بوب ديلان وجائزة نوبل: بين الاستنكار والتجاهل

لا يختلف اثنان حول وجود كيانات غير مرئية في الكون والطبيعة والإنسان، مما يجعل من المنطقي أن توجد فضاءات غير مرئية هي الأخرى لاحتضان تلك الكيانات، كونية كانت أو طبيعية أو إنسانية أو غيرها.
ومن الأدلة العلمية الملموسة على وجود تلك العوالم، عالم الأثير، الذي نقيسه، ونضبط موجاته، ونتعرف بواسطة أجهزة الدفع والاستقبال على مكوناته. ومن بين تلك المكونات، المشاهد والصور الثابتة والمتحركة التي تبثها أجهزة التلفاز والحواسيب وغيرها من الآليات الإلكترونية والرقمية، بما فيها أجهزة «الهولوغرام» للبث الرقمي، التي ترسل صورًا بثلاثة أبعاد تتميز بكونها مثيلة إلى حد التطابق مع أصولها الحية.

 

منذ الإعلان عن فوز المغني الشهير بوب ديلان بجائزة نوبل للآداب إنهمرت الأخبار على الأوراق بين مهلل ومستنكر ومعلن لوفاة الرواية وناعي لذهاب نوبل لمغني بعد أن اعتاد الناس على منحها لروائيين تركوا بصماتهم على درب الحكي.
وقف العالم كاتماً أنفاسه وهو يشهد التجاهل و”الطناش” الذي أبداه بوب ديلان لجائزة يتزاحم عليها الناس بالنواصي والأقدام إذ كاد أن يضع نفسه في منصة تاريخية أسوة بعمالقة مرغوا أنف الجائزة بالتراب غير أنه أخيراً أعلن قبوله للجائزة مع عدم تقديم وعد قاطع بحضور الإحتفال.
إسم بوب ديلان ملأ الدنيا وشغل الناس في زمن غابر غير أن جيل الألفية ربما لا يمثل بالنسبة له شيئًا بعد أن ضاعت أصوات الحركات المناهضة للرأسمالية وسط هدير العولمة والنموذج الأمريكي. فمن هو هذا ال”بوب ديلان”؟
الاسم الحقيقي لبوب ديلان هو “روبرت آلان زيمرمان” ولد عام 1941 بولاية مينيسوتا لأبوين مهاجرين من أوكرانيا،عزف على الجيتار منذ طفولته كما أجاد العزف على الهارمونيكا والبيانو. إلتحق بجامعة مينيسوتا ثم تركها بعد عام واحد بعد أن ضاق صدره بالأجواء الأكاديمية ليحمل قيثارته وحقيبة ملابس صغيرة مرتحلًا لنيويورك مبتدراً رحلة المجد.
تأثر كثيرًا في قراءاته بشخصين: الروائي “جون شتاينبك” صاحب الرواية الضخمة “عناقيد الغضب” والذي ترك في نفسه بصمة الثورة و الإنحياز للمقهورين والمستضعفين أما الثاني فكان شاعر إيرلندا الأيقونة “ديلان توماس” الذي أخذ عنه اسمه الجديد ليتحول “روبرت زيمرمان” إلى “بوب ديلان”.
بوب ديلان فنان شامل بالمعنى الحرفي لكلمة الشمول: عازف- مغني- رسام- شاعر- ملحن- ممثل. شق طريقه في الستينات وما أدراك ما الستينات في أمريكا حيث حركة الحقوق المدنية ومناهضة التفرقة العنصرية وحرب فيتنام ليصرخ بوجه الوحش الرأسمالي مصدرًا ألبومه الأول وأغنيته المدوية“Blowing in the wind” ثم توالت الأغاني والألبومات بما لا تسمح هذه المساحة بتعداده. إنتاج كثيف استمر لخمسين عاماً أشتهر فيها دومًا بأغاني محرضة على الثورة كما عرف عنه حب الالتحام بالناس فكان يجوب الولايات الأمريكية في جولات غنائية (tours) حتى قيل أنه لا محالة هالك في إحدى هذه الجولات.
عرف بغنائه مع “جوان باييز” حيث جمع بين قلبيهما الحب والثورة كما غنت له “Blowing in the wind” بصوت آسر وشجي. اشتهرا سويًا بالمشاركة الفاعلة والغناء في مسيرة واشنطن“March on Washington for jobs and freedom” في أغسطس عام 1963 وهي أكبر مسيرة للحقوق المدنية في تاريخ العالم حيث ألقى فيها مارتن لوثر كينق خطبته الأشهر“I have a dream”كما غنى لاحقاً“Oxford Town” على شرف جيمس ميرديث أول طالب أسود يلتحق بجامعة الميسيسبي.
ناهزت جملة مبيعات أسطواناته ال 100 مليون ليدخل بحق لنادي العظماء. قبل أن تغرق في “شبر دهشة” عزيزي القارئ لهذا الرقم الضخم أحب أن أنوه إلى أننا نتحدث عن مستوى آخر من المبيعات. فهذا الرقم يقف متواضعًا مع أرقام حققها آخرون: “مايكل جاكسون حقق 300 مليون أسطوانة بينما فاق “البيتلز” و”ألفيس بريسلي” ال 500 مليون.
لم يقتصر نشاط بوب ديلان على الغناء فقد عرف كشاعر صاحب أسلوب متميز. قالت سارة دانيوس الأمين العام الدائم لأكاديمية نوبل في مؤتمر صحفي، إن ديلان “خلق تعبيرات شعرية جديدة ضمن التراث الغنائي الأميركي العظيم”. وجاء في حيثيات الجائزة أن ألبوماته “تتمحور حول مواضيع مثل الظروف الاجتماعية للإنسان، والدين، والسياسة والحب”. وأضافت اللجنة، في محاولة لدرء الانتقادات الموجهة لحقيقة أن ديلان يُرى بشكلٍ كبير كموسيقي أكثر منه مؤلفاً، إن الكلمات “تم نشرها بشكلٍ مستمر في إصدارات جديدة”، وإنه “بجانب إنتاجه الواسع للألبومات، فقد نشر ديلان أعمالاً تجريبية مثل تارانتولا في عام 1971 ومجموعة الكتابات والرسوم في عام 1973 بالإضافة إلى “السيرة الذاتية بعنوان مذكرات في عام 2004 والذي يُصور ذكريات من حياته المبكرة في نيويورك ويعرض لمحات من حياته في مركز الثقافة الشعبية.. وأن ديلان “كفنان”، يُعتبر متنوعاً بشكلٍ مذهل: فقد كان نشطاً كرسامٍ، وممثل وكاتب سيناريو. ديلان في مرتبة الرمز. تأثيره على الموسيقى المعاصرة نافذ”.
نشر ديلان 6 كتب حوت أعمالًا تشكيلية له كما أقام عددًا من المعارض وقد عرض ال Halcyon Gallery بلندن 7 هياكل لبوابات حديدية قام ديلان بتصميمها.
سيرة بوب ديلان الذاتية متخمة بالجوائز فقد حاز على 11 جائزة قرامي ، فضلاً عن جائزة غولدن غلوب وجائزة أوسكار عام 2001 عن أفضل أغنية من خلال أغنيته :Things have changed” التي غناها في فيلم ““Wonder boys . كما تقلد وسام الحرية من الرئيس أوباما.
من أطرف الحقائق والأرقام التي إرتبطت بالمغني العملاق أن سجلات القضاء الأمريكي قد إحتوت على 186 إقتباسًا من أشعاره في ثنايا وثائق الأحكام وهذا يدل على حجم الحكمة والعمق الكامن في أغانيه.
لم يتوقف عطاء بوب ديلان برغم تقدمه في السن فقد أصدر مجموعة أغاني لفرانك سناترا في عام 2015 بعنوان “Shadows in the nigh”كما ظهر في حملة تسويقية لشركة IBM من خلال إصدارها لجهاز “واتسون” حيث ذكرت الدعائية المصاحبة أن “واتسون” قادر على قراءة أشعار بوب ديلان. في هذا العام أصدر ألبوم “Fallen Angels”. وفي الشهر الماضي فاجأت نوبل العالم بمنحها جائزة نوبل لمغني بدلًا عن روائي مما أثار استغراب الناس برغم أن هذا ليس استثناءً إذ شملت القائمة من قبل ثلاث فلاسفة (رودلف أوكن و هنري برجسونو بيرتراند راسل) ومؤرخ هو “تيودور مومسن” بل ورجل دولة (ونستون تشرشل) عن أعماله العديدة، ولاسيما مجموعته من ستة مجلدات عن الحرب العالمية الثانية. وفي 2013 أصبح آليس مونرو أول كاتب شبه متخصص في القصص يفوز بالجائزة ثم تفوز بها الصحافية البيلاروسية سفتلانا إليكسفيتش. الشاهد أن نوبل ليست حكرًا على الروائيين كما يعتقد البعض.
الجديد أن بوب ديلان بتأخره في قبول الجائزة قد أعاد للأذهان ذكرى الثلاثي “برناردشو – سارتر- باسترناك” الذين دخلوا التاريخ بأعمالهم ثم برفضهم للجائزة حيث سخر منها برناردشو قائلاً: “هذه الجائزة أشبه بطوق نجاة يلقى به إلى شخص وصل فعلا بر الأمان ولم يعد عليه من خطر”فهل ستصيف الجائزة شيئا جديداً لقامة سامقة مثل بوب ديلان؟
يبقى شيء أخير وطريف: ما علاقة مسمى “بوب” مع الفن الملتزم بقضايا المجتمع والثائر على القيم السائدة؟. “بوب مارلي” – “بوب ديلان” – “بوب جيلدوف” أسماء وعلامات في طريق جعل الفن أداة للتغيير والتحريض ضد الظلم والتطلع لعالم جديد.
أخيرا ترسخ في ذاكرتي مقولة المفوه “بيل كلينتون” عن بوب ديلان حيث أنقلها بحذافيرها خوفًا من تشويه الترجمة القاصرة:
“He probably had more impact on people of my generation than any other creative artist. His voice and lyrics haven’t always been easy on the ear, but throughout his career Bob Dylan has never aimed to please. He’s disturbed the peace and discomforted the powerful.”


الكاتب : طارق أحمد خالد

  

بتاريخ : 20/06/2019