نصوص : غَزَلُ الْخُلُودِ…

 

جَلسْتُ بَعِيدًا عَنْ ظِلَالِي إِلَيَّ أَنْظُرُ خَلْفَ زُجَاجِ الْعُمْرِ
اَلْبَحْرُ لاَ يَهَابُ أحَدًا حِينَ يَعُودُ إِلَى الْوَرَاءِ.
فِي الطَّرِيقِ إِلَيَّ أَرْتَدِي وَجْهِي كُلَّ صَبَاحٍ، أَغْسِلُ ابْتِسَامَتِي شِبْهَ الْعَارِيَةِ، أَنْتَعِلُ مَا بَقِي لَدَيَّ مِنْ ظِلٍّ ،وَأَخْرُجُ كَحِكَايَةٍ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ الْجَدَّاتِ، أَتَسَكَّعُ خَارِجِي مُتَأَبِطًا أَفْكَارِيَ الشَّرْقِيَّةَ وَقَدْ تَبَلَّلَتْ بِمَاءِ الْخُرَافَةِ وَضَبَابِ التَّأْوِيلِ..عَلَى رَوَابِي الْحُلْمِ الْخَضْرَاءِ ،وَحْدِي جَلَسْتُ غَيْرَ مَا مَرَّةٍ رفقة السؤال، فِي يَدِي حَبَّاتُ أَمَلٍ تَلْتَقِطُهَا عَصَافِيرُ خَيَالَاتِي كُلَّ مَسَاءٍ.كَمْ  أَسْعَدُ حِينَ أَسْمَعُ تَرَانِيمَ الرُّوحِ الْحَالِمَة عَلَى وِسَادَةِ صَحْوِي الْمُلَوَّنَةِ ،الْمَحْشُوَّةِ بِرِيشِ الْعِشْقِ  وَالْأَشْوَاقِ  اللاّزوردية..
تَحْتَ شَلاَّلاَتِ الْحُلْمِ الْهادِرَةِ.أَسْرِقُ حَفْنَاتٍ مِنْ مَاءِ الْحُبِّ..أَغْسِلُ بِهِنَّ طَبِيعَتِي .
أهيم عَلَى فُؤَادِي بَيْنَ دَوَالِي الْأَفْرَاحِ..بَعِيدًا عَنْ أَشْوَاكِ الْيَأْسِ أَمْسَحُ عَلَى وَجْهِ الْحُزْنِ بِمِنْدِيلٍ مِنْ صَبْرِي..
حَفِيفُ وُرَيْقَاتِ الْحُلْمِ يُوقِظُنِي كُلَّمَا غَفَوْتُ ،
يُدَغْدِغُ مَا بَقِي مِنِّي تَحْتَ ظِلاَلِ الْعُمْر ِ..
وَأَنَا أَتَوَسَّدُ ذِرَاعَ الْأُمْنِيَاتِ ..  يَحُطُّ سِرْبُ الْفَرَاشَاتِ فَوْقَ كَتِفِي ،يَهْمِسُ فِي أُذُنِي مِنْ غَيْرِ كَلِمَاتٍ…
عَلَى بَابِكَ أَطْرُقُ أَيُّهَا الْجَمَالُ النَّائِمُ فِي جُفُونِ الْحُلْمِ،
دَعْنِي أُعَانِقُكَ بِالْمَرَّةِ..
أَخْطفُ قُبْلَةً مِنْ جِيدِكَ الْمَرْمَرِيِّ ،
أَتْلُو تَرَاتِيلَ الْعِشْقِ فِي بَاحَاتكَ السَّاهِرَةِ ..
أَنَامُ عَلَى شَعْرِكَ الدَّامِسِ أَلْفَ لَيْلَةٍ وَلَيْلَةٍ..
أَسْتَيْقِظُ عَلَى صَدَى كَمنْجَاتِ عَصَافِيرِكَ الصَّاحِيَةِ قَبْلَ قِيَامِ الشَّمْسِ ..
الرِّيحُ هُنَا وَالْإِعْصَارُ يَتَرَبَّصَانِ بِالْفُؤادِ الْمُتَسَمِّرِ عَلَى قَدَمٍ وَسَاقٍ …
عَلَى بَابِكَ.. أَطْرُقُ أَيُّهَا الْجمالُ الرَّاقِصُ عَلَى قَدَمَي الْحُلْمِ.
أَلاَ تسْمَعُ دَقَّاتِي …  أَلاَ تَسْمَعُ هَمْسِي؟
عَلَى ضِفَافِ الصَّمْتِ الرَّقْرَاقِ، بَيْنَ أَجْنِحَةِ سُكُونِ اللَّيْلِ الْحَمِيمَةِ، عَانَقَتِ الْأَطْيَارُ الدِّفْءَ تَحْتَ شَجَرَةِ الْحُلْمِ الْمَاسِيَةِ الزَّرْقَاءِ، فَوْقَ أَغْصَانِ الْهُدُوءِ هَجَعَتِ الْعَصَافِيرُ، فِي السَّمَاءِ الْعَلْيَاءِ انْبَجَسَ الْقَمَرُ مِنْ بَيْنِ فَيَالِقِ الظَّلاَمِ ،فِي مَوْكِبٍ بَهِيجٍ تَحْرُسُهُ مَلاَيِينُ النَّجْمَاتِ،يَسْبَحُ وَسَطَ أَمْوَاجٍ نُورَانِيَّةٍ فِي أَبْهَى طَيْلَسَانٍ. الصَّبَاحُ وَاقِفٌ يَنْتَظِرُ أَوْبَةَ الْفَجْرِ حَتَّى يُعَايِنَ طُقُوسَ وِلاَدَةِ النَّهَارِ ،حِينَ يُوقِظُ النَّسِيمُ أَلْحَانَ الْوَرْدِ،تَعْزِفُ الشَّمْسِ سَمْفُونِيتَهَا ،عَلَى أَوْتَارِ الْأَزْهَارِ يَرْقُصُ الْمَاءُ رَقْصَتَهُ الشَّفِيفَةَ،تُغَنِّي الْأَشْجَارُ عَلَى إِيقَاعِ الْمَسَرَّاتِ السَّرْمَدِيَّةِ ،تَهْتِفُ الْجِبَالُ الْخَضْرَاءُ بِخُلُودِ الطَّبِيعَةِ، تَسِيلُ الْودْيَانُ بِدُمُوع الْفَرَحِ الْمُغْتَالِ عَلَى يَدِ الْإنْسَانِ.خَلْفَ تِلكَ الرَّوَابِي الْمِلاَحِ يَقْبَعُ صَمْتٌ قَاتِمٌ، مُرِيبٌ يُهَدِّدُ حَيَاةَ الْبَبَّغَاوَاتِ ،هُنَاكَ عِنْدَ مَصَبِّ النَّهْر ِالْحَزِينِ تَغْسِلُ الْأَحْجَارُ أَرْوَاحَهَا مِنَ الْقسَاوَةِ كُلَّ حِينٍ ..
أَيُّهَا النُّورُ السَّاكِنُ فِي السَّمَاوَاتِ الْبَعِيدَةِ الْقَرِيبَةِ ،هَلاَّ طَرَدْتَ وَسَاوِسَ اللَّيْلِ مِنْ تَجَاوِيفِ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ ، إِنَّ الشَّكَّ طَارِقٌ بَابَ الطُّمَأْنِينَةِ صَبَاحَ مَسَاءَ ، ،يُزَعْزِعُ عَرْشَ السَّكِينَةِ ،يَمْلَأُ سِلاَلَ الْيَقِينِ بِالْفَرَضِيَاتِ الْعقِيمَةِ .
أَيُّهَا النُّورُ الْهَارِبُ مِنْ جَبِينِ الْقِدِّيسِينَ وَالْكُرَمَاءِ …هَلاَّ بَزَغْتَ فَجْرًا، إِنَّ أَكُفَّ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الصَّغِيرَةِ مَرْفُوعَةٌ مُنْذُ أَكْثَرَ مِنْ حُلْكَةٍ جَدِيدَةٍ قَدِيمَةٍ..
اَلْمِصْبَاح فِي زُجَاجَةٍ..، كُلَّمَا نَظَرْتُ بَعِيدًا فِي الْأُفقِ رَأَيْتُ الْأَرْضَ تُعَانِقُ السَّمَاءَ ،سَمِعْتُ حَدِيثَ السَّنَابِلِ عَنِ الْحَصَادِ الْبَعِيدِ،شَمَمْتُ رَائِحَةَ الْبَيَادِرِ ،تَذَوَّقْتُ مُنَاجَاةَ الْجَرِيدِ ،لَمَسْتُ الْغُبَارَ فِي كَلِمَاتِ الْكَادِحِينَ مِنْ بُحَّةٍ فِي الْأَصْوَاتِ…
أَيُّهَا النُّور ُ الْمُنْبَعِثُ مِنْ فَوْهَاتِ الْعِشْقِ الْحَمْرَاءِ لاَ تَحْرِقْ أَجْنِحَةَ الْمُحِبِّينَ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ،إِنَّ الْقَمَرَ يَحْتَاجُ إِلَى الْعُشَّاقِ مِثْلَمَا يَحْتَاجُ الْخُبْزُ الْأَعْزَلُ إِلَى أَمْعَاءِ الْفُقَرَاءِ!


الكاتب : بوشعيب العصبي

  

بتاريخ : 01/02/2019