« قبعة غريغوري» للقاص عبد الله المتقي أو قبعة المناديل القصصية

يغلب ظني ، أن القصة القصيرة جدا مربع سردي ، مكتظ بعناصر قص مغاير ؛ يقوم بتقضيم المكونات الحكائية المألوفة : من شخصيات و أمكنة و أزمنة..إلى حد تتحول معه هذه القصة إلى خيوط زئبقية دقيقة ، تقتضي قاصا ماهرا وحاذقا ، يتقن النسج و» اللعب « بمعناه العميق ، استنادا على الاختزال والإضمار، إضافة إلى تكثيف المقام ، ضمن قصر يشير ويلمح، عوض الأخبار والحشو …
إنها قصة لا تقبل الزوائد و الضربات العشوائية . و إذا حصل ذلك، فإنها تتوغل سردا ، لرصد الخفي وتلميع رؤوس المفارقات . حضرتني هذه الفكرة المركبة ، وأنا أقرأ المجموعة القصصية للقاص عبد الله المتقي ، الصادرة مؤخرا عن دار بوهيما للنشر بالجزائر . مجموعة تأسرك بعتبة عنوانها « قبعة غريغوري « . فعلى الرغم من المحاورة والتناص ، فالنصوص هنا تخرج من قبعة القص الوامض كمناديل بكامل خفتها ودهشتها .
ترصد المجموعة ـ قيد النظرـ وقائع هي عبارة عن تأملات تقع أو تتمظهر إيهاما بواقعيتها . لكن سرعان ما تنفلت ، لتغوص في مفارقات . في هذه الحالة ، فكل قصة ـ في ما يبدو لي ـ تسوق مفارقة ، تتجسد في واقعة متعلقة ببطل إشكالي ينثر قلقة بين الواقع والمتخيل لتنتهي كل قصة باحتمال صادم. ويبدو أن ما يميز القصص هنا ، هو انطلاقها سردا من تفاصيل اليومي، وإعادة بنائه ، اعتمادا على أسئلة وقلق بين الحروب المتنوعة والتردي العام في المجتمعات العربية . فانعكس ذلك على مرآة اللغة التي غدت متشظية ومقعرة،بواسطة أفعال تقع في الجسد وأفقه ، الشيء الذي حول قصص المجموعة إلى مشاهد .في هذا الصدد ، فاللغة السردية تتمظهر عبر ترميز يختصر الوقائع إلى حد تحولت معه إلى حالات لها حمولتها النفسية الزاخرة بتراسل الحواس . لهذا ، فالقصة غنية بالفراغات والمضمرات .
وفي المقابل، يقتضي ذلك من القارئ المشاركة الفعالة في الإضافة وبناء القصة من الداخل الذي لا ينتهي في التخيل والتأمل.
من جانب آخر، المجموعة غنية بالمحاورات لوقائع راسخة في المخيال الجمعي والنصوص و المشاهدات ؛ في جنوح لخلخلة ساخرة للركام العربي ـ المدعو واقعا وفكرا ـ الذي ينام على البدهيات والحقائق المتكلسة ، من خلال فضح المستور والمسكوت عنه من أسرار مصونة ، بما فيها أسرار القصة .
إنها قصص،يسعى الكاتب إلى تحويلها جماليا إلى سهام أو حجر منحوت أو مغسول بألم أبطال يعانون الوطء والقتل الرتيب ، في سعي إلى التحرر من السلط ما ظهر منها وما بطن . لهذا فهذه المربعات الفائضة عن حدها ، تلعب بسخرية سارية بين تلافيفها مع الحواجز والحدود المحروسة ، ضمن قصر زئبقي يضيق كرئة تتنفس هواءها الخاص بين الاختناقات ؛ وتتسع في المتخيل و التأمل بين تفاصيل اليومي الغاص بالمفارقات ، الناتجة عن أزمات كبرى . نقرأ في مجموعة « قبعة غريغوري « قصة « ناي « :
« منذ ألقوا به في هذه الزنزانة العفنة ، وهو يرسم على الجدران جذوعا محروقة ، وتمورا محروقة .
دارت السنوات ببطء ، وربما حدث ما يلي :
« حين طاله العفو ، رفض أن يخرج من الزنزانة ، دون جذوعه و محروقاته «
هل تعرف ماذا حصل بعد ذلك عزيزي القارئ ؟
بقي معتصما ومضربا عن الطعام أمام بوابة الزنزانة .»
يغلب ظني،من خلال متابعتي ومصاحبتي لمسيرة هذا الرجل ، في القول الوامض قصا وشعرا ، أنه لن ينتهي من صوغ مربعاته التي تبدو متعددة في كل إصدار من حيث السبك ، وأيضا التأمل الذي يتغذى على مقروء متشعب وتجربة إنسانية تتشكل على حافة العالم ؛حتى ليبدو لي أن صاحبنا آلة تخزين وبرمجة من نوع آخر على رصيف القصة . لهذا وذاك، القصة القصيرة جدا عنده تبنى كحائط شفيف : لبنة لبنة ، بل كلمة كلمة . فيتحول كل شيء في البناء إلى سؤال . هنا يمكن التوقف في قصته حول سطور متفاوتة الطول ، تحت فيض الحالة ؛ بل النظر إلى الربط المعنوي، اسنادا على السياق، واعتماد الواو المفصلية للربط بين المشاهد ، إنها واو عبد الله المتقي و ما أدراك ما تلك الواو . نستحضر قصة « كي « من نفس المجموعة :
لأن الأرض ضيقة…
رسم أرضا أخرى ، ونام فوقها ..
في أحلامه الشاسعة والمختلة ..
ركض في كل الاتجاهات ..
عانق كل المنعرجات ..
صرخ..
عوى ..
تنصل من ملابسه الداخلية ..
وحين اقترب من باب الصحو ..
تربصوا به، وأوغلوا سكينا في قفاه
كي لا يفتح عينيه أكثر ..
غير خاف ، أن المبدع في أي مجال ـ بشكل عام ـ يتقدم إلى الأمام،من خلال إعادة النظر باستمرار في ما يكتب : في المحتويات أو الأسئلة الحارقة وفي أدواته . ذاك أن الكاتب الحقيقي في تقديري يشحذ أدواته دوما، قصد بلورة خصوصية ،لها لمستها وصياغتها الخاصة ؛ بل ورؤيتها . والقاص عبد الله المتقي واحد (من تلك الثلة أو الأقلية الهائلة ) الذي يحيا في القصة وبها ، فكلاهما امتداد للآخر؛ معمقا ضرباته الخاطفة. لأن نظره حكيم لسؤال الابداع و مساحات القصة التي ينبغي أن تمشي بيننا ، دون التخلي عن إقامتها الطاوية على عرق ، له صلة بالنهر العميق الذي يشد الإنسان لهذه الأرض إبداعا وسؤالا متجددا .


الكاتب : عبد الغني فوزي

  

بتاريخ : 06/03/2019