نقاشات جريدة «لو فيغارو» الفرنسية.. أمين معلوف و ريمي براغ وموضوع «الإسلام-الغرب وتفادي غرق الحضارات»

خصصت جريدة «لو فيغارو» الفرنسية، بصفحتها للنقاشات «فضاءات مفتوحة»، حوارا جمعها والكاتب الفرنسي من أصول لبنانية «أمين معلوف»، حول عمله الأدبي الأخير بعنوان «غرق الحضارات»، حيث يقدم الكاتب نظرته التحليلية للأزمة الوجودية، التي يعيشها العالم العربي والغرب، ما بين أمريكا تائهة و أوروبا ضعيفة. ويحاول أمين معلوف من خلال مؤلفه الجديد، التصدي للتحديات المتعلقة بالتعايش ما بين الإسلام و المسيحية، رفقة الفيلسوف وعضو المركز المتخصص في الفكر العربي واليهودي وفكر القرون الوسطى، وصاحب العمل الأدبي «على الدين» ريمي براغ، مجيبين عن موضوع «الإسلام-الغرب و تفادي غرق الحضارات».

 
– استهلت الجريدة الحوار بسؤال الكاتب أمين معلوف، عن مصر سنة 1950 و لبنان سنة 1970،كما ذكرهما في مؤلفه الجديد، حيث كانت فترة السلم الديني والانتعاش الاقتصادي للبلدين، مجرد استثناء أو قدر لها الاستمرار لأكبر وقت ممكن؟
– أجاب الكاتب بالقول «إن الرجال هم من استفادوا من الثروات بشكل مباشر»، وإن الانتماءات الدينية لم تكن قوية كما اليوم، الصفات كجنسية المواطن والوسط الاجتماعي، لطالما حظيا بالأهمية القصوى، لكن هذه التجارب الإنسانية الواعدة اتسمت بنيتها الأساسية بالهشاشة. ففي مصر مثلا، عرف الشعب تبني فكر حمائي مفرط في حق المقيمين الأجانب، ما ولد نوعا من كراهية الشعب للأجانب، ولم يختلف الحال بالنسبة للبنان، إذ غلبت النزعة الطائفية ومحت معها أساسات الدولة، ما أدى لفشل محاولات إنشاء وطن جديد.
– وتنتقل «لو فيغارو» لسؤال الفيلسوف ريمي براغ، عن إمكانية إحياء التعايش ما بين الأديان السماوية الثلاثة خاصة في بلد مثل لبنان، وعن فرص تعايشها جنبا إلى جنب في باقي دول العالم؟
– يبدي ريمي براغ إعجابه بالجملة الأولى لأمين معلوف، بأن الثراء المتبادل مهم للرجال والأديان على حد سواء، وأن التعايش ما بين الأديان ليس سوى «تلاقح مزدوج» للثقافات، وعامل صداقة ما بين أشخاص من لحم و عظم، وأن «الاندماج الفكري الداخلي» ما بين الديانات في العصر الحالي، ضئيل نسبيا مقارنة بالقرون الوسطى، لكون معظم المحاولات في هذا المجال، والمرتبطة بالخصوص بالزيجات، قد انتهت بشكل مأساوي.
– أمين معلوف، لعل عنوان مؤلفك الجديد، إشارة مباشرة لمؤلف مشابه للكاتب صامويل هانتيغتون، لكن لمَ استخدمت كلمة «الغرق» مكان «المواجهة» في عنوان كتابك الجديد؟
– يتحسر إبراهيم معلوف قائلا: «مكنتني خبرتي الحياتية، من ملاحظة الواقع المرير لحضارات اليوم، فمؤلفي الجديد، يتحدث عن الأزمة الوجودية العميقة التي يعيشها العالم العربي حاليا، و»الغرق» الذي يعيشه كل من لبنان وباقي مناطق العالم عموما، بالرغم من القوة التي تمتعت بها المنطقة (قاصدا لبنان على الأرجح) قبل 30 سنة من الآن، والتي لم تستطع عبرها بناء قوة دولية جديدة. وفيما يخص القارة الأوروبية، بصفتها الأمل الأكبر للبشرية، فبالنسبة إلي، تخلت عن الاعتراف بمسؤولياتها العالمية في لعب دور القيادة، بالرغم من تجاربها ومعارفها الإنسانية الغنية، والتي توصف ب»البوصلة الأخلاقية الأرضية».
– أمين معلوف، هل يمثل مصطلح «عملية تجزئة الدولة» أو «Libanisation» (مصطلح يصف حالة الصراعات العرقية التي عاشتها لبنان في سنوات الثمانينيات) ما تعيشه فرنسا اليوم، وماذا يعني هذا المصطلح بالنسبة إليك؟
– شخصيا أتفادى استعمال هذا المصطلح، لأنه يشعرني بالحزن الشديد عند سماعه، فمُنايَ أن يكون وطني مثالا للتعايش الناجح ما بين الديانات، في أعين الناظرين إليه من كافة دول العالم. إن معظم المؤسسات الإنسانية تعرف تفاقم النزعة الطائفية، وهو ما أخطأ فيه «هانتيغتون» باعتبار أن المواجهة، ستكون ما بين سبعة إلى ثمانية «أجيال من الحضارات»، في حين أن «الأجيال» تعاني من تبعات غرق الحضارات و تجزئة الدول.
– ريمي براغ، هل يمكن اعتبار جملة الفيلسوف الفرنسي بيير مانينت «إن أوروبا قد طردت الرب من المحادثات الشرعية المدنية»، تمثيلا لعدم قدرتنا على وصف «الدين» اليوم، وتمييزه كمصدر لسوء التفاهم وأساسا للصراعات المستقبلية؟
– يرد ريمي براغ بكونه فيلسوفا، ولأسباب تتعلق بنوع من التدليس المهني، فعادة ما يبالغ في وصف النماذج…». أعتقد بأن مهمتنا الأساس، تتمثل في توضيح المعنى الصحيح لمصطلح «الدين»، وفي حال ما انتميت لأكاديمية تُعنى بتحديث قواميسها، كالتي يزاول بها زميلي أمين معلوف مهامه، لواصلت عملي على أفضل حال».
– يقاطع أمين معلوف الحوار: «لقد تأخرنا كثيرا… نحن قد شارفنا على نهاية الطريق!».
– ويرد ريمي براغ: «سنستمر بالانتظار إذا لزم الأمر، لا مفر من ذلك».
– ويتابع ريمي براغ، ما أريد قوله هو «أننا مازلنا مسيحيين أكثر من اللازم، وأن ارتباطنا بالدين ليس بالاعتقاد المسيحي الكافي».
– أما بالنسبة للإسلام، كما يذكره الباحث المتخصص في الإسلام لويس ماسينيون، فالإيمان بالدين شعوري محض، إذ أن فكرة «الإله» لا تشكو من أي شك، لما تتمتع به من الحجج والبراهين التي تساندها، ولا تحتاج لالتزام المؤمن بها، وهو ما يفرض على المسلمين نفي غير المومنين منهم، ما يسهل علينا فرض بعض القوانين على المسلمين، من قبيل «أن نتقبل دينهم وأن نرفض شريعتهم»، وهو مبدأ «أن نعطيهم بيد و نأخذ باليد الأخرى!».
يرد أمين معلوف، لدي نظرة مختلفة عن الفكرة التي يروج لها ريمي براغ، إذ لا أهتم كثيرا بالنصوص الدينية، كاهتمامي بالتطور الملموس للمؤسسات الإنسانية. أعتقد بأن المسيحية قد تحولت للشكل الذي طالما ابتغته أوروبا لها، كدين متزامن مع الديمقراطية والحداثة، ومن الواضح أن العالم الإسلامي مازال لم يعش ما عاشته المسيحية لدى الأوروبيين في دينهم.. من وجهة نظري، لكل مؤسسة إنسانية الحرية في العمل وتطبيق النصوص الدينية، على النحو الذي تريده. أثناء طفولتي، وجب على النساء تغطية رؤوسهن في حال الدخول إلى الكنيسة، لكن المؤسسة شاءت فيما بعد أن يتم إيقاف العمل بهذا الأمر، ما يشير إلى أن محتوى النصوص الدينية، ليس بالعائق بالنسبة لتوصيات و إرادة المؤسسات.
ريمي براغ- أشكر أمين معلوف على فكرته السريعة العنيدة والخاطئة، التي ترمي لاعتماد الدين في كل شيء. من الملاحظ أن مصطلح «الترجمة»، يتسم بالغموض من الناحية القانونية، إذ عند عرض النصوص القانونية، نعتمد على المشرع أكثر من النص بذاته. وكمثال على ما سبق، يمكن أن يكون قانون يمنع على الأجنبي تسلق الجدران في بلد المشرع، لكنه سيتسلق الجدار يوما ما في حالة الدفاع عن البلد من العدو، وهو ما يحيل إلى اختلاف فهمنا وتطبيقنا للنصوص. ففي حالة تطبيق القانون بحذافيره، ستتم معاقبة نفس الشخص على فعلته لكونه «جاسوسا» مثلا، أما في حالة تجاوز النص التشريعي، فلن تتم معاقبته لأنه سيعتبر بطلا في أعين الناس، أو شهيدا في نظر المؤسسة الدينية.
وفي حالة ما تم نشر القوانين على أنها من طرف «الإله» لا من غيره، فسيصبح من الصعب تفادي ما يترتب عنها من أوامر، وهو ما يشبه «نمط الحجاب» الذي تحدث عنه أمين معلوف. والمفارقة، أن القديس بول، كان يعتقد بأن النساء اللواتي لا تغطين رؤوسهن، عند الدخول إلى الكنيسة هن مومسات لا أكثر. ولكن الأمر يختلف بالنسبة للإسلام، لكون القرآن كلام الخالق وتشريعه، ما يفرض على المسلم الرجوع إليه على خلاف المسيحية. إن المسلمين لا يعتمدون الحرية المطلقة في فهم النصوص الدينية، وإلا لواجهوا في كل مرة دعوات السلفيين والإخوة، للتقليل من شأن «كلمات الخالق». خلاصة القول، إن الإسلام يعتمد في الأساس، على التفسير الصحيح لمعاني وكلمات وحتى نصوص القرآن، ولا يعتمد نية «الخالق» من النص نفسه.
أمين معلوف- إن الحقائق التي يناقشها زميلي ريمي براغ، مشكوك فيها أو معترض عليها بشكل صعب، إذ لاشيء يؤكد على استمراريتها على هذا النحو، بالرغم من اعتقادنا بقداسة الكلمات القادمة من طرف «الإله»، كما نؤمن بأن هذه الكلمات لها عدة معانٍ يمكن الاحتكام إليها، ومنها ما يتصدر قائمة أولوياتنا. فبالنسبة للإسلام، لكل من الطوائف التابعة له نظرتها الخاصة تُجاه كلمات «الإله»، وهو ما يؤدي بهذه الطوائف لاختلاف ملحوظ في تأويلها للنصوص القرآنية. ويلاحظ اليوم، هيمنة الإيديولوجية المعتمدة على الفهم السطحي للنصوص القرآنية، لكننا نطمح لتغير هذا النمط من الفهم في المستقبل.
– أمين معلوف- في حوار مع ألان فينكيلكروت، صرح ميشيل هوليبك في إحدى صفحاتنا :»في نهاية المطاف، إن من يؤمنون بالحياة الأبدية هم من يعيشون»، ولكن في كتاب «لو لامبو»-»الغطاء» لمؤلفه فيليب لانسون، يذكر ميشيل هوليبك كلمات القديس متى : «إن الأشداء هم من يفوزون»، بماذا تلهمك كلتا الجملتين؟
– أكاد أجزم أن الجميع سيخسرون في النهاية. في حالة ما طرأ عُطل في الطائرة، أثناء تحليقها في السماء، فإن جميع ركابها سواء من المؤمنين وغير المؤمنين، من الأشداء وغير الأشداء، سيشعرون بدنو أجلهم أثناء سقوطها، وذلك على اختلاف مذاهبهم. لن يفوز أحد ما ما لم نواجه مشاكل الاحتباس الحراري، وكذلك الأمر في حالة ما شنت الدول حروبا نووية فيما بينها. لهذا السبب، يجب اللجوء و الرجوع للوعي البشري، كضرورة قصوى بغرض الانتقال للمرحلة المقبلة.
ريمي براغ – نحن جميعا نركب نفس السفينة، إذ أن الفلسفة المعاصرة قد خرجت من «فكر هوبز»، الذي يدعو للتخلي عن الأهداف السامية، بغرض تفادي التأسيس لمجتمع سياسي، يعيش على أساس الخوف العالمي من الموت، باعتباره العقد المجتمعي الموحد، وقبل إعادة صياغته من قبل الفيلسوف الجنيفي جون جاك روسو، إذ لا يوجد قدر أسوأ من الموت. أما بالنسبة للأشخاص المخادعين، فهنالك ما هو أفظع من الموت، أقصد «الجحيم».
عندما قرر الأخوان كواشي، أن إعدام غير المؤمنين سيمكنهما من عيش حياة أبدية، فهما قد غرزا آخر سكاكينهم في جسد الفلسفة المعاصرة.تستطيع البشرية الإيمان بالحياة الأبدية دون اللجوء إلى العنف، إذ يمكنها تفادي العنف الذي سيحرمها حتما من الحياة الأبدية السعيدة..لكن الرياح تجري بما لا تشتهيه السفن، وإن الأمور تسير عكس رؤى المجتمعات الإنسانية، ما يوصلها نحو تبني الفكر الانتحاري الذاتي.
من الملاحظ أن التغير الدارويني الانتقائي، لدى بعض من المجتمعات الإنسانية، يسير بوتيرة سريعة وخارقة للطبيعة أحيانا. و يعود بالذاكرة، ما قاله جون جاك روسو بخصوص «الإلحاد»، بالقول «إن الإلحاد لا يقتل الإنسان، لكنه يمنعه من التجسد من جديد»، فبالنسبة لبعض من يتبنون فكر الحياة الأبدية، لا حاجة للعنف من أجل الفوز.


الكاتب : ترجمة :المهدي المقدمي

  

بتاريخ : 25/03/2019