اغتيال العقل،‮ ‬اغتيال المدرسة العمومية واغتيال اليسار

‬عبد السلام المساوي

-1 ‬لمدة تفوق ثلاثة عقود استهدف اليسار في‮ ‬المغرب‮‬،‮ ‬استهدف الذين آمنوا بمغرب حداثي‮ ‬متقدم‮‬،‮ ‬آمنوا وناضلوا‮،‮ ‬فتعرضوا لإرهاب مزدوج، جسدي‮ ‬وفكري‮… ‬نعم تعرض مناضلو اليسار‮ ‬،‮ ‬تعرض الاتحاديون بالدرجة الأولى‮‬،‮ ‬تعرض كل الديموقراطيين‮‬،‮ ‬لأبشع أنواع العنف الجسدي‮ (‬قتل‮‬،‮ ‬تعذيب‮‬،‮ ‬نفي‮ ‬‮ ‬اختطاف‮ ‬،‮ ‬دفن جماعي‮ ….) ‬جربت فيهم وعليهم مختلف أشكال الإهانة والابادة‮ …‬
‮‬نسجل هذا وأكثر من هذا‮…‬ نسجل ونسجل‮‬،‮ ‬ومع ذلك نقر بأن العنف الجسدي‮ ‬دمر أولئك الذين كانوا موضوعا له‮،‮ ‬والذين عاشوا معهم هذا التدمير من الاهل والرفاق‮‬،‮ ‬من الأحباب والاصدقاء‮… ‬واذا كانت هذه مأساة الذين عذبوا وقتلوا‮…‬ فإن المأساة الثانية‮ – ‬الإرهاب الفكري‮ ‬كانت أبشع واخطر‮‬،‮ ‬لأنها مست الشعب المغربي‮ ‬كله بل الإنسانية جمعاء‮‬،‮ ‬لأنها لم تستهدف المناضلين بل استهدفت الفكر الذي‮ ‬هو ابقى‮… ‬لقد منعت وصودرت كل الصحف والمجلات ذات التوجه العلمي‮ ‬العقلاني‮‬،‮ ‬التنويري‮ ‬الحداثي‮‬،‮ ‬الاشتراكي‮ ‬الديموقراطي‮ (‬المحرر‮‬،‮ ‬الثقافة الجديدة‮ ‬،‮ ‬أقلام‮‬،‮ ‬لامليف‮‬،‮ ‬كلمة‮‬،‮ ‬البديل ‬،‮ ‬الزمن المغربي‮‬،‮ ‬الأساس‮ ‬،‮ ‬أنفاس‮ ‬،‮ ‬المشروع‮ ….) ‬
‮‬صودرت الكتب والمجلات التي‮ ‬تنمي‮ ‬العقل وتعلم التفكير‮‬،‮ ‬التي‮ ‬تزرع الوعي‮ ‬وتهزم الجهل‮‬،‮ ‬التي‮ ‬تحطم المألوف وتكسر المعتاد‮ ‬،‮ ‬التي‮ ‬تحرر من الأحكام الجاهزة والمعتقدات الفاسدة‮ ‬،‮ ‬التي‮ ‬تدمر المسلمات والمطلقات‮ …‬منعت الأوراق النقدية التي‮ ‬تعتبر الانسان موضوعها الأثير‮ ‬،‮ ‬التي‮ ‬تعتبر الانسان قيمة القيم‮ …‬
‮‬وكان‮ “‬البديل‮” ‬الذي‮ ‬بذلت جهود كبيرة وصرفت أموال طائلة لإنجاحه‮ … “‬البديل‮” ‬الذي‮ ‬سيريح من تعب السؤال والشغب، فتدفقت من هنا وهناك الشرائط والبخور واشباه الكتب‮ …” ‬كتيبات‮” ‬رخيصة وعديمة القيمة ؛ وجهت ضربة قاضية للفكر والتفكير، تتحدث عن عذاب القبور وأهوال جهنم‮…. “‬كتيبات‮” ‬أعدمت الانسان عندما دجنته بوصفات‮ ‬غريبة عن هويتنا وثقافتنا‮ ‬،‮ ‬أعدمته عندما جردته من جميع ابعاده الانسانية وجهزته لابتلاع فتاوى الجهل والظلام‮… وبقدر ما دمرت الانسان فكريا دمرته جماليا لما فرضت عليه وجها وزيا‮ ‬غريبين وحرمت الفن والابداع‮ …‬ وكانت النتيجة هي‮ ‬الفراغ‮ ‬العاطفي‮ ‬والخواء الفكري‮ … ‬وكانت النتيجة موت الانسان وميلاد الارهاب‮…‬
-2 كما تم اغتيال العقل والتفكير عندما حوصرت وحوربت الفلسفة في‮ ‬المؤسسة التعليمية بدعوى أنها تدعو إلى الكفر والالحاد، وهي‮ ‬تهمة قديمة قدم الأنظمة الاستبدادية التي‮ ‬تمقت النقد والمعارضة‮‬،‮ ‬الفكر والعلم‮‬،‮ ‬الحرية والاختيار‮‬،‮ ‬الوجود والانسان‮ …‬اغتيل العقل‮‬،‮ ‬اغتيلت‮ ‬الحرية‮‬،‮ ‬اغتيل السؤال وإعدمت كلمة‮ “‬لا‮” …‬ اغتيلت الديموقراطية‮‬،‮ ‬اغتيل اليسار فاغتيل الانسان‮ …‬
‮‬اذن‮‬،‮ ‬لاغتيال الانسان تم تكفير الفلسفة لاغتيال العقل‮… ‬تم تحريم السؤال وتجريم التفكير‮…‬ وكان احداث شعبة‮ (الدراسات الإسلامية‮) ‬بديلة لشعبة الشغب والرفض، شعبة الهدف من احداثها إفراغ‮ ‬العقول والقلوب، إحلال ثقافة الطاعة والسكون محل ثقافة النقد والتغيير‮…‬ إغراق الطالب في‮ ‬الماضي‮ ‬عوض التطلع إلى المستقبل‮ … ‬ترسيخ‮ “‬النعم‮” ‬والقطع مع‮ “‬اللا‮”… ‬وكانت النتيجة أن تاهت الجامعة لما تاه طلبتها في‮ ‬متاهات مظلمة‮…‬ وكانت النتيجة أن أصبحت الجامعة ساحة تخاض فيها معارك إخوانية بقيادة‮ “‬امراء‮” ‬العنف‮….‬
-3 في‮ ‬السبعينيات الثمانينيات مورست مختلف أشكال الإبادة على الأساتذة‮ ‬،‮ ‬الأساتذة المتنورين والديموقراطيين، قطعت أرزاقهم واعناقهم ؛ مورس عليهم العنف المادي‮ ‬والرمزي‮‬،‮ ‬جربت فيهم وعليهم مختلف أنواع التهديد والترهيب‮…‬فكانت النتيجة أن انسحب المدرسون‮ – ‬المربون‮‬،‮ ‬واستقالوا من مهامهم بحثا عن‮ “‬راحة البال‮” … ‬ونتيجة للخوف الذي‮ ‬وشم المرحلة‮‬،‮ ‬والرعب الذي‮ ‬سكن الجميع‮ ‬،‮ ‬استبطن هؤلاء الاستسلام فتخلوا عن المثل والأحلام‮‬،‮ ‬عن المبادئ والافاق‮ …‬ وتحولوا من فاعلين فعالين الى كائنات خبزية همها الوحيد الترقية والترقي‮‬،‮ ‬الانسحاب والمغادرة فالتفرغ‮ ‬للدروس الخصوصية‮….. ‬فكان‮ “‬البديل‮” ‬ظهور مدرسين جدد‮ “‬دعاة ووعاظ‮”‬،‮ ‬يضربون المقرر عرض الحائط‮‬،‮ ‬ينسحبون من مادة التخصص فيحدثون التلاميذ باحاديث ما انزل لله بها من سلطان‮‬،‮ ‬يخربون عقول التلاميذ ويدمرون وجدانهم ؛‮ ‬يحولون حصص مواد علمية الى‮ “‬وعظ وارشاد‮” ‬او حديث عن السياسة والسياسيين، وهذه خيانة عظمى في‮ ‬حق المتعلمين‮ ! ‬فهناك من المدرسين من اغتصب ويغتصب التلميذ‮ – ‬التلاميذ بأبعاده عن جوهر الإسلام ؛ اسلام السماحة والانفتاح‮‬،‮ ‬اسلام الحب والسلام‮‬،‮ ‬فيكبله بأغاليل الجهل وقيود الظلام‮ …‬
‮‬هؤلاء المدرسون الدعاة مارسوا ويمارسون الإرهاب النفسي‮ ‬على التلاميذ في‮ ‬المؤسسات التعليمية من خلال فرض زي‮ ‬معين‮ “‬زي‮ ‬غريب قيل انه إسلامي‮” ‬على التلاميذ وخصوصا التلميذات‮ ‬،‮ ‬الفصل داخل القسم بين التلميذات والتلاميذ‮ …..‬
وبسبب هؤلاء المدرسين الدعاة‮ ‬،‮ ‬اقتحمت الأفكار الظلامية المؤسسات التعليمية‮ …‬ ومن هذه الأفكار التي‮ ‬زرعها هؤلاء في‮ ‬عقول ووجدان أطفالنا‮ (‬الديموقراطية كفر واليسار الحاد‮..)‬،‮ (‬اليهود أبناء القردة والخنازير وان كراهيتهم واجب شرعي‮!) ….‬
‮ ‬-4‬‮ ‬هكذا تم اغتيال العقل وتم اغتيال اليسار‮ ….‬هذا اليسار الذي‮ ‬أقتات المحافظون الدينيون من الفراغات التي‮ ‬تركها خلفه ومن حوله‮‬،‮ ‬دون أن‮ ‬يقدروا على طرح اسئلته الجوهرية‮‬،‮ ‬ما زال مؤمنا بأن المستقبل قابل للتدارك‮‬،‮ ‬ولذلك نراه‮ ‬يسعى لاستعادة المبادرة‮‬،‮ ‬لأنه‮ ‬يعرف أن هذا قدره‮‬،‮ ‬وأن استعادة توازن ميزان القوى في‮ ‬المجتمع واجبه الذي‮ ‬لا مفر له منه‮.‬
‬منذ سنوات لم‮ ‬يعد بامكان اليسار ان‮ ‬يكون قوة انتخابية قوية‮‬،‮ ‬ليس فقط في‮ ‬انه لم‮ ‬ينجح‮ ‬يوما في‮ ‬ان‮ ‬يستقطب إليه الفلاحين والعمال والطلبة كما تقول الاغنية القديمة‮‬،‮ ‬ولا لأن الطبقة الوسطى التي‮ ‬توصف بـ‮ “‬عاهرة الطبقات‮” ‬مستعدة لأن تنقلب عليه وترافق اول عابر في‮ ‬السياسة‮‬،‮ ‬هو لم‮ ‬يعد انتخابيا لأن الزمن ككل لم‮ ‬يعد زمنه‮ ‬،‮ ‬منذ أن صار الإسلاميون والتقنوقراط و‮”‬الأعيان‮” ‬الزبائن المفضلين لكراسي‮ ‬السلط والتمثيلية‮…‬
‬ولم‮ ‬يعش اليسار‮ ‬يوما الا مسلحا بالشارع‮‬،‮ ‬حتى ان كل الذاكرة اليسارية لما تريد تمجيد ماضيها لا تقف الا عند تواريخ من قبيل‮‬1965،‮‬1981،‮‬1984‮ ‬، ‮‬1991 ‮…. ‬ولم‮ ‬يكن‮ ‬يوما ممكنا ذكر اليسار دون أن‮ ‬يكون مرفوقا بالاضرابات والاحتجاجات والتعبير عن نبض الشارع‮….‬
‬ويوم اغتيل اليسار وتخلى عن الشارع‮‬،‮ ‬استوطنته جحافل الاسلاميين والعدميين الذين لا لون سياسي‮ ‬ولا ايديولوجي‮ ‬لهم‮ …‬ الذين لا‮ ‬يهمهم المغرب ولا شباب المغرب‮ …‬
‬وهنا كل الحكاية ومكمن الداء الذي‮ ‬يسعى بعض من اليسار‮‬،‮ ‬وفي‮ ‬طليعته الاتحاد الاشتراكي‮‬،‮ ‬علاجه‮ ‬،‮ ‬وليس أمامه من خيار آخر‮ ‬غير رفع راية النجاح في‮ ‬وجه الشامتين في‮ ‬حاضره والناقمين على ماضيه‮.‬

الكاتب : ‬عبد السلام المساوي - بتاريخ : 05/04/2019

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *