ديوان « سوق راسي » لإدريس الهكار التازي : ا لتشكيل بلغة الزجل

ما يثير وفير الكلام والحديث ، لغة تصاحب اللغة، تراصفها ، وتجعل منها ظلها وفيئها المنعَّم . فاللغة العامية منذ السرمدي تصاحب الفصيح ، بل الشعر العربي الجاهلي كان عاميا ؛ قريبا من تجاويف القلب والقول . فنقائض جرير والفرزدق قيل إنهما عاميان، يتبارزان ويتنازلان بسهام الكلام الموجع ، الذي يواري سوءة القبيلة ويفضح عوراتها، بل يذلها إلى درجة الحط من القدر . فالزجل هو الكلام العامِّي الطروب، الذي يلقى في حضرة الجمهور، وغالبا ما يكون مصاحبا لنغمات مموسقة طروب. فمهما كان الحديث عن الزجل ينضاف إلى سحر الكلام ، فإنه يكون قريبا من أذن السامع ؛ نابعا من محيط قريب منه يتنفسه ويستطيبه، بل منه ما يغدو غناء شعبيّا يطرب له الجميع .إدريس الهكار التازي من الرعيل الذي أصيب بهمس الزجل ، بل بـِهوس الكلمة الشعبيَّة منذ نعومة أظافره ، في محاولاته الأولى ، وهو مازال تلميذا في الثانوية التقنية بمدينة الرباط . فديوان « سوق راسي »باكورته الزجلية ، جمع فيها تجربة زجلية دامت أربعة عقود من الزمن ؛ بدءا بقصيدة « وماديت ما جبت » إلى « عمرت قلبي بالله » ؛ أربعون قصيدة زجلية تتراوح بين التشكيل الزجلي المتميز والفانتستيك النغمي للكلمة الشعبية . تقني فلاحي بالخميسات ؛ وظيفة مكنته من أن يتبوَّأ مكانة ضمن دهاقنة هذا الضرب من الشعر الشعبي العامي في المغرب ، ليكتمل بعد ذلك عقد الزجالين بالمدينة إلى جانب المرحوم محمد الراشق صاحب ديواني « ثرياد الرُّوح « و» الزطمة على الما » وكذلك أحميدة بلبالي وآخرون …
في تجربة الهكار طعم فسيفسائي للكلام الشعبي المتجانس، وأنت تقرأ الديوان تحس أنك تـُجرُّ نحو مستنقع من الألم و الأمل، غير أن الإشراقات تفسح نوافذ بين الحين والآخر ليتشرب الكلام المنمق والمصرَّع بتناغم طروب، يقول في قصيدة « وقريت على الحب »
قريت على الحب ، وفهمت قصادو
من كناش جدودي ، وشربت مدادو
حب اله ولوطان وزيـن عـــــــبادو
حب الخير وعشقت الناس سيـــادو
المزية في التشكيل لا تكمن في اختيار المعجم وتصيده ، ولا في وسع الدَّفقة الزجلية التي تمور بداخل الزجال ، إذ المزية تكمن في التصوير والتشكيل الزجلي ، الذي ينقذف بين السطور . فالصور التي تخيط الديوان كلها نابعة من ثقافة شعبية أصيلة ، تسافر بنا في عوالم من العِبر والحكم . يقول في قصيدة « عبرت العَبرة »
عبرت العبرة … سولاتني تبكي
فين حبيبي الميزان … عليه نشكي
كان هو راس مالي … كان هو عشقي
يا اللي كانت كفوفو نحاس.
هذا التشكيل لا يبرح أيضا التجانس بين ألفاظه ، حيث يعتبر جرسا رنانا يحدث النشوة ، بل التفاعل النغمي ، الذي يفضي إلى التصدع الداخلي والتشظي بين الكلمة والمعنى . فإلقاء القصيدة الزجلية ، عند الهكار في المحافل واللقاءات ، تشكيل حسي ممتع ؛ تفاعل بلون العشق للكلام الشعبي حتى النخاع .
كما أن ديوان « سوق راسي » لا يهادن الواقع ، من منظور الكشف عن الاختلالات التي تعتور المجتمع . فهذا سبيل نحو إعادة تشكيل الرقعة بحسب الدور الذي يقوم به الفرد تجاه وطنه . يقول في قصيدة « الحَمَّام »:
غنيو معايا وردو لجواب … داني داني
ليك الله يا كسال وقتك صعاب … وأمرك كواني
البخار طلع وهربو لصحاب … وديما تعاني
عييتي ما تفرك والوسخ سراب … بكات وطاني
غلبك الصهد والصابون ما تصاب … طول زماني .
إن الكلمة في ديوان « سوق راسي » يجعل من الآخر غير مهتم و غير مبال بالكلام الزجلي الطروب ، فانطلاقا من العنوان يظهر أن الشاعر إدريس الهكار استطاع أن يتعاقد مع المتلقي لخطابه على أنه « زجل » . هذا التجنيس الإبداعي يهيئ الدخول إلى مغامرة الكلمة في تراث شعبي تـُنوسي ، بفعل عوامل تطمس البشر والحجر . فما كان للشاعر إلا أن يبعث من رماده كالطائر الخرافي ، وينفخ في الكلمة من روحه .
التعبير بالتشكيل أضْحى طقسا إبداعيا قل نظيره عند الزجالين ، بل أصبح بصمة تكشف عن هوية إدريس الهكار التازي .


الكاتب : ذ . رشيد سكري

  

بتاريخ : 20/05/2019