مسرحية «شابكة» لفرقة «الأوركيد».. تماهي الاحتفالية والبساط والعبث

في إطار مهرجان ابن امسيك للمسرح الاحترافي، الذي تنظمه سنويا فرقة «فضاء القرية للمسرح»، قدمت فرقة «الأوركيد»عرضا جديدا لمسرحيتها»شابكة» بالمركب الثقافي مولاي رشيد، في أمسية حضرها جمهور نوعي غفير.
المسرحية من إعداد و إخراج»أمين نسور»، عن نص»على باب الوزير» لـ»عبد الكريم برشيد»، و تشخيص أعضاء فرقة «الأوركيد» التي تمارس أنشطتها بدار الشباب «المغرب العربي» بـ»بني ملال».
استفادت المسرحية من دعم لوزارة الثقافة، وسبق لها أن جالت مدنا مغربية أخرى، وشاركت في فعاليات النسخة الحادية عشرة لمهرجان المسرح العربي بمصر المنظم شهر يناير الماضي، وعرفت عروضها السابقة تجاوبا إيجابيا لافتا، ومتابعة نقدية وازنة في الصحافة الثقافية والفنية المغربية، الورقية منها والإلكترونية.

العنوان: امتدادات دون حدود…

لعل أول ما يلفت الانتباه عند مباشرة أية مقاربة نقدية لهذا المنجز توالد الامتدادات التأويلية لتركيب العنوان، لغويا و دلاليا؛ بل إن العنوان، لوحده، قد يستلزم قراءة مستقلة.
و من أكثر تلك التأويلات إلحاحا، خصوصا في حال ما قبل مشاهدة «العرض/ المسرحية»، مسألة التصنيف اللغوي بين الفصحى والعامية: فالتركيب الاشتقاقي(اسم الفاعل) يسعهما معا بقدر يجعل طرح السؤال الموالي أمرا»بديهيا»: هل هذه المسرحية باللغة الفصحى أم باللسان الدارج، سيما وأن صاحب النص الأصلي («عبد الكريم برشيد»)، المثبت في ملصق المسرحية، يكتب عادة بالعربي الفصيح؟!…
ثم إنه، في نفس المستوى اللغوي الاشتقاقي، تحضر مفارقة جواز اعتماد اسم المفعول أيضا، وباللسان الدارج المغربي:»مشابكة»، وقد أتى اللفظ الأخير فعلا في أحد المشاهد على لسان رب الأسرة «عبد العالي»(«عبد الله شيشة»)، وأدت الكلمة نفس معنى شقيقتها اللدودة:»شابكة»، في سلاسة عجيبة؛ ولعل السر في المفارقة يكمن في المستوى الدلالي، ناهيك عن المعطى اللغوي والاصطلاحي.
فتوالي مشاهد المسرحية، عبر منظريها الاثنين، يشير ركحيا إلى»تشابك»مواقف وسلوكات وحالات مفارقاتية، أبطالها هم في نفس الوقت مسببوها والمتأثرون بتبعاتها، وتنصهر الأمور ليجتمع الكل داخل نفس»الشبكة» المختلطة المحتوى: وهذا تشذير ثالث للبعد الاشتقاقي لغويا ودلاليا أيضا.
والحقيقة أن اللفظ المتداول في المجتمع المغربي، حضره وبدوه، هو اسم المفعول («مشابكة») لا اسم الفاعل («شابكة»)، ولو اختار المعد/ المخرج اللفظ الأول لأجازه. لكني أرى في الأمر نية و»سبق ترصد»، قد يكونا «التفرد» بكشف الغبار عن كلمة منسية مهملة معطلة الوظيفة تداولا أو غير واردة في الأقصى؛ وقد يكون الـ»انجراف» نحو «غرابة لفظية» منشودة: فمن فرضيات اختيار اسم الفاعل المختار عنوانا للمسرحية، لدي، أن يدخل الاختيار خانة ما تمكن تسميته بـ»غريب العنوان»، كما نجد عند بعض المبدعين الشباب المعاصرين الذين يقصدون»غرابة» العنوان قصدا، وفي مقدمتهم الكاتب المسرحي»كمال الإدريسي».
ومن ردود الفعل التي سمعتها بعد العرض أن اللفط المختار متداول في بلد مغاربي أو اثنين، لا في المغرب بالتأكيد.
ومن امتدادات العنوان»الغريب» تناصه مع عناوين أعمال مسرحية معاصرة، لعل أقربها «راس الخيط» لـ»إسماعيل بو قاسم»؛ إذ التشابك غالبا ما يكون لـ»خيوط»؛ وإذا كان بو قاسم أمسك في مسرحيته، بدعم من مخرج عمله»الزيتوني بوسرحان»، برأس الخيط الذي هو»حب السلطة (/الكرسي)»، فإن أمين نسور»خلاها مشابكة»!… ولكل دوافعه الوظيفية والإبداعية والجمالية.
أما الابتعاد الواضح في اختيار»شابكة»عن عنوان النص الأصلي»على باب الوزير» فمرده أن «نسور»اشتغل على الجزء الأول فقط من النص ذي النفسين (/الجزأين).

البحث عن»عبد الكريم برشيد»:

إن نصوص «عبد الكريم برشيد» صعبة التحويل بطبيعتها، لدرجة أن منها مسرحيات تغري بالقراءة الورقية (/الإلكترونية) والاطلاع والتدبر والتأمل أكثر من التفكير في مشاهدتها على الركح، وذلك لزخم الحمولة الفلسفية/ التنظيرية فيها؛ ولا أتخيل طاقم فرقة محترفة (أو هاوية) باشر تداريبه على أحد أعماله قبل التداول المطول والسجال العسير حول الاختيارات الفنية والتقنية والجمالية (وربما: المتنية) التي سيقتنع بها الفريق في الأخير اقتناعا، لتقديمها للمتفرج المغربي والعربي على هذا النحو أو ذاك.
وإذا كانت نصوص احتفالية مركزية لـ»برشيد» قد نالت منذ عقود حظها من التحويلات الركحية (محليا وعربيا)، بعدد القراءات التأويلية لمخرجيها، فإن نصوصا أخرى من الأعمال الكاملة لـ»العراب» ونصوصا حديثة له ما زالت تنتظر من»يتكبد»معاناة إعدادها وإخراجها، وأخال بعضها استعصى بالفعل على التحويل الركحي الذي يليق به.
إلا أني أستحضر هنا المباشرة الجريئة مؤخرا لـ»عبد المجيد شكير» في»تصديه»لأحد تلك الأعمال الأشد استعصاء، والمتمثلة في نص»مقامات بهلوانية»؛ ولولا تمكن الرجل من الأدوات الجمالية (خاصة) للفعل المسرحي لما انتفى المد الخطابي في الحمولة المتنية، ولما استطاعت بالتالي فرقة»أبعاد»إيصال العمل إلى»بر الأمان».
إن من جرأة (/مغامرة) التحويل الركحي لـ»شابكة»عند «أمين نسور» أنه انتصر لـ»الفكاهة»على حساب»الرصانة الفكرية»لكن دون إلغائها، وأذكر من ذلك:
الاختيار «المبدئي»للغة العامية المغربية باعتبارها أكثر قابلية لخدمة البعد الفكاهي الساخر للعرض، عكس التزام رائد الاحتفالية بالفصيح.
تقديم الاستطرادات»السوفوكلية» و»الشكسبيرية»، على لسان الأب، كتناصات مكملة للمد التفكهي، لا كمونولوغات مستقلة مقصودة لذاتها.
«تورية» بعض راهنيات الشأن العام (/السياسي) خلف الحوار العادي المبسط كما جاء على لسان الابن»سلطان» («نبيل البوستاوي») وهو يتحدث مع والدته «صليحة» («حنان الخالدي») عن «فردة» حذاء رجله اليسرى: «اليسار مثقوب أ الوالدة!…»

عتبات وعتمات:

غير أن ما يؤاخذ على العرض بعض الإفراط في المد الفكاهي وتوخي الإضحاك، مما شكل لحظات ضعف وبياضات، وإن كانت ملعوبة؛ وهو أمر إن مر مرور الكرام على إجمالي الجمهور الحاضر، بل حصد تجاوبه الإيجابي، إلا أنه قطعا لا يستساغ من عارفين مهتمين لم تخل القاعة من طينتهم، ومن ذلك على سبيل المثال:
طول الحوار الميمي الساخر لعازفي الكمان الاثنين بين مشهدين، وإقحام الانتقال الميمي لأحد العازفين ليستبدل آلة الكمان بالأورغ.
السقطة الجماعية المتكررة في أحد المشاهد (ثلاث سقطات متتالية أو أكثر) دون وازع مقنع غير الإضحاك المباشر.
ومن العتمات المرئية هيئة شخصية «الراديو»(«عادل اضريسي») والملحقات ومجسمات الديكور ذات الصلة… ذلك أن الدور الحقيقي لـ «اضريسي» كان أكبر حجما مما أسند إليه «رسميا»، وأكثر تعددا: فقد لعب أدوارا رابطة محورية منها «الراوي» و»الحكواتي»؛ بل جسد، بفضل حنكته وتمرسه الجليين، في أكثر من موقف،»جوقة» لوحده: يعلق على الأحداث، ينتصب طرفا فيها، يخرج عن النص متى شاء و»يكسر الجدران»، ينشط الحضور ويجمع الحلقة، يغني مع المغنين ويضبط بـمقص فنون»عبيدات الرمى» المقطوعات التنشيطية الشعبية. لقد كان فعلا»أكبر من الراديو» وأكسسواره الذي «اختنق» داخله!… وحسنا فعل «أمين نسور» عندما سمح لـ»راويه» بالانعتاق في آخر المسرحية والتخلص من أكسسواره في انتفاضة وتمرد مستحبين.

إشراقات توليفية:

استوفى العرض تقريبا كل متطلبات «الاحتفال» المسرحي، بمؤازرة قوية من التصرر السينوغرافي، سيما السمعي منه.
إن توظيف ممثلين/عازفين»حقيقيين»مباشرين فوق الخشبة في شخص»عبد الكريم شبوبة»(الكمان والأورغ) و»أنس عاذري»(الكمان) واستثمار آلات إيقاعية نوعية (الطبل،»مقص الدزازة»، سطول معدنية غريبة الديزاين…)، ثم استثمار الموسيقى المعزوفة مباشرة كبينيات تملأ لحظات الانتقال من مشهد لآخر، ناهيك عن أداء صوتي مباشر أيضا لـ»مغنين في الأصل» (المطربة «هند نياغو» والابن «سلطان»/ «نبيل البوستاوي»)، هوائيا، وبالمكروفون العيني المتصل آنيا بأجهزة الإصاتة، كل ذلك أعطى للعرض نفسا قويا على مستوى التلقي الوجداني.
ومن الإضاءات «السينوغرافية/السمعية» الاختيار الموفق لربرتوار»المشاهب»، بل إن الجمهور ارتحل طوعا لاستكشاف جديد لمتن المجموعة عبر «الموال»، وذاك ما أتقن أداءه الثنائي»هند» و»نبيل» في احترافية ملحوظة.
ومن حسنات العرض السينوغرافية/المرئية استغلال الفضاء العمودي بتقسيم الديكور علويا إلى قسمين، لكنهما يتقاسمان في الكثير من المشاهد و اللقطات تقديم نفس الحدث أو الحوار، في ذات الحين و الآن؛ وذاك تشذير جمالي يحسب للسينوغراف «طارق الربح»، حيث أتاح للممثلين إمكانية اللعب في المستويين بأريحية وحماس، ووجدوا في الأمر فرصة لإبراز مؤهلات خاصة، كما عند المخضرم «عبد الله شيشة» (مشاهد القفز من أعلى والحركات البهلوانية على العارضة نموذجا).
لقد خدم التشذير الثنائي للمنظور (أسفل/أعلى) إذن مفارقة تحاور الشخوص كما لو كانوا في مستوى فضائي واحد، مسهلا التنقل بينهما بفضل الدرج المتنقل، وهذا «تشابك» آخر، سينوغرافي هذه المرة، عزز تجريبية العرض التقنية.
وانسجم التشذير، أخيرا، تمام الانسجام، مع مفارقات متنية ومشهدية ثنائية، منها ما يلي:
«عبثية» وصول أحد تلامذة الأم (المعلمة المتقاعدة)، غبي ومتعثر، مرتبة «وزير»!…
التناقض الصارخ لما اكتسبه ويكتسبه الابن من تربية والديه: فمن جهة غرس المبادئ المثلى من لدن الأم، المعلمة، حاملة القيم؛ وفي الجهة المضادة تمرد الأب، الموظف السابق الساخط على الوضع، لكن المرحب بأي فرصة انتهازية لتحسين أحواله المعيشية.
حمل الابن اسم»سلطان»، بينما هو يختزل عند والديه كل ترسبات الفشل الاجتماعي وعدم الوصول إلى مركز»سلطة» وصلها بسهولة غريمه تلميذ أمه الغبي، وبقي هو حبيس أفكاره التقدمية متقوقعا داخل مظهره «الشيغيفاري» وأسلحته الفكرية «الباردة» المهترئة التي لا تكسب معركة تذكر في حرب صراع الطبقات… ثم إن «تقدميته»، حسب ما تبين من محاوريه (والديه)، ينقصها الفعل ولا تتجاوز فاه ولسانه، تقدمية يطبعها الكسل والاتكال والارتخاء وانعدام الحماس.
وضعية اليمين واليسار الحالية («اليسار» المشار إليه سالفا) في الساحة السياسية للبلد (/المغرب) مع امتداد مفتوح على الوطن العربي، العالم الثالث عموما.

تركيب:

وعلى سبيل الختم أقول:
إن مسرحية»شابكة»، كما شاهدتها في عرض»مركب مولاي رشيد»، مزيج بين تأصيل «البساط» في مناخ «احتفالي»لا ينقصه ما يلزم من»العبث».
و»أمين نسور» مخرج مبدع وذكي، استطاع أن يقدم، عبر هذا العمل المتميز، منجزا إخراجيا قويا يثبت ذاته إلى جانب نص الانطلاق لـ»عبد الكريم برشيد»، لا أن يتستر خلفه و»يستنجد به»، كما يفعل بعض المخرجين (بين قوسين طبعا) وثلة من «المتجاسرين» على الإخراج أمام مثل هذا النوع من النصوص المرجعية، إما لكسلهم، أو لمحدودية آفاقهم التحويلية على الركح، أو لافتقارهم للعدة الأكاديمية والدربة والمغامرة، وما إلى ذلك من «توابل» الإبداع الحق.


الكاتب : الحسين فـسكـا

  

بتاريخ : 04/06/2019