها الصباحية:
هل الذي‮ ‬يحدث اليوم حول استدعاء ومتابعة حامي‮ ‬الدين‮، يمكن أن‮ ‬ينحصر في‮ ‬الدائرة الواضحة للعين المجردة، التي‮ ‬رسمتها البلاغات والبيانات والمقالات والمواقف المعلنة،‮ ‬أي‮ ‬في‮ ‬قراءة الجريمة بناء على‮ أو ضد المسطرة الجنائية؟
أم أن قراءات أخرى،‮ ‬من زوايا وبراديغمات أخرى‮ ‬ممكنة؟
تبدو القضية برمتها كما لو أنها عتبة، لرفع التهم الأخرى..
كما لو أن البراءة فيها ومنها فقط، ليست هي السياق الوحيد،
بقدر ما هناك تهم أخرى تبحث عن قضية!
كلٌّ يتهم الكلَّ
والكلُّ يتهم كلاًّ..

الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 17/12/2018

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *