تكريم الفنان إدريس كريمي بفاس

من بين اللحظات القوية في برنامج حفل اختتام الدورة الثامنة عشرة للمهرجان الوطني للفيلم التربوي، الذي احتضنته القاعة الكبرى للمركز الجهوي للتكوينات والملتقيات بفاس ليلة السبت 27 أبريل 2019، لحظة تكريم الفنان العصامي متعدد المواهب والاهتمامات إدريس كريمي المشهور بلقب «عمي ادريس»، الذي مارس على امتداد ستة عقود من الزمان العديد من المهن، جلها مرتبطة بفنون الفرجة، كالتنشيط والتشخيص والإعداد والتأليف والإخراج والتنظيم والتدريس والمحاسبة والمجازفة والإنتاج وتنفيذه… كما قام بالعديد من الجولات الفنية داخل المغرب وخارجه لتقديم فرجة فكاهية وتربوية لفائدة الأطفال.
تميزت هذه اللحظة التكريمية في البداية بعرض شريط فيديو تضمن صورا متنوعة للمحتفى به مصحوبة بموسيقى وأغنية « عمي ادريس .. صديق أنيس « التي كان جل أطفال مغرب السبعينات والثمانينات من القرن الماضي يحفظونها عن ظهر قلب من خلال تتبعهم لبرامج وسلسلات إدريس كريمي الدرامية والغنائية والفكاهية والتربوية على شاشة التلفزة المغربية ومن بينها سلسلة «عمي إدريس..». بعد ذلك نودي على عريس دورة 2019، الذي التحق بمنصة الاحتفاء تحت تصفيقات الجمهور المتنوع الفئات الذي غصت به جنبات القاعة. لم تبخل منشطة الحفل المقتدرة الشاعرة والأستاذة صباج الدبي على المحتفى به بكلماتها الجميلة والراقية، مذكرة الحاضرين من حين لآخر بمنجزاته الفنية والتربوية لفائدة الأطفال الذين عشقهم وأصبح واحدا منهم ولايزال منذ أكثر من نصف قرن من الزمان.
وبدوره لم يبخل الفنان كريمي على الحاضرين بعينة من مستملحاته وتعليقاته الساخرة وحركاته البهلوانية المضحكة، الشيء الذي أدخل بهجة وسرورا على قلوب ونفوس الكثيرين وانتشلهم بعض الوقت من هموم وانشغالات الحياة اليومية ورتابتها وإكراهاتها ودفعهم إلى المزيد من التصفيق والضحك العفوي. وأكثر من ذلك لم يترك»عمي ادريس» أحدا من الفنانين الحاضرين والمثقفين، خصوصا عزيز السالمي وراوية والسعدية أزكون ومحمد الأثير وعز العرب الكغاط وعز العرب العلوي وجمال العبابسي وفهد الكغاط وعمر بلخمار وعبد الإله الجوهري…، إلا وذكره بالاسم مستحضرا الاشتغال معه في عمل فني ومارافق ذلك الاشتغال من ذكريات ومواقف لا تخلو من مرح.
شكر كريمي كل من فكر في اختياره ليكون أحد المكرمين في هذه الدورة الجديدة للمهرجان، معتبرا أن تكريمه في إطار مهرجان تربوي بالأساس هو أفضل تكريم حظي به في حياته لحد الآن، وذلك لأن الأهداف التربوية النبيلة التي اشتغل عليها منذ عقود في برامجه وأعماله التلفزيونية والفنية عموما الموجهة للأطفال وفي مختلف السهرات والصبحيات التي نظمها ونشطها بمعية الأطفال في مختلف المدن والقرى المغربية هي نفس الأهداف تقريبا التي سعى ويسعى مهرجان فاس للفيلم التربوي إلى تحقيقها. وفي الأخير اختتمت لحظة التكريم بتسليم المكرم هدايا رمزية وشهادة تقديرية وذرع المهرجان وأخد صور تذكارية له بالمناسبة وهو محاط بزوجته وابنته هند وثلة من المنظمين والفنانين الحاضرين. ولم يفته في كلمة ختامية أن يهدي هذا التكريم إلى كل الأطفال والملحنين والتقنيين وغيرهم الذين اشتغلوا معه طيلة سنوات السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين وما بعدها.
كريمي فنان عصامي متعدد المواهب:
في كلمته في حق الفنان إدريس كريمي، المقيم بطنجة منذ ثلاثة عقود، عبر الناقد والمؤرخ السينمائي أحمد سيجلماسي عن صعوبة اختزال تجربة فنية غنية بالمنجزات عمرها ستون سنة(1958 – 2019) في بضع دقائق. إلا أنه أشار إلى أن الصعوبة لا تعني الاستحالة، مقترحا العودة بتقنية «الفلاش باك» السينمائية إلى بعض المحطات الأساسية في مسيرة«عمي ادريس» الفنية.
محطة الإنطلاقة:
انطلقت مسيرة كريمي الفنية سنة 1958 وهو يافع مع رائد برامج الأطفال بالإذاعة الوطنية الراحل إدريس العلام، المشهور بلقب»با حمدون»، وذلك من خلال تنشيطه لبعض الفقرات ومشاركته في مجموعة من السكيتشات وغيرها من المواد التي كانت تقدم آنذاك للأطفال عبر أمواج الإذاعة. ثم شارك في برنامج»بستان الأطفال»التلفزيوني مع ابا حمدون في بداية الستينيات. ومنذ ذلك الحين شكل العلام وبرامجه قدوة لكريمي الذي حاول أن يحذو حذوه في إعداد وتنشيط برامج فنية خاصة بالأطفال.
محطة مسرح الهواة:
في مطلع ستينيات القرن العشرين أيضا انفتح الشاب كريمي على فرق مسرح الهواة بدار الشباب بوشنتوف بالدارالبيضاء، مسقط رأسه سنة 1945، حيث كان عضوا في فرقة الكواكب البيضاوية تحت إشراف عبد الله أنوار، الذي تعلم منه كيفية الوقوف على الخشبة وفن الإلقاء وبعض التقنيات المسرحية الأخرى… وقد كان من بين أعضاء هذه الفرقة آنذاك عبد القادر لقطع الذي أصبح فيما بعد مخرجا سينمائيا بعد دراسته للسينما ببولونيا …
كريمي المعلم والمحاسب:
مارس كريمي مهنة التدريس كمعلم للعربية والفرنسية في موسمي 1968/1969 و1969/1970 وذلك في إطار التجنيد الإجباري، ثم عاد إلى فضاءات مسرح الهواة وفي نيته الاشتغال في المسرح الغنائي الخاص بالأطفال.
وليضمن لنفسه دخلا يمكنه من تحقيق حلمه هذا درس المحاسبة في مطلع السبعينيات وأصبح يمارسها كمهنة إلى جانب عشقه للمسرح وفنون الفرجة عموما. كما استفاد من دروس ليلية في الموسيقى (السولفيج والأكورديون) والمسرح (بالفرنسية) بكونسرفاتوار الفن الدرامي بالدارالبيضاء (شارع لالة الياقوت)، وحصل سنة 1979 على شهادة البكالوريا في الآداب العصرية…
الانفتاح على التلفزة المغربية:
لعل اندماج كريمي في عوالم الأطفال وتأثره بتجربة معلمه الرائد «ابا حمدون» عندما اشتغل معه في برامج الأطفال بالإذاعة والتلفزة المغربية واحتكاكه بالأطفال عندما كان معلما بالابتدائي هي العوامل الأساسية التي دفعته للتفكير في الاشتغال مستقبلا مع الأطفال في المسرح الغنائي التربوي.
وفي موسم 1972/1973 انطلق تعاونه مع التلفزة المغربية من خلال تنفيذه لإنتاج برامج الأطفال:»مشاكل بابا»، «الامتحان»، «قاضي الأطفال»، «السوق»، «سيارة أبي» ، «طبيب الموسيقى»، «عمي ادريس .. صديق أنيس»، «علاش بابا تقلق؟»، «رحلة عائلة»، «بنت الأستاذ»… واستمر هذا التعاون إلى حدود سنة 1989.
لقد شكلت هذه البرامج ذات الطبيعة المسرحية الغنائية والدرامية في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي نقطة ضوء في خريطة البرامج المخصصة للأطفال آنذاك، بما كانت تبثه وترسخه من قيم خلقية وإنسانية نبيلة في نفوس الأطفال عبر لوحات فنية يحضر فيها المسرح والغناء والموسيقى (الأوبيريت) والدراما والفكاهة… ويمكن اعتبار «علاش بابا تقلق؟» بمثابة أول سلسلة درامية خاصة بالطفل.
إن تعلق كريمي بمسرح الطفل وعشقه اللامحدود لما يقوم به هما اللذان دفعاه إلى تعلم تقنيات الإخراج من خلال احتكاكه بمخرجين ومنفذي إخراج وتقنيين في الصورة والصوت والكهرباء والمونطاج والماكياج والملابس وغير ذلك، بوحدتي الرباط وعين الشق، كما دفعاه أيضا إلى التعلم الذاتي من كتب السيكولوجيا والسوسيولوجيا والبيداغوجيا المرتبطة بالأطفال، الشيء الذي مكنه ابتداء من سنة 1976 من ممارسة التأليف والإخراج وإنجاز أعمال مشرفة شكلا ومضمونا رفقة فريق من الأطفال، تناول من خلالها قضايا الطفولة والمشاكل اليومية للأسرة المغربية، رغم الإمكانيات المحدودة جدا آنذاك.
لحظة توقف وتأمل:
بعد تجربة فنية ليست بالقصيرة مع التلفزيون لم تكن مردوديتها المادية مشجعة، تعب أثناءها كريمي لأن مهامه كانت كثيرة ومتعددة: تأليف نصوص، تمرين الأطفال، إشراف على الإخراج والمونطاج، تنفيذ الإنتاج.. إلخ…، فضل ممارسة عشقه الفني خارج مؤسسة التلفزيون، وذلك من خلال جولات مسرحية وفنية فكاهية بمختلف المدن والقرى المغربية وفي فضاءات مناسبة وبمقابل مادي محترم.
وقبل أن يقرر الاشتغال خارج مؤسسة التلفزة المغربية توقف ابتداء من سنة 1989 للتأمل في التجربة السابقة بغية التطوير وعدم التكرار وقد استمر هذا التوقف أربع سنوات لأسباب صحية.
معاناة أسرة فنية في كتاب:
اضطر إدريس كريمي في فترات معينة من حياته أن يشغل معه في برامجه الموجهة للأطفال أبناءه وبناته، رغما عن بعضهم أحيانا، خصوصا عندما كانوا صغارا. وقد عبر ابنه صلاح عن جانب من معاناته النفسية ومعاناة والده الإبداعية ومخلفات ذلك على باقي أفراد الأسرة أثناء الممارسة اليومية لفنون الفرجة في ظروف صعبة، وذلك من خلال كتاب بالفرنسية، بمثابة نوع من السيرة الذاتية، صدر سنة 1995 بعنوان «بهلوان رغما عنه» وبيعت منه آنذاك 10000 نسخة.
كريمي الممثل السينمائي والتلفزيوني والمسرحي:
بالإضافة إلى تجاربه السابقة في برامج الأطفال أمام وخلف كاميرا التلفزيون، انفتح إدريس كريمي على عوالم السينما ابتداء من سنة 1986 حيث اشتغل في مجموعة من الأفلام المغربية والأجنبية أمام الكاميرا كممثل أو مجازف (كاسكادور) أو خلفها في مجالات الإنتاج والمحافظة والديكور والمساعدة في الإخراج ومهام أخرى.
من المخرجين الذين شارك معهم في إنجار أفلامهم نذكر: سهيل بنبركة (الفيلم الوثائقي «يا بني» والفيلم التاريخي»فرسان المجد»)، الجيلالي فرحاتي («خيول الحظ» و»عند الفجر»)، حكيم نوري («عبروا في صمت»)، محمد العبداوي (« نزوة»)، الفرنسي كزافيي بوفوا («رجال وآلهة»)، الهولاندي يان فيليم فان إويجك («الأطلنطي»)، أسماء المدير («دوار السوليما»)، إدريس اشويكة («فاينك أليام» و»فداء»)… هذا بالإضافة إلى مشاركته بأدوار متفاوتة القيمة في أعمال تلفزيونية مغربية من بينها فيلمي»رأس الخيط» و»شهادة ميلاد» من توقيع الجيلالي فرحاتي وحلقات من سلسلة «ساعة في الجحيم» لمحمد علي المجبود وآخرين ومسلسلات «زينة»(ياسين فنان) و»دار الغزلان»(إدريس الروخ) و»وعدي (2)» (ياسين فنان) و»عين الحق»(عبد السلام الكلاعي)…
ومن آخر المسرحيات التي شارك فيها كممثل نذكر:»في المنزل في كابول»(2006) للمخرج الإسباني ماريو غاس، وقد شخص أدوارها ممثلون وممثلات إسبان ومغاربة من بينهم المهدي الوزاني ومصطفى الهواري..، و»حياة فنان»(2014) للمخرج إدريس اشويكة، وهي من بطولة إدريس كريمي ورقية بنحدو..


الكاتب : أ.س

  

بتاريخ : 08/05/2019

أخبار مرتبطة

تاريخ المغرب في حاجة ماسة إلى أعمال سينمائية وازنة بهذا الحجم وهذا المجهود لتعميم المعرفة بالهوية التاريخية للمملكة   جرت

  توفي الفنان المصري صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما حيث شيعت جنازته يوم الحمعة الماضي من مسجد الشرطة

  أصدر الفنان المغربي جمال الغيواني مؤخرا، بدعم من وزارة الشباب والثقافة والاتصال، ألبوما غنائيا بعنوان “إلى ضاق الحال” يضم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *