مبدعون في حضرة آبائهم 7 : أحمد جاريد، كلام عن الأب

في رسالة كافكا إلى أبيه: « أبي الحبيب.. لقد سألتني مؤخراً: لماذا أزعم أنني أخاف منك؟ وكالعادة لم أدر بماذا أجيبك. تارة بسبب الخوف الذي يعتريني أمامك، وتارة لأن الكثير من التفاصيل متعلقة بحيثيات ذلك الخوف، بحيث لا يكون بوسعي لملمة شتاتها في الحديث معك ولو جزئياً. وإنني إذ أحاول هنا أن أجيبك خطياً، فإن كل ما أقوم به لن يكون سوى محاولة مبتورة، وذلك لأن الخوف وتبعاته يصدانني عنك حتى في الكتابة، ولأن جسامة الموضوع تتعدى نطاق ذاكرتي وإدراكي «.
أمام اللجوء أو الهروب إلى الأم الحاضنة والحنونة وملاذ « التواطؤات « الجميلة، كيف يستحضر مبدعونا المغاربة صورة الأب، وهل تختلف نظرتهم إلى هذه السلطة الرمزية التي ارتبطت بالصرامة والتحكم؟ كيف دبروا هذه العلاقة التي تلتبس فيها العواطف بين خوف واحترام، بين حب أو كره، بين تقديس وقتل؟

 

كنت وقتها لازلت طفلا حينما شعرت بالخيبة من جراء  فشل أخي الذي يكبرني بأربع سنوات في مواصلة دراسته الابتدائية رغم حرص والدتنا على  أن يتابع دراسته ولو في مدرسة خاصة، ولو ان الإمكانيات المادية لا تسعف.
وانتابني نفس الشعور لكن هذه المرة مشفوع بالغضب حينما تخلى أخي الذي يصغرني بعامين عن دراسته. أما اختي البكر فتوقفت هي الاخرى عن الدراسة لأن رجلا جاء لخطبتها. وكان من البديهي آنئذ أن يرغب خطيبها وجارنا الذي توسط في الخطبة ووالداي في الإجهاز على مستقبلها التعليمي. وطال الأمر كذلك أختي الصغرى كي تتوقف عن دراستهاحتى تتفرغ لمساعدة اختي البكر في بيت زوجيتها الجديد وهي حامل. وهو ما أثار حفيظتي متمردا على فعلتهم، لكن وانا طفل لا حول لي ولا قوة.
لم يتبق سوايَ في البيت لمواصلة تعليمه. لم تكن لي أدنى مشاكل في متابعة دراستي، بل كنت دخلت المسيد قبل ولوج المدرسة. وحفظت ما تيسر من أحزاب القرآن. وقرّبني الفقيه منه لانضباطي وحِرصي على التحصيل. وبما أن نتائجي في المدرسة كانت جيدة وفّر لي هذا الوضع بعض الحظوة، غير ان مشكلتي الأولى المؤرقة آنذاك كانت هي عدم وجود من يساعدني في تحضير فروضي المدرسية بالبيت، فلم يكن لي من بدٍّ سوى تدبير أمري لوحدي.
في هذه الأجواء كان أبي يلاحظ نجابتي مما جعله يعاملني معاملة خاصة. ليس فيها أي تمييز ولكن ببعض الريالات كلما تقاضى أجرته عند منتصف الشهر. وعلى خلاف إخواني، لم أتعرض لعقاب منه سوى مرة واحدة في حياتي. كان يكتفي بتوبيخ شفوي، وحتى ذلك لم يكن إلا لِماماً.
كان والدي رجلا هادئا جدا. يلوذ أغلب وقته للصمت. لم يكن يعرف في حياته اليومية سوى العمل، العمل الشاق. إذ كانت مهنته بناء. ويكتفي ليوم عطلته الأسبوعي بالذهاب عند الحلاق فإلى الحمام ثم زيارة عمي وعماتي. لم يكن ميسور الحال. ليس له من أرض البادية نصيب ولا من دخل سوى أجرته الهزيلة التي يُسلمها كاملة لوالدتي لتدبير مصاريف البيت. أما مصاريفه الخاصة فليست سوى بضع علب تبغ (كازا سبور).
كان يُهيَّئُ لي وكأنه خُلق من دون الناس منذورا للعمل الشاق. فلكي يطعم أسرة من ثمانية أفراد عليه ان لا يعرف الراحة. كم اهانني حيف القدر له.فكل العطف الذي أكنه له لم يكن كاف لتغطية إشفاقي عليه. إذ رغم عمله المضنى فهو لا يحصل في المقابل سوى على أجر لا يكفي حتى لسد رمقنا. وهَبَ حياته لتحمل أوزار أسرته كما يهب راهب عمره لدير. عند عودته من العمل مساءً، وأنا أقبل يمناه الضخمة الخشنة كالعادة، كانت رائحة الحجر والاسمنت تغمر خياشيمي الصغيرة. وإلى اليوم ما ان استنشق رائحة الحجر حتى تطفح صورة أبي في ذهني وهو يركن دراجته الهوائية ذات المقود المعقوف على شكل قرن التيس. لا زال طيفه أمامي وهو يخلع حذاءه الأصهب الملطخ والمثقل بالإسمنت، الذي رسمته كثيرا في صغري، ولا زلت ارسمه في كبري. كان أبي مرادفا للطيبة والشقاء. وبسبب هذه الهشاشة كان قلبي يتقطع من أجله في مشهد عودته من العمل. ما تأثرت بشخص في حياتي مثلما اخترقتني طيبة والدي ونكرانه لذاته. ومع أن امي كانت تحيطني برعاية مميزة عن باقي إخوتي إلا أن قلبي يخفق لأبي. منه استقيت السماحة وهو من سكب السكينة في روحي … أنا مثلما انا الآن بسببه هو، بسبب أبي. حتى يهيئُ لي أنى لم أرث من والدتي شيئا أو أكاد. بل بقدر ما أميل لطباع أبي بقدر ما لا أستصيغ تلك لأمي. إن هشاشة الفرد هي ما ينفد إلينا بقوة أكثر بكثير من صلابته.
والسبب في أني لا أريد بديلا عن وحدتي التي أستطيب اليوم، يعود إلى أني عشت تحت جناح شخص واحد كان على أنه الجميع.
ذات أيام فصل شتاء في منتصف الستينيات، كانت سعادته لا تُحد لمَّا حصل على عقدة عمل بفرنسا. فجهز الجواز وكل الوثائق وبات الكلام في البيت لا يدور إلا حول المستقبل الجديد بفرنسا الذي يَعِدُ بالخلاص من الفاقة والفقر. ونقل إلينا سعادته التي غمرت البيت، وبتنا على مرمى حجر من العيش الرغيد. وكان صديق لأبي بناء أيضا، يرافقه في هذا المشروع. كان أكثر نباهة من أبي وعلى بعض الاضطلاع مما هي عليه الظروف والتقدم في فرنسا. فنسمعه يروي عن الوفرة والازدهار هناك حتى كدت أتخيل أن المال مرمي في الشوارع. كان يقول:
«سمعي أ(عايدة) السي بوشعيب غادي يخدم ويدير لاباس ويشري الطوموبيل ويديكم لفرنسا عندو».
لكن القدر كان لئيما والصدمة كانت محبطة لما تم رفض عقدته بعد اجتياز الفحص الطبي بسبب عماء في عينه اليمنى. إذ كان فقد النظر بها على إثر انفجار فانوس كاربون كان يهم بإيقاده. عينه تبدو طبيعية لكنها لا تبصر. وتأثرتْ بسبب ذلك أذنه أيضا مما سيضعف من سمعه مع مرور العمر. رغم الخبر المحزن كان والدي لا يُظْهِر حزنه. أظن أنه لكي تكون أبا لابد أن تكون عفيفا وأبيا. أن تكون كمسدس كاتم الصوت ولا تفشي دموعك وانكسارك أمام أبنائك.
أن نعطي ولو بنا خصاصة هو ما يجعلنا آباء.
مرت الأيام وأنا مثابر في الدراسة لا يُحَفِّزني سوى شيئا واحدا وهو أن أنتقم لأبي من شقاءه. وأعوضه عن حلمه بفرنسا. وما إن بلغتُ الثانوي واجتزتُ شهادة (البروفي) حتى باغتني بأن أنهي الدراسة وألتحق بوظيفة في التعليم أو الدرك أو ما شابه، رغم صغر سني. وأذكر جيدا كيف قَبل رفضي القاطع على مضض وهو يقول لي بحسرة:
« عليك أن تعرف يا ولدي أني عاجز عن مواصلة توفير حاجياتك وأدواتك الدراسية التي تزداد كل عام «.
كانت كلماته بوح بما لا طاقة له به، إذ كنت أعرف أنني أثقله بقهري إلى جانب قهر الزمن وقهر القدر.
نضطر لتعلم كل الأشياء في الحياة لوحدنا إلا التحدي، فنحن نحتاج لشخص آخر كي نتعلمه. دفعني إصراري على مواصلة الدراسة إلى أن أتولى لوحدي أمر إيجاد مورد لتغطية نفقات شراء الكتب وأدوات الدراسة. وهكذا جمعت اللوحات التي كنت أرسم خِفْيَةً، ونظمت معرضا بثانويتي، فالتف حولي زملائي وشجعني أساتذتي باقتناء غالبية لوحاتي فضلا عن الحظوة والتوقير التي وجدتها من جانب إدارة المؤسسة… وكم كان استغراب أبي كبيرا لِمَاحصلت من مال، كان بالنسبة لي آنذاك وفيرا. هو الذي ما فتئ يمنعني من قبل من الانشغال بالرسم الذي قد يلهيني عن الدراسة.
لم يكن أبي شخصا متدينا بالمعنى المتعارف عليه. لكن وبعد تعاقب السنين أدركت أن السماحة والسكينة التي ارتويت منها، كانت بمثابة المنهل الروحي الذي ألهمني في فني. إذ أن الصوفية ليست قضية تَعَبّد بقدر ما هي مسألة روح وصلات بالعالم وبالآخرين من حولنا.
اليوم وإن كان لي أن أعتذر فسأقدم اعتذاري لشخصين، نفسي ولوالدي. أما لنفسي فلأني ياما أنقدت عقارب من النار فلسعتني فعرفت أن الطيبة لا تُستنبت في القلوب القاحلة. وأما لوالدي فلأنه قضى نحبه قبل أن أسدد ما بدمتي تجاهه. لذلك لا أكره شيئا مثلما أكره الموت الذي باغثه قبل الأوان.
ليس لي أن استخلص اليوم إلا أنَّ الأب مادة للتفكير، لدرجة أن تاريخنا الخاص هوشغف الابن وهو يقضي حياته في فهم الأب. ربما بهذا المعنى كتب فرويد « الطفل أبو الرجل». وأقول الابن أبو الأب الذي صارني اليوم.


الكاتب : إعداد: مصطفى الإدريسي

  

بتاريخ : 08/07/2019