محمد عابد الجابري بين الورد والرصاص 9 : بين واجب التأويل ومقصلة التأويل عند قراء محمد عابد الجابري

نال مشروع محمد عابد الجابري حول قراءة التراث، وحول «نقد العقل العربي»، من منطلق إبستمولوجي، حظا وافرا من السجال الفكري، الذي جر إلى معمعانه قامات فكرية أمثال جورج طرابيشي وطه عبد الرحمن وحسن حنفي ومحمد أركون ومحمود أمين العالم.. وغيرهم.
وقد ساهم الجابري في إشعال الحركة الفكرية العربية والإسلامية، والدفع بها إلى إعادة قراءة التراث العربي، ومحاولة إخراج العقل العربي من «استقالته»، وذلك انطلاقا من تحصيل آلة إنتاج النهضة، أي «العقل الناهض».
وقد انبرى العديد من المفكرين لمناقشة نظرية الجابري، وشهدت الساحة الفكرية العربية سجالات حامية الوطيس، بلغت أحيانا حد التجريح والتخوين والتغليط والتزوير والنزعة العرقية. غير أن الجابري يبقى في المحصلة حتى بالنسبة لألد خصومه أحد أهم قارئي التراث والمتبحرين في درره وامتداداته. وهذا يدل على مدى فرادة مشروعه وأهميته، إذ ما زال إلى حدود الآن، يُسيل حبرا كثيرا ما بين مؤيد ومعارض، وما زال يستيقظ في الدرس الجامعي بالمساءلة والنقاش ومحاولة الاكتشاف..
في ما يلي مقالات بأقلام أساتذة وباحثين حول المشروع الفكري للجابري نقترحها عليكم خلال هذه الفسحة الرمضانية..

 

إذا كان الخطاب النقدي (الأدبي) المعاصر بالمغرب لم يبدأ في فرض صوته، وداخل الخطاب النقدي العربي المعاصر، إلا منذ منتصف السبعينيات، فإن الخطاب الفلسفي بالمغرب استطاع أن يفرض صوته في فترة باكرة تعود إلى الستينيات النازلة. بل إن تأثير هذا الخطاب، ومقارنة مع تأثير الخطاب النقدي الأدبي، كان، ولا يزال، هو الأرجح والأقوى، ومرد ذلك إلى ما يمكن نعته بـ»المنحى النقدي التركيبي»، الذي سيميز بعض الأعمال أو بالأحرى المشاريع الفكرية الأولى التي ستجعل «المشارقة» ينظرون بـ»احترام» إلى ما يحصل بهذا البلد الذي قيل لمحمد عابد الجابري، العام 1958، وعندما كان فيه طالبا بدمشق، «هل يوجد فيه ماء» (حوار المشرق والمغرب، ص29).
هذا، وإن كان هناك من لا يزال يشكك في هذا الخطاب بل ويسعى إلى «الإطاحة» به كما في حال أحد أبرز ممثليه محمد عابد الجابري (1935 ــ 2010) الذي كان الأكثر حضورا في المشرق، ودون التغافل عن عبد الله العروي (1933 ــ) الذي كان قد سبقه من ناحية التأثير من خلال كتابه المزلزل «الإيديولوجيا العربية المعاصرة» الذي اطلع عليه القارئ العربي، وضمنه المفكر العربي، من خلال «الترجمة العربية» (1970) التي سينقلب عليها العروي نفسه من خلال إقدامه، اللاحق، وبعد وفاة مترجم الكتاب، وعلى وجه التحديد العام 1995، على إعادة صياغة الكتاب. ودون التغافل أيضا عن محمد عزيز الحبابي (1922 ــ 1993) الذي كان بدوره قد لفت الانتباه إليه هناك في المشرق من خلال أبحاثه ذات الصلة بـ»الشخصانية». إجمالا مع هؤلاء، ودون التغافل عن مؤسس «النقد المزدوج» عبد الكبير الخطيبي (1938 ــ 2009)، سيتم التخلص من «الهاجس السياسي الإصلاحي» الذي ظل مهيمنا، داخل الفكر المغربي، إلى حدود الستينيات.
غير أن قراءة الجابري التحليلية، وللتراث بصفة خاصة، كانت الأكثر انتشارا وتداولا داخل الفكر العربي بتياراته وإشكالاته ونزعاته. بل إنه يمكن الزعم بأنه بعد مشروع «نقد العقل العربي»، لم يعد بالإمكان قراءة التراث كما كان يقرأ من قبل، بل ويمكن القول بأن الجابري هو الشخصية المثيرة بعد طه حسين (1889 ــ 1973) داخل الفكر العربي المعاصر أو إنه «طه حسين نهاية القرن» كما صنفه أحد أكبر «أعدائه» وهو جورج طرابيشي (مجلة «النهج»، العدد 47، صيف 1997، ص208).
هذا، وتجدر الإشارة إلى أنه ليس طرابيشي بمفرده من يماثل بين طه حسين ومحمد عابد الجابري. وكنا قد سعينا إلى «دحض» هذه «المماثلة» في مقال لنا نشر، وتحت عنوان «بين طه حسين ومحمد عابد الجابري»، في جريدة «الاتحاد الاشتراكي» (21 أبريل 1999). وفي الحق ثمة قامات فكرية كانت، ومن موقع قراءة التراث ذاتها، قد أثارت نقاشات حادة مثل أدونيس وصادق جلال العظم ونصر حامد أبو زيد… غير أن الضجة التي أثارتها كتب هؤلاء كانت تستجيب لموقف معين، وصدامي، من الدين أو كانت تستجيب لحدث سياسي معين. والمؤكد أن الاقتراب من مثل هذه المواضيع يؤهل المفكر أو الكاتب ليثير ضجة معينة أو ليثار حوله نقاش محموم بل وأن يتم تقديمه قربانا وسط حرائق الضجة.
الجابري تمكن من أن يفتح نقاشا واسعا حوله من خارج هذه الدائرة وقبل أن يقدم على الكتابة في مجال «فهم النص القرآني» التي أثارت ردودا حادة وإن خارج المغرب فقط. ثم إن حجم الكتابات، والاتهامات أيضا، حول مشروعه، المعمّد بـ»نقد العقل العربي»، لم يحظ بها، وحتى الآن، أي مشروع قرائي للتراث عدا نجيب محفوظ وفي مجال الإبداع الروائي.
لقد دشَّن الجابري، وبمفرده، «عهدا قرائيا جديدا» ينم عن إبحار عريض في «قارة التراث». ومصدر ذلك طبيعة القراءة التي اعتمدها والتي تستند إلى مستندات معرفية وإيديولوجية. هذا بالإضافة إلى طريقة «الكتابة» التي سلكها في مشروعه النقدي الكبير. فكتاباته تعانق مضمونها بشكل مباشر ولا مجال فيه للزوائد. إنه ليس، وكما قال، وقبل أن يشرع في نشر مصنفات «نقد العقل العربي»، من أنصار «الكتابة في الكتابة».
ولعل هذا ما يذكرنا بكتابة الخطيبي التي تمحي فيها الفواصل بين المقدمات والخلاصات بل تغدو الكتابة فيها جزءا من الفكر إن لم نقل هي الفكر ذاته. وربما أن الجابري، هنا، يقصد أيضا إلى العروي الذي يستند إلى منظور تحليلي قوامه التكثيف والاختزال لا التبسيط والتدرج. محمد عابد الجابري لا يتلذذ بالنقاش، وفي مقابل ذلك يسعى إلى صياغة أنساق مغلقة تنتهي إلى نتائج مغلقة تنتهي بدورها إلى نتائج محددة.
يتبع


الكاتب : يحيى بن الوليد

  

بتاريخ : 16/05/2019