عبد الله إبراهيم، رئيس أول حكومة يسارية في المغرب : لقاء مع الكولونيل «فيتاليس»، اعتقالات و زوايا 3

عبد الله إبراهيم : تاريخ الفرص الضائعة
دخل المعترك السياسي من جهة اليسار، وخرج منه من الجهة نفسها؛ عبد الله ابراهيم، رئيس أول حكومة يسارية في المغرب، المسؤول السياسي النظيف الذي أخلص لمواقفه، والمثقف الذي جالس كبار مثقفي العالم، وساهم من موقعه كأحد رجال الحركة الوطنية في تدبير الشأن العام.
قليل من المغاربة اليوم، من يعرف هذا الرجل السياسي المحنك، الذي رحل عنا في شتنبر 2005، وقليلون يعرفون أنه كان يقود أول تجربة للأمل، وأول حكومة كانت منشغلة، حقا وصدقا، بدسترة ودمقرطة وتحديث الدولة المغربية، لكن إسقاط الحكومة على ذلك النحو المخطط له من قبل «الطابور الخامس» أجهض أمل المغاربة.
وقد ظل عبد الله ابراهيم أيقونة قيادية ذات سلطة أخلاقية وضمير سياسي واضح، غير منغمس في المساومات والدسائس وترتيبات الظل.
وقد جنحت زكية داوود، عبر مؤلفها الحديث « عبد الله إبراهيم: تاريخ الفرص الضائعة»، نحو استعراض السيرة الذاتية لواحد من إيقونات النضال السياسي بالمغرب، شخصية اجتمعت فيها صفات الثقافة الذكاء والحنكة السياسية، عبر تجميع مجموعة من أبرز الصور والبورتريهات، فضلا عن شهادات لأشخاص عاصروا عبد الله ابراهيم وتاريخه السياسي.

 
استعد عبد الله ابراهيم، لمواجهة القوات الاستعمارية، من خلال وحدات سرية للمقاومة، متمركزة بمراكش التي عرفت تضاعفا في عدد المواجهات، سواء ضد الحماية الفرنسية او ضد الباشا الكلاوي، إذ اعتقله الكولونيل «فيتاليس»، في تشرين الثاني/نونبر 1936 بأحد مكاتبه بساحة «جامع الفناء»، قبل ان يوضع بسجن المدينة وهو في سن 17 سنة، حيث واجهه الكولونيل بالقول : «ستذهب وحيدا نحو السجن يا بني، لان الشعب لا يطالب إلا بالمأكل و المشرب، ولا يهتم البتة بمن يحكمه، لكونه شعبا بدائيا وخاضعا. لا احد يا بني سيهتم بك و بأفكارك، ولأن «الليوطي» قد حذركم من عقبات الحراك».
قبل ان يتم اعتقاله وهو في سن 17 ، قام عبد الله ابراهيم بنشر سلسلة من المقالات، تحدثت «الحركة الصوفية بالمغرب»، كرد فعل على الحركة التي قادها القوميون، قبيل سنة من حدث اعتقاله، والمطالبة برفع الحظر على مواسم «عيساوة» و «الحمادشة»، التي وصفت ب»الديونيسيانية» والمرتبطة ب»الثقافة الصوفية» المتأصلة في المغرب، ومؤكدا على أهمية المرابطين أمثال «حكم ابن مرجان»، الذي ظلم من قبل علماء مراكش، او الغزالي الذي وصف بالإلحاد، و ليخلفهم الموحدون الأقرب لقلب عبد الله.
ويتابع عبد الله ابراهيم القول في هذا الصدد : « سعى المغرب ل»إعادة الإحياء»، مستعينا بالمعرفة و الثقافة الأندلسيتين، والتي تشبع بها لقربه منها جغرافيا و إنسانيا، بالرغم من المحاولات الاحتكارية لقادة السلطة، التي لم تتمكن من اضعاف «إعادة الإحياء»، بالرغم من تدخل الموحدين أيضا. أما في عصر المرينيين، فانتشرت قيمة الإخلاص على التوازي مع الإيذائية و الجحود، بالرغم من تضاعف عدد الباحثين عن «الارتقاء بالروح»…لكن عوضا عن ذلك، فقد بحثوا عن التحليل و التحريم في الدين، ما أدى لتفاقم الجهل وتراجع المعرفة».
انتقل عبد الله، فيما بعد للحديث عن أقطاب الصوفية، أمثال «الجازولي» الذين استفادوا من احترام الشعب لهم، ومتحدثا عن السعديين وتكوينهم للسياسة من الصوفية، التي ساهمت في تحول اغلب قادة الصوفية الى أعمدة للعرش السعدي، خاصة مع فترة القتالات ضد الأيبيريين. في حين ان بعض الملوك السعديين، ساهموا في القضاء على الزوايا و نفي القادة الصوفيين، والرفع من الضرائب، وكذا التبعية للأتراك، ما نتج عنه نبذهم من طرف الشعب، في حين ان السعديين أتسموا بالحيادية، التي ساهمت في إعادة «إحياء الصوفية».
يقر عبد الله ابراهيم، ان المغرب تحول لمرتع للفوضى برئاسة المرشدين والمستحوذين، وذلك لانتشار الزوايا حول المغرب مضمنة للتواجد الصوفي ضمن مناحي الحياة، إذ يذكر لقائه بأحد المتصوفيين الذي قال له : «لقد أفسدنا الدين من النقطة التي تمنينا أن يصلحنا منها، إذ أصبح المغاربة لا يتقون كليا في المتصوفيين، ودائما ما ينظرون إليهم بأعين حذرة». انتقلت «عدوى الحذر» من الزوايا إلى عبد الله، خاصة تلك المتموقعة بمدينة مراكش التي درس ونال بها لقب «مولاي»، الذي يستعين به بين الحين و الأخر.
في شهر كانون الأول/ ديسمبر، تم إطلاق سراح عبد الله ابراهيم رفقة بقية القوميين المعتقلين، فقد ساهم التواجد بالسجن في تقوية الروابط الوطنية بينهم، بالرغم من تأصلهم من مدن مغربية أخرى. اتسمت تحركات عبد الله ابراهيم، بالحذر في مواجهة سلطات الحماية، في حين الذي التقى فيه «إيمانويلي» مع «علال الفاسي» و «بالحسن الوزاني»، ليوافيهم بمعلومات تخص بعض الجرائد المتعاونة مع الحماية، ولتحذيرهم من الأخبار التي قد توثر على العموم من المغاربة.
شهد تاريخ 18 من مارس، زيارة الجنرال «نوجيس» لولماس بالقرويين، داعيا قادة الحركة الوطنية لزيارة «قصر البطحة» بفاس، بحضور القائد العسكري للجهة، وطالبا منهم ان يحلوا «الحركة الوطنية» بملء إرادتهم دون الاستعانة بالعنف، وصفا عبد الله ابراهيم هذه الطريقة «كمن يريد تفاحة من شجرة و يستعين بقاذفة صواريخ لإسقاطها». سعت «الكتلة الوطنية» في 6 من ابريل 1937، للتوجه نحو الإقامة العامة من اجل الحوار، و دعت عبر جريدة «الأطلس» الى حركة تصحيحية جديدة. فبحسب عبد الله ابراهيم، تحولت الكتلة بالرغم من عدم أهليتها للحوار، إلى مواجهة المقيم الفرنسي وتقديم نفسها على انها أشبه بالحركات الأوروبية، بالرغم من عدم توجه الحركة نحو «العنف الثوري» ضد المستعمر.
على إثر التحركات التي استعان بها المستعمر، بغية فرض تواجده بالمغرب، منها عمليات الاعتقال التي شملت «علال الفاسي» و «بالحسن الوزاني»، التي قابلها المغاربة بتأسيس جريدة «Maghreb» من طرف الوزاني. إذ شهد تاريخ 23 من تموز/ يوليوز من نفس السنة، تأسيس حزبين جديدين وهما «الحزب الوطني» المعروف حاليا ب»حزب الاستقلال»، و «حركة الشعب» لحسن الوزاني، منهما اقسم المنخرطون على مقاومة الاستعمار الى آخر رمق.
خلال الأشهر الأولى من سنة 1937، نظم الفلاحون مجموعة من الاحتجاجات، طافت عدة إحياء وأزقة بالمدينة الحمراء، مطالبين بالحد من القرارات الاقتصادية المجحفة للسلطات الفرنسية، مدعومين من طرف الصناع التقليديين بمراكش، المحتجين على السياسة المائية والزراعية الاستعمارية، منها الاحتجاج حول تحويل مياه وادي «بو-فكران» بمكناس، لتستفيد منه حصرا الإقامات العسكرية. في ظل التصاعد في الإحتجاجات، في مدن اخرى كفاس و القنيطرة و الرباط و سلا، توجه وزير الدولة لدى الأشغال العمومية «رومانديي»، الى المغرب بتاريخ 24 أيلول/سبتمبر 1937، للتحري عن الوضعية.
عرفت الأسابيع التي تلت موجة الاحتجاجات، صدور أوامر بالاعتقال قاربت 444 أمرا، منها نفي «علال الفاسي» نحو الغابون لتسع سنوات و لغاية 1946، في حين أرسل «حسن الوزاني» الى الصحراء، قضى بها تسع سنوات كذلك. في 1938 نشر عبد الله ابراهيم، وثيقة تحمل عنوان «الاستقلال في الثقافة، فعل لا يقبل القسمة»، التي أثرت في أبوبكر القادري الذي أعاد نشرها في 2006، ضمن احد مقالاته التي كرم فيها عبد الله ابراهيم.

…(يتبع)

 

 


الكاتب : ترجمة : المهدي المقدمي

  

بتاريخ : 09/05/2019

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *