عبد الله إبراهيم، رئيس أول حكومة يسارية في المغرب 6 : بين هيغل وماركس والإسلام

عبد الله إبراهيم : تاريخ الفرص الضائعة
دخل المعترك السياسي من جهة اليسار، وخرج منه من الجهة نفسها؛ عبد الله ابراهيم، رئيس أول حكومة يسارية في المغرب، المسؤول السياسي النظيف الذي أخلص لمواقفه، والمثقف الذي جالس كبار مثقفي العالم، وساهم من موقعه كأحد رجال الحركة الوطنية في تدبير الشأن العام.
قليل من المغاربة اليوم، من يعرف هذا الرجل السياسي المحنك، الذي رحل عنا في شتنبر 2005، وقليلون يعرفون أنه كان يقود أول تجربة للأمل، وأول حكومة كانت منشغلة، حقا وصدقا، بدسترة ودمقرطة وتحديث الدولة المغربية، لكن إسقاط الحكومة على ذلك النحو المخطط له من قبل «الطابور الخامس» أجهض أمل المغاربة.
وقد ظل عبد الله ابراهيم أيقونة قيادية ذات سلطة أخلاقية وضمير سياسي واضح، غير منغمس في المساومات والدسائس وترتيبات الظل.
وقد جنحت زكية داوود، عبر مؤلفها الحديث « عبد الله إبراهيم: تاريخ الفرص الضائعة»، نحو استعراض السيرة الذاتية لواحد من إيقونات النضال السياسي بالمغرب، شخصية اجتمعت فيها صفات الثقافة الذكاء والحنكة السياسية، عبر تجميع مجموعة من أبرز الصور والبورتريهات، فضلا عن شهادات لأشخاص عاصروا عبد الله ابراهيم وتاريخه السياسي.

أطلع عبد الله أثناء إقامته بباريس، على كتابات الروائي الفرنسي «برودون»، المنتفض ضد «الدوغماتية السلطوية» والملكية، ضد «الاقتراع العمومي» و «المركزية العمومية»، ضد «عبادة الشخص والدين»، وأيضا الساعي خلف تحويل التعليم، إلى حركة تحولية راديكالية للمجتمع. يعتبر «برودون» مفكر إنساني، يدعو إلى السلام و ويكره الصراعات، كما يحب التضامن الأخوي وابتكار بنيات اجتماعية جديدة، إن دعوته الدائمة للانتفاضة، تندرج تحت جناح «الإنسانية الحية»أو «الاحتجاج الأخلاقي».
عرفت الساحة الثقافية في تلك الفترة، ظهور أسماء أغنت المجال الأدبي الفرنسي، لعل أبرزها «سارتر» و «ألبر كامي» و «مورياك» و «بابوس»، زيادة على «ليفيناس» و جنكيليفيتش» و «ارون» و «كوستلر» و «هيمينغواي»…كما تعززت بالفيض الكبير من الانتاجات المسرحية و الادبية و الثقافية و الترجمات، وهو ما يظهر الحكمة و راء اختيار عبد الله ابراهيم لهذه الظرفية، وتوجهه لباريس بالخصوص كعاصمة ثقافية بامتياز، ومنها سيتوجه في رحلة عبر أقطاب أوروبا.
خرجت فرنسا من الحرب العالمية، بخسائر كبيرة على جميع المستويات، فقد بلغ عدد الضحايا ما يربو على مئة و خمسة وثلاثين ألفا، في حين ان الاقتصاد اتسم بعدم الاستقرار، مع دمار شبه شامل للمصانع و البنيات التحتية المهمة، وتراجعت قيمة العملة الفرنسية، كما عانى الشعب من تبعات الأزمة الغذائية على الخصوص، في حين ان تصفية حسابات ما بعد الاستعمار، شهدت أوجها في تلك الفترة ، وخصوصا مع المطالب المنادية بالحرية.
نادت مجموعة من الأصوات، من أجل إعادة صياغة الدستور في 1945، في حين ان الجنرال ديغول باعتباره أيقونة نضالية، طالب بتأسيس دولة قوية وغير مستندة على الأحزاب السياسية. ساهمت الإصلاحات التي عرفها البلد، المتعلقة بتمكين المرأة من التصويت، والعمل بلجان الشركات والضمان الاجتماعي، زيادة على تأميم مصانع «رونو» و تلك العاملة في القطاعات الحيوية (الغاز،الكهرباء والماء)، في فتح ابواب باريس على الحرية و النمو الاقتصاديين، ما أذى لتكوين نوع من «النشوة الثقافية» والرغبة في الحياة، التي لمست الشق «الباريسي الأجنبي» لباريس.
عرفت جامعة «السوربون»، باحتضانها لأكثر من ألف من الطلبة الأجانب، معظمهم من البلدان المحتلة والسائرين على درب قادة المستقبل، لتنتج عنه نقاشات حامية الوطيس ما بين عدة مجتمعات طلابية، اختلفت انتماءاتها ما بين البلدان المتحصلة على الاستقلال حديثا، ونظيراتها من البلدان التي مازالت على وقع المطالبة به، لكي تنتج عن هذه النقاشات ما يمكن ان يمكن تسميته ب»سيمفونية الثقافات»، التي لطالما أسعدت الشغوف بالبحث و التعلم عبد الله ابراهيم.
ساهم المزيج الثقافي لجامعة «السوربون»، في تحفيز عبد الله ابراهيم، و توجيهه نحو «الدراسات الماركسية» التي بدأها من مراكش، مكرسا وقته في تحويل النظريات الماركسية حول «نضال الطبقة العاملة»، دامجا ما بين الفكر الإنساني و الثقافة الإسلامية، والدعوة إلى الحرية من طرف هيغل «ان الحرية تكون مادة الروح، مثل ما يكون الانجذاب سمة تكون وعي المادة…ان الحرية هي الحقيقة الوحيدة للروح». بالنسبة له فإن الثقافة هي واحدة، لا وطن لها و لا حدود حضارية محددة.
ساهمت الدراسات الفلسفية لعبد الله ابراهيم، خاصة شغفه بأفكار هيغل و آراء الماركسية، من تكوين فهم واسع للحياة السياسية، ساعده في التحرك بحرية ضمن الأحزاب السياسية المغربيةـ إذ استعان بالماركسية بغية فهم الدور السياسي للطبقة العاملة، ضامنا له مجموعة من الآليات لتوطيد علاقاته السياسية الداخلية في حزب الاستقلال، ومستندا على «فلسفة التاريخ» عند هيغل، وعلى قولته «الانحطاط هو لحظة من التفكير، والعودة إلى النفس».
خلال الأسابيع القليلة، التي قضاها عبد الله ابراهيم في فرنسا، انطلقت حملات المطالبة بالحرية بمدينة «سطيف» الجزائرية سنة 1949، مطالبة بالانعتاق و الحرية بعد الحرب، وطامحة لإيقاف تبعاث الأزمة الغذائية، وكذلك الاستفزازات الكثيرة من طرف المحتل، التي أفضت إلى ثورة ساكنة سطيف، والنواحي بتاريخ الثامن من ماي وعلى مدى ثلاثة أيام، أي إبان الاحتفال بفوز الحلفاء.
خلفت هذه الحركة الاحتجاجية، التي تم التصدي لها بقوة كبيرة، ما بين خمسة عشر إلى خمسة و أربعين ألفا من الضحايا، وهو الأمر الذي لم يدهش عبد الله وزملاؤه من المغاربة، الذين شهدوا خلال 1944 الضعف الذي عاشته فرنسا، بالرغم من خروجها فائزة من الحرب وعدم احترامها للشعوب وحقها في تقرير المصير، وهو الأمر المناقض لفرنسا الراغبة في الحرية، والتي لم تتمكن من كف الحركات الاستقلالية بعد الحرب.

(يتبع)


الكاتب : ترجمة : المهدي المقدمي

  

بتاريخ : 13/05/2019

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *