عبد الله إبراهيم، رئيس أول حكومة يسارية في المغرب .. 19 : الحسن الثاني يسخر من الكتلة الوطنية

دخل المعترك السياسي من جهة اليسار، وخرج منه من الجهة نفسها؛ عبد الله ابراهيم، رئيس أول حكومة يسارية في المغرب، المسؤول السياسي النظيف الذي أخلص لمواقفه، والمثقف الذي جالس كبار مثقفي العالم، وساهم من موقعه كأحد رجال الحركة الوطنية في تدبير الشأن العام.
قليل من المغاربة اليوم، من يعرف هذا الرجل السياسي المحنك، الذي رحل عنا في شتنبر 2005، وقليلون يعرفون أنه كان يقود أول تجربة للأمل، وأول حكومة كانت منشغلة، حقا وصدقا، بدسترة ودمقرطة وتحديث الدولة المغربية، لكن إسقاط الحكومة على ذلك النحو المخطط له من قبل «الطابور الخامس» أجهض أمل المغاربة.
وقد ظل عبد الله ابراهيم أيقونة قيادية ذات سلطة أخلاقية وضمير سياسي واضح، غير منغمس في المساومات والدسائس
وترتيبات الظل.
وقد جنحت زكية داوود، عبر مؤلفها الحديث « عبد الله إبراهيم: تاريخ الفرص الضائعة»، نحو استعراض السيرة الذاتية لواحد من إيقونات النضال السياسي بالمغرب، شخصية اجتمعت فيها صفات الثقافة الذكاء والحنكة السياسية، عبر تجميع مجموعة من أبرز الصور والبورتريهات، فضلا عن شهادات لأشخاص عاصروا عبد الله ابراهيم وتاريخه السياسي.

 

اتفقت أحزاب الحركة الوطنية السابقة، حزب الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية، على أن يلتحق بها حزب التحرير والاشتراكية، وذلك في سياق مساعي امتدت لأشهر للتقريب فيما بينها، لينتج عن ذلك ما يعرف بـ»الكتلة الوطنية» في يوليوز 1970. يحكي أبوبكر القادري أن عبد الرحمان القادري، المفوض من طرف عبد الرحيم بوعبيد ليزوره في منزله بسلا، بغرض الحث على لقاء يجمع حزبي الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية، من أجل مواجهة الوضعية المتراجعة للبلاد، والعمل على سياسة موحدة و شاملة.
التقى خلال هذا الاجتماع، كل من «علال الفاسي» و «أبو بكر القادري»، و»امحمد بوستة» من ممثلي حزب الاستقلال، وكل من «عبد الرحيم بوعبيد» و «محمد الحبابي» و «عبد الله ابراهيم» و «المحجوب بن صديق» عن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، في حين أن الحسن الثاني قد استهزأ من اللقاء، واصفا إياه «بلقاء ضد الطبيعة»، فيما قرر «أيت إيدر» الرحيل، ليؤسس «حركة 23 مارس»، الاولى من بين العديد من التوجهات، التي ستؤثر على مسيرة الحزب اليساري، مسفرة عما يعرف بـ «اليسار المغربي المتطرف».
تكلف علال الفاسي بالعمل على مذكرة تدعو إلى الديمقراطية السياسية الاقتصادية والاجتماعية، وإلى الانعتاق الاقتصادي وإعادة الهيكلة الفلاحية، وإلى حرية الأراضي المستغلة والتآزر مع الشعب المناضل. كتب عبد الله ابراهيم في «الاتحاد الوطني» أن هذا المذكرة تمثل دليلا ملموسا على أن «الكتلة» ستكون في مستوى تطلعات الشعب، وستحقق الأهداف المرجوة منها، وهي القادرة على إخراج البلاد، من الأزمة والتعثر اللذين تعيشهما، وهي المكتسب الوطني المرجو الحفاظ عليه وتنميته، لكن أبو بكر القادري خلال هذا اللقاء، عبر عن التيارات المتناقضة للحزبين.
سافر عبد الله ابراهيم، قبل التحاقه بالتعليم العالي بجامعة الرباط، وتخصصه في الدراسات حول العلاقات الدولية.. حيث توجه صوب العراق وتركيا واليابان.. في سنة 1970، لينكب على الاهتمام بأرضه الفلاحية بـ»بن سليمان» وعلى مزرعة ورثها بـ»أوريكة»، ذلك أنه «أحب الفلاحة لكنه لم يهتم بها كثيرا»، كما تذكر زوجته فاطمة. وبعدها سينتقل عبد الله ابراهيم إلى مدينة الدار البيضاء وتحديدا إلى الجامعة التابعة لها، لكنه سيعمل بشكل متوافق ضمن الجامعتين معا، سواء باللغة العربية او الفرنسية، ومدرس»تاريخ الفكر» و»تاريخ الدبلوماسية المغربية»، قبل أن يعمل حصرا في جامعة الدار البيضاء خلال سنواته التدريسية الأخيرة، كما يذكر تفانيه في العمل لدرجة وصف بـ»الكاهن»، وحب تلاميذه لطريقته التدريسية و الخطابية.
سعت الكتلة كتوجه سياسي إلى عدم التكاسل، خلال بداية سنة 1971، في مواجهة التغيرات السياسية على الوطنية، منها الاضطهاد العام والمخصص للصحافة، والهيجان على مستوى الجامعات والثانويات، كما أن «محاكمة مراكش» انتهت، ليحكم على 32 شخصا بأحكام غيبية و 122 شخصا بالسجن مدى الحياة.
في خضم هذه الأحداث، خطف حدث الانقلاب على «قصر الصخيرات»، المستقبل لأكثر من 1200 شخص، الحاضرين للاحتفال بعيد الميلاد 41 للحسن الثاني، لكن الملك لم يصب بأذى في الحادث، ليتم توقيف وإعادة تطهير الجيش وسط دهشة الحضور، ثم شن الملك فيما بعد حملة ضد الأحزاب والكتلة ويصدر أمرا باعتقال المناضلين، من بينهم عبد الله ابراهيم.
سعى الحسن الثاني، بعد إعدامه لعشرة قادة عسكريين، مباشرة على شاشة التلفاز، إلى الحث على المفاوضات، مع مجموعة من الشخصيات البارزة، بعد مدة من إصداره أمرا بالعفو عنها، من بينها علال الفاسي وعبد الله ابراهيم.
وحاول بوعبيد المتموقع بباريس، حشد التأييد بخصوص حكومة وطنية ومشروع دستور جديدين، مستمرا في اتصالاته ما بين غشت وديسمبر، خلال أحد هذه الاتصالات، صرح عبد الله للملك برغبة الكتلة في تمكينه من المنصبين الوزاريين للدفاع والاتصال، وشاكرا إياه على هذا الكرم بطريقة باردة، وهو أحد أسباب فشل هذه الحكومة بحسب عبد ابراهيم، تبنيها للمبدأ «التكنوقراطي» عبر رئيسها كريم العمراني، بحجة العمل على انتخابات عامة.
سخر عبد الله ابراهيم، في أحد مقالاته من الوضعية الحالية، معتبرا «المغرب فيه كأنه رجل مريض يتقلب في فراشه، مرة على الجانب الأيمن ومرة على الأيسر. إننا نمر من أزمة صعبة إلى أخرى خانقة، متبوعة بمفاوضات وبتأسيس حكومة لا شأن لها بنتائج الحكومة الحالية، ما يؤدي بالبلد للدوران في حلقة مفرغة.. لقد علمنا خلال عملنا بالاتحاد الوطني للقوات الشعبية، بضرورة مشاركة القوة الوطنية في جميع المناحي السياسية، لأجل المحافظة على الأساس الصحي والنقي، للإصلاحات المسؤولة والنافعة.. وطالما أن الوضعية مازالت على حالها، فإن الحلول الحالية مازالت صالحة للعمل بها.. أما في حال انتقال الوضع للأسوأ، بما في ذلك تدهور نمط العيش.. فسيؤكد هذا عدم جاهزية البناء الحكومي المعني».
(يتبع)


الكاتب : ترجمة : المهدي المقدمي

  

بتاريخ : 28/05/2019

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *