الصورة والتصوير في مجموعة «البلح المر» لدامي عمر

2 – التصوير باللغة الشعرية : وهي الطريقة الأكثر حضورا في متن المجموعة لدرجة لا تكاد تخلو قصة في المجموعة من تشبيه، مجاز، استعارة أو كناية حاولت فيها الكاتبة لَيَ أعناق المتناقضات والخروج عن السنن المألوفة و النهج المعروف في استعمال اللغة: فإذا كان تشبيه القطار بأفعى يبدو تشبيها عاديا فإن الصورة تغدو غرائبية عند تمثيل القطار بأفعى تبتلع فيلا تمشي على سكة مكمشة ( يهتز كثيرا يتقيأ ركابه .. يتقيأ الركاب أمعاءهم يلعنون القطار جميعهم ولا أحد يلعن السكة) 112… لتستمر هذه الغرائبية حتى في أبسط علاقة يمكن أن تجمع رجلا بامرأة لا تبادله نفس الشعور فتقدم قصة صورة تتداخل فيها المشابهة والرمزية لتصور البطل ( رجلا بسيطا تعلق قلبه بها وهي نجمة. قلب عار متعلق بنجمة يبدأ بالسقوط محاولا عبثا أن يتمسك بخيط نور رفيع، فيسقط بين فكي سمكة قرش كانت تتنفس الهواء في الظلام) ص 86 … وقد تتجاوز الصورة علاقة المشابهة إلى المجاورة لتنفتح على المجاز المرسل والكناية، فتختار القاصة جمل تكني بها عما تقصده كما في تصوير نهاية هذا الرجل المزواج الذي تخلت عنه نساؤه بعد إفلاسه و (مات وهو يضم ورقة يانصيب خاسرة ) 87، بواسطة اللغة إذن تبني المجموعة عالما غرائبيا قائما على خرق منطقية الإسناد، فجعل ل( الموجة لسان يتذوق طعم حلم…)ص 105 ويمسي الذين لا يقدرون الحب (دائما طافحين على سطح الأشياء كنخالة) ص 46… وتستحيل كثرة العشاق نقمة (عشاقك يسدون عين الشمس لذلك فشمسك دائما عمياء) 36… والأفكار العظيمة كارثة عندما (تسقط على رؤوس أصحابها حين لا يتوقعونها يصدر عنهم أنين مصدوم يشبه صراخ سنبلة في وجه منجل أو صراخ نملة تحت قبقاب خشبي) والأبطال حربائيين يتلونون مع هذا الواقع المسخ هذا الواقع المتغير فتختار الساردة إنهاء مجموعتها القصصية بقصة أقنعة وكيف استحال عليها معرفة رفيق دربها الذي (لم تعرفه أبدا مفردا) لأنه كان في كل مناسبة يظهر لها بقناع ( أقنعة لبسها لمناسبات كثيرة حمار، حمامة، ثعلب، أسد…) ص 130 فلا غرابة إذن أن تسود في مجتمع هذه صفاته قيم النفاق والانتقام لدرجة أن أحد أبطال المجموعة أقام وليمة لمسؤولين نافذين وأطعمهم شواء لحم حمار فكانت النتيجة أن أصيبوا جميعا بداء النهاق ص 29
بالصورة الفنية يتحقق المستحيل، وباللغة الشعرية أضحت الساردة تسمع أنين الجماد وتتخيل حجم أنين البحر (أستطيع أن أتخيل أنين البحر حين تموت حيتانه على الرمل الجاف وأقدر هذا الألم) ص 42 على هذا النحو سارت الصورة الشعرية تبني تفاصيل عوالم (البلح المر)…
التصوير عبر النهل من الأسطورة : بالإضافة إلى التشبيه الاستعارة والمجاز يدرك قارئ «البلح المر» مدى اعتماد المجموعة على توظيف الأسطورة، لكنها تمكنت من تخليص تلك الأساطير من الخوارق والغرائبية وربطها بالواقع لخلق مساحات أوسع، وفضاءات تعج بالتناقض داخل نص مجهري مما يدفعنا للحديث عن قصة قصيرة أسطورة وليس عن الأسطورة في ال ق ق ج…
كثيرة هي الأساطير الموظفة في (البلح المر) خدمة للصورة المأساوية التي ترسمها المجموعة، منها ما هو محلي وما هو إنساني، فمتحت من الأسطورة البابلية عندما وظفت أسطورة ( ليليث ) شيطانة العواصف التي  تُرافق الريح، تحمل المرض والموت، ونهلت من أسطورة أطلس و الكاهنة الأمازيغية (ديهيا) في قصة «ولائم الجوع»، واعترفت من الأسطورة الرومانية ولما وظفت كيوبيد الطفل الملاك بسهم الحب لتؤسطره وتحيله عجوزا في قصة ( ترنيمة كيوبيد) ( بعد سنين قرر كل منهما أن يبوح لصاحبه بما كان. فتحا فميهما فعلت همسهما ترانيم كيوبيد العجوز ينصبهما كأجمل عاشقين) ص 66 . وعلى نفس النهج حاولت المجموعة أسطرة بعض الشخصيات الإنسانية بمنحتها قوة خارقة تسمح لها بالتحول أو القيام بأعمال يعجز عنها الجن
3 – التصوير عبر النهل من القصص الإنسانية والدينية: وكما استفادت المجموعة من توظيف الأسطورة فإنها انفتحت على عدد من القصص الإنسانية إما بالإحالة عليها من خلال العناوين مثل توظيف (الطفل والبحر) في إحالة على قصة (العجوز والبحر) لإرنيست همنغواي ص 105 أو توظيف أبطال من أعمال أدبية مشهورة كشخصية لوليتا التي استوحتها من رواية للكاتب الروسي  فلاديمير نابوكوف ، أو استحضار عبارات دالة كما في قصة «عنف» إذ ابتدأت القصة بعبارة ( كلما دخل عليها ..) في إحالة لغوية واضحة لقصة مريم (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً )، بل ألفينا بعض القصص تنبني في معماريتها على اقتباس من قصة خلق الإنسان في القرآن كما في قصة (حلم) التي ورد فيها: (نطفة … فعلقة … فمضغة …فعظاما … فكسوناه حزنا ) ص 127 بالإضافة إلى الاستشهاد بشخصيات إنسانية في التاريخ والفكر المحلي الأمازيغي كقصة الملك جوبا في قصة «رأس جوبا» ص 67 ، أو شخصيات أدبية من الفكر العالمي مثل شخصية فاوست من الثقافة الألمانية…
ما يستفاد من التصوير في «البلح المر» هو أن المجموعة كانت صورة وصوتا نسائيا حاول تقديم صورة عن الواقع المعيش نيابة عن كل النساء ( قد نكون واحدة … نتمتم فتحمل همهماتنا الريح لقاحا لزهور الألم) ص 85 ، وأن رصد تفاصيل تلك الصورة لم يكن سهلا ويتطلب نفسا طويلا لم تستطع المجموعة الحفاظ على نفس النفس، فكانت بداية المجوعة بقصص طويلة والانتهاء بقصص قصيرة، وأن الصور في معظمها كانت مشحونة بشحنات سالبة، تنقل واقعا مريرا يعيش أزمة قيم حادة جعلت الإنسان يتساوى مع الحيوان وأحيانا يلعن آدميته ويتمنى لو كان حيوانا، فكان توظيف الحيوانات المحيلة على الخسة والنذالة سمة بارزة في الصور التي رسمتها القصص بل تعمدت نزع الصفات الموجبة عن قصد ، فتجاهلت وفاء الكلب لتركز على ما في الذاكرة الشعبية من معان سلبية مرتبطة بهذا الحيوان ، كما في قصة (كلب) (أيها الكلب حتى لو لعقت حذائي فلن أسامحك ظل الكلب هادئا في حضن صاحبه بينما راح هذا الأخير يصب جام غضبه على رجل يكاد يقعي) ص 102، وفي صورة أكثر تركبيا، وأعمق دلالة تستنجد قصة (لقطة) بعدد من الحيوان لتقدم مشهدا بانوراميا يكاد يختزل صورة الواقع: ( الحطاب يتكئ على جذع الشجرة ، السنجاب في أعلى الشجرة يراقب الحطاب، الأفعى التي تسكن الجحر في الأسفل تأكل أبناء السنجاب، الأوراق الصفراء في الربيع العاري لا تستر شيئا… المنشار يشحذ أنيابه) ص 107
وحتى وإن كانت بعض الصورة مسالمة ناعمة بنزعة خبرية تقريرية يفتر فيها التعبير الفني فإن اعتماد مفاجأة القارئ وسيلة لتخييب أفق انتظاره أثرى فنيتها وأدبيتها فقد بنيت قصة (شك ناسف) بناء تقليديا حيث شاب يشك في خيانة الزوجة الشابة لأبيه، ويتضايق من إخوته الصغار الذين لا يرى فيهم إلا مزاحمين له في مال أبيه ويشك في كونهم إخوته… لتأتي المفاجأة في النهاية عندما يكتشف أن والده كان عاقرا ص70. وبيد أن السارد اختار ضمير المخاطب لسرد قصة (واجهات) فقد كانت القصة وبناء الشخصية بسيطا شخص يرى نفسه في واجهة زجاجية ويعتقد أن أحدا يتقدم نحوه ( يرتطم جسده بجسدك كجذع نخلة ، تسقط لا يهتم بك أحد … تدرك فجأة أنك ارتطمت بخيالك في واجهة زجاجية لمتجر كبير ) ص.79
إن الصورة في «البلح المر» مستويات عدة فهي تارة صورة توثيقية ناقلة تصور عالما مألوفا لا يختلف أبطاله في أقوالهم مواقفهم وأفعالهم عما نعيشه في واقعنا، وتارة صورة تخييلية قائمة على غرائبية العلاقة بين الموظف في الصورة والمقصود منها، لتخلق مفاجأة مخيبة لأفق انتظار القارئ، وتارة رمزية لتغدو الق. ق. ج بكل عناصرها رمزا دالا تلتقي فيه الآلام والآمال تمتح من الماضي لتستشرف المستقبل، فتحيل الرمز من قالب جاهز متداول إلى معنى يولد مع معاناة التجربة ويفرض على المتلقي ضرورة ركوب قطار التأويل للوصول إلى بعض ما تتغياه الصورة، التي تتحول من مجرد أداة لنقل المضمون إلى غاية في حد ذاتها، لما تتضمنه من خلق وإبداع ما دامت كل عناصرها متلاحمة وليس هناك عنصر أكثر فعالية من الآخر في معمارية هذه الكبسولة الفنية التي اختزلت الصراع ونقلته من الفضاءات والأكوان إلى عمق الذات الإنسانية متجاوزة المواضيع التقليدية المرتبطة بالاستعمار والقضايا الاجتماعية المستهلكة، ومتجاهلة الأشكال الموروثة بصيغها المسكوكة لتكون عدسة عالية الجودة قادرة على التسلل عبر المسام لقياس نبضات وانفعالات الذات وتفاعلها وتفاعل الآخر معها…. وتصبح الرمزية تشكيلا وبناء للمعنى عبر استدعاء أعلام وأماكن للتعبير عن موقف ذاتي أو جماعي من خلال رموز دينية تاريخية طبيعية أدبية للتخلص من ربقة التقريرية والتعبير المباشر لتنسج أمام القارئ عالما متخيلا يحتل في الرمز مكانة وسطى بين صوت الأنا المبدعة وصوت الشخصية أو الشيء الرمز، فيغدو مختلفا عنهما وإن انطلق من الأنا هكذا تجعل الرمزية من المرأة في المجموعة شخصية نمطية يمكن أن تنسحب على أي امرأة أينما وجدت بعدما أحالتها إلى تجربة شعورية وصورة لفسيفساء في مرايا مهشمة كل قطعة فيه تنوء بما تحمله من مأساوية تلخص كل المعاني السالبة التي يمكن تصورها عن المرأة في الوطن العربي من صورة المرأة العقيم ، المفعول بها ، العانس، الهاربة، لهبيلة، ظل الرجل، المرأة التي لا قلب لها تعيش في واقع يختزل كل الأمراض العقد المرتبطة بالوصولية والانتهازية والانهزامية والاستسلام والنصب والاحتيال تاريخه سلسلة من الخيبات والهزائم والنكسات… لذلك لا غرو أن يقوم هذا المجتمع على التنكر لقيمه. ومن لا يزال يحمل ذرة أنفة ما عليه سوى الهروب من هذا الواقع الموبوء إلى الصفاء حيث عالم الكتابة والإبداع فكان أبطال المجموعة في معظمهم رسامين ومخرجي مسرح وكتاب رواية أو قصة أو دراما، شعراء محبطين، يائسين لا قدرة لهم على التأثير في محيطهم أو إحداث التغيير في واقعهم، لا يملكون سوى الجلوس قانعين بفشلهم يدخنون حشيش الأفكار وأقصى ما يستطيعون فعله هو الهروب إلى الحلم وانتظار نهاياتهم المأساوية (السجن الموت والجنون) ليقف القارئ مشدوها لهذه الكتابة الزئبقية كيف استطاعت أن تختزل كل هذه التناقضات في نصوص مكثفة إلى حد الانفجار تسبح في مجراتها صور، رموز و وأساطير محلية، عربية وعالمية كل رمز فيها يستحق كتابا خاصا.


الكاتب : ذ.الكبير الداديسي

  

بتاريخ : 08/05/2019

أخبار مرتبطة

  “لا معنى لمكان دون هوية “. هكذا اختتم عبد الرحمان شكيب سيرته الروائية في رحلة امتدت عبر دروب الفضاء الضيق

  (باحثة بماستر الإعلام الجديد ، والتسويق الرقمي -جامعة ابن طفيل – القنيطرة) حدد الأستاذ عبد الإله براكسا، عميد كلية

  في إطار أنشطتها المتعلقة بضيف الشهر، تستضيف جامعة المبدعين المغاربة، الشاعر محمد بوجبيري في لقاء مفتوح حول تجربيته الشعرية،

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *