درامية النص الشعري المعاصر

 
ـ 1 ـ
إن قراءتنا المتجددة الساعية إلى التقييم المتأني الموضوعيّ، جعلتنا لا نجافي الحقيقة حين نذهب بثقة ويقين إلى القول بأن أهم وأبرز عناصر التجديد التي مسّت القصيدة العربية قد تحققت على أيدي جماعة متميزة من المبدعين الأصلاء من المنتمين إلى شعراء جيل الرواد وجيل الستينات ، أولئك الذين قدموا عن جدارة واقتدار عديداً من نماذج فذة بالغة القيمة، هي الأبهى والأنضج لما يزهو به شعرنا العربي المعاصر.
فمن خلال امتلاك هؤلاء الشعراء لإمكانات موهبية وعقلية وثقافية ولغوية عالية وغيرها من المؤهلات ، استطاع كل واحد منهم أن يكون له دوره المرموق في حفر مسار شاق للتجديد والتجريب الرفيعين المتسمين بالتعدد الغني في التقنيات الفنية والتشكيلية والجمالية، والمُجسِّدين للضرورتين الموضوعية والذاتية معاً وذلك لاعتقادهم بوجود المبررات الكافية لإيجاد أشكال وصيغ فنية جديدة قادرة ومؤهلة لاستيعاب الواقع الإنساني الجديد، أو بعبارة أكثر دقة للمساهمة الإيجابية ، على المستوى الإبداعي ، في حركية اللحظة الحاضرة المتسمة بالنمو والاستمرارية .
من هنا جاء انتماء قصائدهم الشعرية لتلك الحداثة الإبداعية الحقيقية والمُؤثرة والقادرة على أن لا تذهب جفاء، هي التي استوعبت مستجدات عصرها وعبّرت عنه مثلما استوعبت كامل الأفق الشعري وخاصة منه ما له صلة بكتابة الشعر على أسس جديدة.
في ضوء هذا الإنجاز الذي تَمَّ تحقيقه على هذه الصيغة ، نرى من الضروري العودة، ولو بإيجاز ، إلى أحد الصناع الأساسيين لهذه الحداثة المتوازنة ، وصاحب الدور الجوهري في تلك الانعطافة النوعية الحاسمة في مسيرة الشعر العربي، إنه السياب الذي استطاع تحقيق ثورة في معمار القصيدة العربية المعاصرة. فهو الشاعر المالك لناصية لغته الشعرية، وهو المتمكن من ثقافة زاوجت بين التراث الشعري العربي والتجديد الشعري العالمي. دلّت دواوينه الشعرية على كل ذلك،مما جعلها تقتحم باب المعاصرة بأسهل الطرق وأقوم الأساليب. بدا كلّ ذلك في انتقاله من الغنائية الصرف إلى الدرامية بشكل لم يكن ليلغي أو يفضل واحدة منهما على الأخرى، بل ليجعل اندماجهما طريقة جديدة لكتابة نص شعري معاصر .
إن هذا الاندماج أسعف الشاعر في التعبير عن مشكلات الواقع الخاضع ـ جدلياً للتناقض الذي هو أساس ما تجري به وعليه حياة اليوم. هذه الحياة التي تنعكس على « أناهُ» الذاتية المتعددة النزعات والانفعالات . « أناه» الموزعة على شخوص وأصوات وضمائر تقوم على التحاور والتصارع والتوتر. بهذا نقل الانفعال من الذات المفردة إلى الذات الجمع، وأعطى للتأثير الفردي نكهة التأثر الجماعي . كان هذا الانقلاب سبيلا دفع الشاعر إلى رؤية تجربته الذاتية منعكسة على صفحة مرآة مجتمعه، وكان هذا سبباً في استفادة شعره من العناصر الدرامية، ذلك أن الدرامية ، كما نراها، لا تُلغي الغنائية بل تثريها وتغذيها بالكثير من الطاقات البنائية الجديدة فتمنحها أشكالا متجددة، الشيء الذي يجعلنا نصف القصيدة المستخدمة لبعض الأساليب الدرامية بـ « الغنائية الدرامية « .
لقد سعى السياب بدأب للبحث عن بُنى وتقنيات تعبيرية تكون قادرة على تجسيد تعقد التجربة الحياتية وتعدد أبعادها. فنوع في استخدام العناصر الدرامية، مما أسهم في تطور حركة العديد من قصائده بنزوعها نحو الأشكال الفنية المركبة.
وسنكتفي ، في هذا الحيز، بإعطاء بعض الأمثلة فقط عن مظاهر الدرامية في منجزه الشعري التي بدت فيه على الشكل الآتي :
1 ـ كان أسبق شعراء جيله استخداما للحوار الدرامي الذي اتخذ عنده شكلين أساسيين هما : ( المونولوج ) و(الديالوج) . في ( المونولوج ) تعبِّر الشخصية عن بعض أفكارها الداخلية العميقة ودوافعها، إنه حوار بين النفس وذاتها في عملية استبطان لها واستكناه لمشاعرها . ويمكن لمونولوجاته أن تُلتمس ، مثلا، في قصائده (غريب على الخليج) و( المُخبر) و( المسيح بعد الصلب) . أما توظيفه للديالوج فقد تنقل الشاعر عبره بين أكثر من أسلوب مباشر وغير مباشر. ومن أمثلة ذلك ( قالوا لأيوب) و(المومس العمياء) وكثير من قصائد مرحلة المرض والاحتضار.
2 ـ استفادته من طاقة الرمز والأسطورة، حيث عمد إلى مزج ما هو أسطوري بما هو واقعي، وهكذا صارت الأسطورة تُحوِّر الواقع وتُعدِّله وتحيل إليه، بل غدت أحياناً قناعاً للوقائع والأحداث التي عاصرها الشاعر وأراد أن يُغيِّبها وراء عباءة الأسطورة وحُجبها الكثيفة.
وفعل الشيء نفسه في الرمز الأسطوري الذي اتخذه قناعاً شخصياً يشف عن ملامحه هو ومعاناته في الواقع وحتى مراحل مرضه المزمن. وقد وضع السياب بهذا الصنيع البذرة الأولى لتطور قصيدة القناع كإحدى الوسائل الدرامية الهامة التي دخلت في تشكيل بنية القصيدة المعاصرة وشاعت من بعده عند العديد من الشعراء.
3 ـ انفتاح العديد من القصائد السيابية على فضاءات أجناسية مختلفة وهو ما نلمسه مثلا في قصائده الحكائية ( قصيدة الحكاية ) بأنماطها المختلفة، كحكاية الأحداث التاريخية (إرم ذات العماد) وحكاية الشخصيات التاريخية /الدينية (قالوا لأيوب ـ سفر أيوب ) والحكاية الأسطورية (سربروس في بابل). حيث نلاحظ عناية خاصة بتوظيف العديد من العناصر السردية (الراوي ـ الحوار ـ الحدث ـ الشخصية ـ تعدد الأصوات ـ الأبعاد الزمانية/المكانية ـ فلاش باك ـ القناع …). ومن النماذج المبكرة لهذا الانفتاح الأجناسي ما نجده في قصيدته ( نهاية ) التي أفاد فيها من الحوار بنوعيه ( الخارجي /الداخلي) ، وتوظيفه للتداعي والسرد والقطع، حيث تضافرت هذه العناصر السردية للتعبير عن موقف عاطفي خاص بالأنا الغنائي.
أما مطولاته الشعرية الثلاث التي تعد تنويعات على نغم واحد ومضامين لموضوع متكرر فالقاسم المشترك بينها هو الصراع من أجل الحياة وضد أعدائها ، صراع من أجل الوجود في الشكل الخارجي إلا أنه اجتماعي في جوهره، يعكس وعي السياب السياسي آنذاك حيث استحوذت على فكر الشاعر طيلة فترة الخمسينات « ثيمة» الإنسان المنسحق المحاط بقوى غادرة مُحبطة لنضاله.
لقد استعارت هذه المطولات البناء القصصي حيث نتلمس فيها بُعداً زمانياً ومكانياً إلى جانب الحدث، كما يتخللها الحوار المتبادل أو المونولوج الذي يعد حوراً داخلياً في نفس الشخصية، هذا إضافة إلى الوصف الخارجي الذي يتناهي في الدقة حتى ليتمثل المتلقي أحياناً جو الحدث بشكل مُجسد.
فقصيدة ( حفار القبور) جاءت زاخرة بالتوترات النفسية الحادة والمونولوجات الداخلية الثرة التي تعكس إحكام الموقف الذي خلقه الشاعر ورمز من ورائه إلى إدانة طبقة بأكملها تعيش على موت الشعوب.
أما في ( المومس العمياء) التي هي أقرب إلى البناء الملحمي، ففيها شخصية أو شخصيات مُحددة ذات أبعاد وماض وعلاقات واضحة وأسماء أيضا. كما نجد فيها نمواً درامياً مشتركاً يتم بخلق الشخصيات المتضادة لتلقي الأضواء على الفكرة الأساس التي يريد توصيلها.
إضافة إلى ما ذُكر فقد انطوت هذه المطولات الشعرية على العديد من المزايا الدرامية حيث استثمر فيها الشاعر ما أتيح له من عناصر مستمدة من أجناس أخرى (الطابع القصصي ـ الشخصيات ـ عنصر المفارقة ـ الصراع ـ الأحداث ـ الحوار ـ المونولوجات ـ حشد من الشخصيات التراثية المتعددة المصادر ـ التناص ـ تعدد الأصوات …).
لقد تمكن السياب من التفاعل الخلاق مع شتى معطيات الأجناس الأدبية فحقق لمدونته الشعرية درجة عالية من الغنى الجمالي والامتلاء الدلالي.
إن ما أحدثه السياب من فتح جليل في هذا المجال ، وما أرساه من قيم فنية ومقترحات تجديدية ، يعتبر مساهمة مؤثرة بالغة القيمة فتحت آفاقاً جديدة للشاعر العربي وللقصيدة العربية المعاصرة، ولعل أية مقارنة بين استخدامه لهذه الأساليب واستخدام غيره ممن جايلوه، أو جاءوا بعده من جيل الستينات تظهر بصماته بجلاء، وتحيلنا على الرافد السيابي ودوره الأصيل في التجديد الشعري.
لقد كان من الطبيعي أن تشهد حركة الحداثة الشعرية العربية المتوازنة ـ بعد الريادة الفنية للسياب ـ تجارب وخبرات شعرية بالغة الأهمية ، على أيدي جماعة ممتازة من شعراء الجيلين السالفي الذكر، هؤلاء الذين أسهموا إسهاماً مرموقاً في تطوير الحركة الشعرية المعاصرة ، ورسم آفاقها الشيقة الواسعة؛ دون إغفالنا الإشارة هنا إلى ما يميز، بالطبع ، كل واحد منهم عن نظرائه ، بحكم اختلاف الثقافة والرؤية والتوجه بينهم، وبحكم درجة التجريب والمغامرة في عالم القصيدة لدى كل منهم، فكان لكل واحد منهم صوته الشعري المميز وفرادته وآفاقه وأثره الخاص في تجربة الحداثة الشعرية.
ونحن إذا ما تأملنا منجزات هؤلاء الشعراء، فإن ما يلفت انتباهنا أكثر أن أنضج ما أبدعوه ومثَّل قمة تطورهم الشعري وأهَّلهم لأن يشغلوا هذه الأهمية الكبيرة في شعرنا المعاصر، هو ما طرأ على قصائدهم الشعرية من تنويع وتلوين في عناصر الأداء وأشكاله ، وما تجلى في ارتباطها الوثيق بالعديد من العناصر الدرامية، حيث عمدوا إلى إغنائها عن طريق الاستفادة من تداخل الأجناس الأدبية ، كتداخل الشعر بالرواية، بالسينما، بتعدد الأصوات وبالابتعاد الطاغي عن الذاتية ، واستعمال الحوار الداخلي الذي يصور صراع النفس وتقلباتها، واستخدام شكل الحوار المسرحي، والإفادة من عناصر الحكاية أو القصة، وتوظيف الصراع الدرامي بالاستفادة من خبرات المونتاج والتقطيع السينمائي ، إلى ذلك التنوع الإيقاعي داخل القصيدة الواحدة، والانتقال بين الأزمنة والأمكنة واستخدام الأقنعة والإحالات إلى شتى الموروثات.
إن هذه القصائد اختارت الطريق الدرامي وقادت شاعرها للسير فيه، لكن ليس أي شاعر ، إنما الشاعر الذي امتلك « المقدرة على التشكيل ، مع المقدرة على الموسيقى « كما كتب صلاح عبد الصبور، وهذا لا يتأتى إلا بعد مسيرة طويلة مبنية على الخبرة والتجريب وتلمس الطرق الوعرة للإمساك بعالم الخصوصية والإبداع العظيم.
ولعل ميل هؤلاء المبدعين المهرة إلى هذه الأشكال الفنية المركبة، يتساوق مع تعقد التجارب الذاتية والموضوعية وتشابكها وتعدد أبعادها ، وهو ما دفع الشاعر ، كما قلنا، إلى استغلاله لشتى العناصر الدرامية في بناء قصيدته/قصائده، لما يتيحه ذلك من إمكانيات التعبير الأفضل عن صراعه مع نفسه وتناقضاتها ، ومع القوى المحيطة به، وهو في كل هذا يشكل أحد أطراف الصراع.
على ضوء كل ما سبق، وإضافة إلى ما ألمحنا إليه من توظيف لبعض العناصر الدرامية عند السياب، سنسعى لرصد أهم الملامح الدرامية عند الشاعر صلاح عبد الصبور باعتباره واحداً من كبار صناع الشعرية العربية المعاصرة.فقد حقق لمنجزاته الشعرية السامقة درجة عالية من درجات النضج والاتزان ، وكرَّس بكثير من الجهد والعناء والعمق العديد من القيم الفنية، وساهم مساهمة جليلة في استحداث أشكال شعرية جديدة، وقدَّم العديد من الطروحات النظرية في الثقافة والنقد والإبداع.

ـ 2 ـ
صلاح عبد الصبور شاعر درامي بامتياز. اتخذت معظم قصائده ذات الطبيعة الغنائية منحى دراميا منذ ديوانه الأول ״ الناس في بلادي ״، حيث اعتمدت في بنائها على العديد من العناصر الدرامية، من حوار داخلي وخارجي، وأسلوب للقص أو الحكي، ومفارقة تصويرية وتوتر وصراع وتعدد للأصوات واستخدام لأكثر من إيقاع موسيقي داخل القصيدة الواحدة، وتوظيف للجدل بين القديم والمعاصر حين استدعائها لأصوات الماضي ومواجهتها بقدر الإنسان العصري ومشاكله، وغيرها من الأدوات والأساليب الدرامية التي أغنت متونه الشعرية ومنحتها آفاقا رحبة وحرية أكبر لإبراز صراعه مع الذوات المحيطة به أو صراعه مع ذاته، والتعبير عن روح عصره، كما سعت بهذه المتون إلى الوصول إلى الغنائية الفكرية، والاقتراب من أرقى مستويات التعبير وهو مستوى التعبير الدرامي.
من هنا لا أرى – عكس ما يرى بعض الباحثين – أي تناقض هنا بين الغنائية والدرامية، أو كون إحداهما تلغي الأخرى بل تؤازرها وتقويها. حيث يمكن القول بأن صلاح عبد الصبور بدأ شاعرا غنائيا ودراميا في الآن نفسه، وقد ترافقت هاتان النزعتان عبر مسيرته الشعرية، بل إن الصوت الغنائي قد ظهر جليا في مسرحياته الشعرية، من أجل هذا أجد أن الارتباط كان قويا بين قصائده وبين مسرحه الشعري. وقد شعر هو نفسه بهذا عندما تردد بين كتابة مسرحية ״ مسافر ليل ״ في صورة قصيدة أم في صورة مسرحية. ولا شك عندي أن قصيدة مثل ״حكاية المغني الحزين ״ كان يمكن أن تأتي في قالب مسرحي. وعلى هذا النحو نستطيع التأكيد أن ليس في شعر صلاح عبد الصبور قصيدة غنائية خالصة أو درامية تامة، بل إن الشاعر قد سعى إلى خلق القصيدة التي تندمج فيها الغنائية بالدرامية، بحيث يصعب الفصل والتمييز بينهما. خاصة إذا علمنا أن الغنائية عند شاعرنا لم تهرب من واقع الحياة لتتغنى بآلامها وأحزانها وتتأوه بصرخاتها الذاتية المنطوية، بل، على العكس، أصبحت – في أغلب قصائده – تحمل صوت الشاعر وموقفه من الحياة والوجود، هذا الصوت الذي يطغى على الأصوات الأخرى ويدير الحوار والصراع ويتخذ المونولوج الداخلي والتداعي والارتداد في سبيل خلق هذا الموقف، ثم إن عبد الصبور بالذات هو شاعر متأمل مفكر اتخذ من القصيدة شكلا فنيا لتجسيد هذا التأمل وتصوير الأفكار.
إن شعر صلاح عبد الصبور يكشف لنا عن اتجاهه إلى المواءمة بين تجربته بأبعادها وتشابك أطرافها واغتنائه بعناصر درامية قادرة على استيعاب أبعاد هذه التجربة وتجسيدها ونقلها إلى ذهن المتلقي، حتى أصبحت هذه الطريقة واقعا ملموسا ملازما له. حيث نجد، على سبيل المثال فقط، أن الحوار، كعنصر من عناصر الدراما، يشكل في كثير من قصائده جزءا مهما من بنائها : مثل ״ رحلة في الليل״ و ״الحزن״ و ״رسالة إلى صديقة ״ و ״ أغنية خضراء ״ و ״ مذكرات الصوفي بشر الحافي״، بل نقف على قصائد مبنية كلها على الحوار مثل : ״ الموت بينهما ״ حيث ينتظم هذا العنصر القصيدة بأكملها ليحقق لها النمو والتطور، وليبرز الشاعر من خلاله ما يعانيه الإنسان من قلق وآلام نفسية في هذه الحياة. وفيها يدور الحوار بين صوت الحق الذي يمثله ״ صوت عظيم ״ والذي يرمز إلى الجانب الإيجابي ويحمل كل معاني الخير والعطاء، وبين صوت الإنسان الذي يمثله ״ صوت واهن ״ ويرمز إلى السلب ومعاني التقصير والسقوط، والتفريط في المسؤولية تجاه خالقه .
لقد كان صوت الشاعر، في القصائد السالفة، جليا يدير الحوار وهو جزء منه. كما نلاحظ تعددا للأصوات إلى جانب صوت الشاعر في״مذكرات الملك عجيب بن الخصيب״ و ״4 أصوات ليلية للمدينة المتألمة ״.
أما الملمح الآخر الذي اعتمده الشاعر في بناء شعره الغنائي فهو أسلوب القص الدرامي ،الذي اتخذ منه وسيلة للتعبير عن أفكاره وعواطفه بطريقة موحية مؤثرة ،موظفا العديد من إمكانيات القصة سواء في قصائده القصيرة أو في قصائده الطويلة . إن استخدام الأسلوب القصصي الدرامي يقتصر على الإشارات السريعة،واللمحة الخاطفة المشحونة بالإيحاء والتأثير، وهي في هذه الحالة وسيلة تعبيرية درامية تساعد على نمو الفكرة والعاطفة وذلك من خلال النقل السريع لحركة هذه الفكرة أو العاطفة ، حيث لا يحرص الشاعر فيها على تلك التفاصيل التي يحرص عليها القصاص أو الروائي.
لقد كان شاعرنا على وعي تام بأهمية هذا الأسلوب، وذلك حين اكتفى في قصائده الدرامية، التي تستخدم أسلوب القص الدرامي ، بالجزئيات الجوهرية، ولم يتورط في التفاصيل التي لا تخدم موضوع قصيدته، ولا تحقق لها النمو والتكامل.
وقد تجلى هذا الأسلوب الدرامي في العديد من قصائد دواوينه كلها، نشير هنا فقط إلى بعضها مثل : ” أبي ” و ” شنق زهران ” و ” السلام ” و ” العائد” و ” موت فلاح ” و ” أحلام الفارس القديم ” و ” مرثية رجل تافه” و ” مرثية صديق كان يضحك كثيرا ” و ” إجمال القصة ” و ” عندما أوغل السندباد وعاد ” وهذه القصيدة هي آخر ما نشر في حياته، وظف الشاعر فيها كل الامكانيات الفنية الحديثة التي دخلت القصة من حيث المزج بين الارتداد والتداعي والمونولوج الداخلي والخروج على التسلسل الزمني للحدث القصصي والمراوحة بين الماضي والحاضر، وبروز صوت الشاعر بين آونة وأخرى متخذا دور الراوي، ومعلقا على بعض الأحداث بعد ان يوقف حركتها ، مستخدما كل طاقات البناء الدرامي ومعتمدا على الصور والموسيقى في خلق التناقض والتقابل، والحركة والنمو. لقد جاءت هذه القصيدة ملخصة تجارب الشاعر ورحلاته السابقة، ولهذا بدأ المقطع الأول محاطا بنقاط توحي بارتباط التجربة بمثيلاتها السابقة، فاتحا امام القارئ عالما واسعا من الايحاءات والرؤى :
… كل شيء تجلى له وتكشف …
أما العنصر الآخر فهو استغلال الشاعر لتقنية تعدد الاصوات ، وهو أحد العناصر الدرامية في بناء القصيدة عند شاعرنا والذي يحقق لها الموضوعية وعمق التأثير. وقد تجسدت هذه التقنية في اشكال عديدة من ابرزها تعدد الشخصيات وتعدد الاوزان والنغمات وذلك من خلال توظيف الشاعر للشخصية/ الشخصيات أداة لتجسيد تجربته ، وتوفير المعادل الموضوعي لها، حيث يتخذ من هذه الشخصيات قناعا /أقنعة يبث من خلالها ما يدور بخلده من عواطف وافكار، بعد أن يمنح هذه الشخصيات وجودا مستقلا عن ذاته بقصد تحقيق الموضوعية والدرامية لقصيدته . وهذه الشخصيات التي يستدعيها الشاعر، قد تكون شخصيات تراثية معروفة بدلالتها التي اشتهرت بها في الماضي، وقد تكون شخصيات من خلق خيال الشاعر تظل باقية في ذهن المتلقي، مما يكسب هذا الأسلوب أثرا عميقا في النفس.
وقد كانت قصائد “القناع” التي صاغ الشاعر موافقه من خلالها ،مدخلا قريبا للشاعر إلى عالم المسرح الشعري، ومن أمثلة ذلك: “مذكرات الملك عجيب بن الخصيب” و” مذكرات الصوفي بشر الحافي”. كما أن هناك شخصيات أخرى شغف بها في قصائده الغنائية ظهرت بعض ملامحها في مسرحياته الشعرية، كشخصية “القديس” في قصيدته الطويلة” أقول لكم” وشخصية الصوفي أبو نصر بشر بن الحارث في قصيدته”مذكرات الصوفي بشر الحافي” وشخصية زهران في قصيدته ” شنق زهران” وشخصية الشيخ محيي الدين في قصيدته “رسالة إلى صديقة “.
أما استخدام الشاعر لتقنية تعدد الأصوات فتجلى في عدة قصائد منها: “رحلة في الليل” حيث جسد لنا معاناة الشاعر المعاصر ، وثقل مهامه ومسؤولياته وتعقيد تجربته، وموقف المتلقي اللامبالي، مستغلا شخصية “السندباد” ليجعل منها معادلا موضوعيا، يعبر من خلالها عن مغامراته الخاصة في سبيل البحث عن الكلمة الشاعرة بين غابات الأحاسيس معانيا من أهوال التجربة، ليعود إلى “الندمان” بكنزه الثمين، وهي كلمة الشاعر. لقد تمكن الشاعر من خلال تعدد الشخصيات في هذا النص ،باعتباره صورة لتعدد الأصوات ،من إبراز معاناة المبدع المعاصر في نقل تجربته وموقفه الايجابي في الحياة، وتناقضه مع الموقف السلبي للمتلقين. لقد كانت هذه القصيدة ،بحق ،محاولة جادة لخلق تركيبة درامية، ومن ثم النهوض بالشعر إلى مستوى الفن الدرامي واحتواء عناصره في القصيدة الطويلة مستعينا بفنون القصة والمسرحية مثل تعدد الأصوات والصراع والحوار وتقسيم القصيدة إلى مجموعة من المقاطع يحمل كل منها عنوانا مستقلا.
وفي “الشمس والمرأة ” نجد قصيدة مصوغة ليؤديها صوتان أو ممثلان أو راويان. فهناك بطلتان هما الشمس الغاربة والمرأة العجوز .والقصيدة مثال على فلسفة صلاح عبد الصبور في دواوينه الأخيرة، حيث يغلب عليها التشاؤم أو الإحساس بأن قدر الا نسان محكوم عليه بالفناء والفساد والضياع ، فالشمس هنا تشيخ ولكنها تعود إلى الحياة شابة من جديد، تغتسل في ماء البحر ثم تعود شابة مرخاة الذوائب ،أما الإنسان فإنه يشيخ ولا تبقى له إلا الذكريات ثم ينطوي انطواء تاما أبديا.
أما في “مذكرات الملك عجيب بن الخصيب” فاستخدم شاعرنا عنصر الموسيقى في التعبير عن تعدد الأصوات في القصيدة ، باعتباره عنصرا هاما ورئيسيا في قصيدة التفعيلة ،حيث عمد إلى التحول من وزن إلى آخر ليوافق بين حركة الوزن وطاقة الانفعال .وبذلك سخر الشاعر هذا العنصر ليضيف بعدا جديدا لتجربته من جهة ،وليؤدي به مهمة درامية من جهة أخرى . وقد سبق أن درسنا هذه القصيدة من هذه الزاوية في فصل خاص بالشاعر في كتابنا ” حركية الإيقاع في الشعر العربي المعاصر” .
لقد أبانت متون شاعرنا صلاح عبد الصبور باعتمادها واستثمارها العناصر السالفة عن نضجها المبكر وقدراتها الفنية ، وتجديدها المعبر عن حوافز ملحة تقتضيها التجربة، كما حققت أكثر من قيمة فنية وموضوعية منها، على سبيل المثال ، اعتمادها في بناء القصيدة على أكثر من صوت، وبهذا تخلصت، في معظمها ، من الرتابة والملل وانتقلت إلى عالم شعري ضاج بالحيوية والأنغام المتعددة التي تم تركيبها بطريقة فنية تجعل منها أقرب إلى السمفونية المتعددة الألحان منها إلى اللحن المتكرر الممل. كما أنها اقتربت ،بأصواتها المتضادة غالبا، خطوات من الدراما ، بحيث تحتاج هذه الأخيرة إلى الحوار بدلا من المونولوج، احتياجها إلى رسم الشخصية الإنسانية وتصويرها بصدق وأمانة ،وليس من الإبداع الصادق الأمين أن نتصور الإنسان بلا قلق ولا تمزق ولا حيرة . وكلما اعترف المبدع بالقلق الإنساني، واعترف بتعدد الأصوات في النفس البشرية إلا واستطاع بذلك أن يقترب من الفن الأصيل الرفيع.
إن بناء القصيدة على أكثر من صوت واحد – كما تفصح عن نفسها نماذج غير قليلة من قصائد شاعرنا – يعتبر من الناحية الموضوعية درجة عليا من درجات الفهم للتجارب الإنسانية بكل تناقضاتها وتضادها وتساوقها ، وهذه الدرجة العالية من الفهم تحمي المبدع من رؤية السطوح الخارجية للتجارب والاكتفاء بها، وتحميه من التعبير المباشر عن قضاياه.
لقد شاع هذا المنحى الدرامي في متونه الشعرية القصيرة مما يشي بأن وصف القصيدة القصيرة بأنها غنائية بطبيعتها قد لا يكون حكما مطلقا،كما ساد قصائده الطويلة التي اكتسبت صفة البنية الدرامية المتكاملة.


الكاتب : د. حسن الغُرفي

  

بتاريخ : 10/05/2019