محمد منصور، الرجل ذو القبرين (10) : أزمة سنوات 1950 – 1952، وأثرها في قرار محمد منصور اختيار المقاومة المسلحة

تقول عنه زوجته، ورفيقة درب حياته، في رحلة عمر امتدت لأكثر من 70 سنة، السيدة فريدة آكاردي كالودجيرو منصور:
«لو سمح الله للملائكة أن تمشي في الأرض وتتزوج، لكان سي محمد منصور واحدا منها».
إنه المقاوم والوطني والمناضل التقدمي الراحل محمد منصور، الذي سنحاول هنا رسم ملامح سيرة حياته، بما استطعنا إليه سبيلا من وثائق ومعلومات وشهادات. فالرجل هرم بكل ما تحمل الكلمة من معنى، حكم عليه بـ 3 إعدامات و مؤبدين في الإستعمار واعتقل وعذب في الإستقلال من أجل الكرامة والديمقراطية.
هو المساهم والمنفذ لأكبر عمليات المقاومة ضد الإستعمار الفرنسي (عملية القطار السريع بين الدار البيضاء والجزائر يوم 7 نونبر 1953. وعملية المارشي سنطرال بالدار البيضاء يوم 24 دجنبر 1953)، أول عامل للحسيمة سنة 1957، وأول رئيس للغرفة التجارية بالدارالبيضاء سنة 1960.
محمد منصور، هرم، يصعب جديا الإحاطة بسيرته بالشكل المنصف تاريخيا، على الأقل لسببين:
أولهما أن الرجل كان صموتا جدا، يرفض بحزم، البوح أبدا بالكثير من التفاصيل الدقيقة كشهادة أمام التاريخ، بسبب من ثقافته السلوكية، التي ظلت تتأسس على أن ما كان يقوم به، كان يقوم به بنكران للذات من أجل الصالح العام.
ثانيهما طبيعة السرية التي حكمت عمله النضالي ضد الإستعمار وفي أجزاء كثيرة من زمن الإستقلال من أجل العدالة الإجتماعية ودولة الحق والقانون والحريات.
وإذا كانت هناك من خصلة ظلت مميزة عند محمد منصور فهي خصلة الوفاء. الوفاء لرفاق الطريق الخلص، الوفاء للفكرة الوطنية، الوفاء لقرار نظافة اليد، الوفاء للمبدئي في العلائق والمسؤوليات، مما يترجم بعضا من عناوين الجيل الذي ينتمي إليه رحمه الله، الذي يتصالح لديه الإلتزام السياسي مع السقف الوطني، وأن السياسة ليست مجالا لبروز الذات، بل مجالا لتطوير الجماعة في أفق بناء، تقدمي وحداثي (الحداثة هنا هي في تلازم المسؤولية بين الحق والواجب).
محمد منصور، ستكتب عنه كل صحف فرنسا الإستعمارية (ونقلت صدى ذلك صحف باريس أيضا)، يوم وقف أمام القاضي العسكري بالمحكمة العسكرية بالدار البيضاء سنة 1954، كي يفند التهم الموجهة إليه ويفضح تهافت جهاز الأمن الفرنسي في كافة مستوياته الأمنية والعسكرية والمخابراتية، حين أظهر لهم كيف أنهم يحاكمون سبعة مواطنين مغاربة ظلما بتهمة تنفيذ عملية «القطار السريع الدارالبيضاء – الجزائر»، بينما هو منفذها، مقدما تفاصيل دقيقة أخرست القاعة والقضاة والأجهزة الأمنية. وقدم مرافعة سياسية جعلت مستشارا قضائيا فرنسيا يجهش بالبكاء، حين رد على القاضي، الذي اتهمه بالإرهاب: «سيدي القاضي، نحن وطنيون ندافع عن بلدنا، ولسنا إرهابيين، نحن نقوم فقط بنفس ما قام به الشعب الفرنسي لمواجهة النازية الألمانية لتحرير فرنسا. فهل ما قام به أبناؤكم إرهاب؟».
هنا محاولة لإعادة رسم ذلك المعنى النبيل الذي شكلته سيرة حياته، من خلال مصادر عدة، من ضمنها عائلته الصغيرة (زوجته السيدة فريدة منصور، ونجله الأخ زكريا منصور، وابنته السيدة سمية منصور)، وعشرات الوثائق الموزعة بين مصادر عدة فرنسية ومغربية، دون نسيان الأيادي البيضاء المؤثرة للأخ الدكتور فتح الله ولعلو، في تسهيل إنجاز هذه السيرة كوثيقة تاريخية.

 

شكلت سنة 1952، محطة حاسمة في مسار حياة سي محمد منصور، وباقي رفاقه ضمن تنظيمات حزب الإستقلال بالدار البيضاء، بسبب التطورات المتصاعدة للأزمة السياسية بالمغرب. حيث كانت المواجهة قد أصبحت مفتوحة بين الإقامة العامة والملك الوطني محمد الخامس، وبينها وبين حزب الإستقلال، على عهدي المقيمين العامين الجنرال ألفونس جوان والجنرال أوغست غيوم، في السنوات ما بين ماي 1947 و ماي 1954.
كان منصور قد بلغ الثلاثين من عمره، وعلاقاته الإجتماعية قد توسعت بفضل توسع نشاطه التجاري ضمن تجارة الخشب والنجارة (مع توسع تجارة زوجته ونجاحها بدليل فتحهم محلا تجاريا جديدا بقيسارية المنجرة، الجديدة والحديثة والمنظمة، بشارع السويس/ الفداء). مثلما توسعت علاقاته التنظيمية حزبيا وامتدت إلى أحياء بعيدة عن حيه الأصلي درب السلطان، خاصة في اتجاه المدينة القديمة وحي عين الشق وحي كاريان سنطرال (الحي المحمدي). وأنها أساسا علاقات تنظيمية عمالية، تشكل النواة البكر لملامح بروز تنظيم نقابي مغربي خالص في سنة 1955.
كانت الحالة في المغرب، إذن، في سنة 1952، حالة احتقان كبيرة، أثرت على وعي وتوجهات وخيارات جيل محمد منصور، من عناوينها الكبرى، تصاعد المواجهة السياسية بين المقيم العام الفرنسي الجنرال ألفونس جوان، الذي كان منتميا لمدرسة سياسية فرنسية ذات مرجعيات عسكرية استعمارية، تعود أصولها إلى «الحزب الإستعماري العسكري» لنهايات القرن 19 وبدايات القرن 20، التي ترى إلى احتلالها لجغرافيات متعددة خارج الحدود الفرنسية «واجبا تاريخيا وحقا حضاريا»، ضمن الصراع بين القوى الأروبية (خاصة ما بين برلين وباريس ولندن)، للنفوذ والسيادة العسكرية والإقتصادية عالميا. فكانت تلك المدرسة التي ينتمي إليها جوان، ترى إلى المغرب والمغاربة كتجمع غير مهيكل، لا وجود للدولة فيه، وأنه تجمع متخلف، غير متحضر وبربري، وأن دور فرنسا هو إعادة تنظيم ذلك التجمع البشري، مثله مثل باقي التجمعات البشرية التي تحتلها فرنسا بإفريقيا والعالم، كجزء من المنظومة الفرنسية كقوة عالمية.
كان تجلي ذلك الصراع بين الإقامة العامة، ذات هذه المرجعية الإستيطانية، والقصر والحركة الوطنية، متمثلا في ما حدث في ما بين 1950 و 1951، من خلال المذكرات التي أرسلت من قبل الجنرال جوان إلى وزارة الخارجية الفرنسية، على عهد الوزير موريس شومان، ردا على مذكرة احتجاجية لحزب الإستقلال مؤرخة ب 12 شتنبر 1950، وجهت إلى الإقامة العامة الفرنسية وإلى وزارة الخارجية الفرنسية وإلى السلطان سيدي محمد بن يوسف (باتفاق وتنسيق معه أصلا) وإلى الممثليات الديبلوماسية الدولية الكبرى بالمغرب. وهي المذكرة التي اعتبرت أنه لا يحق لباريس إدراج المغرب ضمن منظمة الحلف الأطلسي، لاعتبارات مبدئية تتمثل في:
أن الشعب المغربي لا يعتبر نفسه مرتبطا بأي التزام توقعه الحكومة الفرنسية باسمه
أن الشعب المغربي المخلص لبيان 11 يناير 1944 لا يفكر في شئ قبل الحصول على حريته واستقلاله.
يعلن عن اقتناعه بأن المصالح الإستراتيجية يجب ألا تسبق الإعتبارات السياسية، إذ الإعتبارات العسكرية في بلد ما هي نتيجة حالة تحددها حالة السياسة والإجتماع والإقتصاد.
أن الشعب المغربي صرح غير ما مرة أنه لا يمكنه أن يعتبر نفسه بحال من الأحوال حليفا للذين ينكرون عليه حقه في الحرية والإستقلال (كما ورد ذلك في الصفحة 222 من كتاب «المغرب منذ الحرب العالمية الأولى» للأستاذ علال الفاسي في طبعته الثانية، والذي أحال عليه الأستاذ محمد العربي المساري في مقالة له نشرت بجريدة «العلم» بتاريخ 9 مارس 2009).
كان رد الجنرال جوان هو اعتبار المغرب ليس دولة وأن مشاركته في الحرب العالمية الثانية لم يكن بسبب كونه دولة ساعدت فرنسا الحرة، بل إن العناصر المغربية أخدت بالقوة من قبل سلطات الإقامة العامة الفرنسية. والغاية هي نفي صفة «الدولة» عن المغرب وعن نظامه السياسي وملكيته (هنا تكتسب مبادرة الجنرال ديغول توشيح الملك الوطني محمد الخامس بوسام «رفيق التحرير» كل قوتها السياسية والرمزية التي كانت على النقيض تماما من أطروحة مجموعة الجنرال جوان ضمن الجمهورية الفرنسية). مثلما أنه سيعمل على انتهاج خطة مزدوجة لتطويق المطالب الوطنية المغربية في الحرية والإستقلال، المعبر عنها شعبيا من خلال وثيقة 11 يناير 1944 لحزب الإستقلال (ووثائق مشابهة لحزب الإصلاح بزعامة عبد الخالق الطريس بتطوان، ولحزب الشورى والإستقلال بزعامة محمد بلحسن الوزاني، صدرت في ذات الشهر من سنة 1944). والمعبر عنها رسميا من خلال خطاب طنجة التاريخي للسلطان محمد بن يوسف يوم 9 أبريل 1947.
وهي الخطة المزدوجة التي عملت على تطويق الحركة الوطنية وزعاماتها وتنظيماتها وصحفها باللغتين العربية والفرنسية، من خلال التضييق على ممثليها ضمن مجلس الحكومة (قصة طرد اليزيدي ورفاقه)، والإنتقال إلى الإعتقالات والنفي في دجنبر 1952. وكذا تطويق الجالس على العرش في محاولة لعزله عن الحركة الوطنية وقطع كل أشكال التواصل والتنسيق بينهما، وذلك من خلال ممارسة الضغط على السلطان لتوقيع الظهائر غير المتوافقة وروح اتفاقية عهد الحماية الموقعة يوم 30 مارس 1912، التي رد عليها بن يوسف برفض التوقيع (أو ما عرف ب «أزمة إضراب الطابع»). ثم في الآن نفسه دفع القواد الكبار، خاصة باشا مراكش التهامي لكلاوي، للضغط علىه لقطع صلته بالحركة الوطنية وفي مقدمتها حزب الإستقلال، وهي الأزمة التي عرفت ب «تطاول ووقاحة التهامي الكلاوي على الملك» الذي طرده من القصر بعد أن تجرأ ووصف محمد بن يوسف بأنه «لم يعد ملكا للمغاربة، بل هو ملك حزب الإستقلال». ثم انتقال الجنرال جوان، سنة 1951، إلى التهديد المباشر للملك بعزله عن العرش.
كانت كل هذه التطورات تصل أصداؤها إلى كامل التنظيمات الحزبية بالمغرب، وكان لها صدى خاص ضمن أقوى تلك التنظيمات بالمدينة العمالية الصاعدة (الدار البيضاء). وضمن خلايا تلك التنظيمات كان يتحرك محمد منصور ورفاقه بدرب السلطان. ومع تصاعد المواجهة بين الإقامة العامة والحركة الوطنية والقصر، ستأتي أحداث الدار البيضاء ليوم 7 و 8 دجنبر 1952، أثناء تنفيذ الإضراب العام تضامنا مع الشعب التونسي إثر اغتيال منظمة متطرفة فرنسية للزعيم النقابي التونسي فرحات حشاد يوم 5 دجنبر 1952 بالعاصمة تونس، والذي لعبت فيه التنظيمات العمالية والحرفية والشبيبية لحزب الإستقلال الدور المحوري الحاسم، والتي سجلت سقوط العشرات من القتلى الأبرياء خاصة بالحي المحمدي. مثلما تبعها قرار اعتقال كل قيادات حزب الإستقلال، مما جعل المشهد السياسي العام بالمغرب يصبح على الشكل التالي:
عزل السلطان محمد بن يوسف داخل أسوار القصر وقطع كل صلة له مع الحركة الوطنية وإلزامه بالإكراه على توقيع الظهائر المتجاوزة لمنطوق معاهدة الحماية والمؤبدة للتبعية الكاملة لفرنسا كاستعمار وليس كحماية.
إخلاء الساحة من قيادات الحركة الوطنية في ما يشبه قص أجنحة الفعل السياسي التأطيري مجتمعيا.
فكانت النتيجة الكبرى هي تعزيز قناعة محمد منصور ورفاقه بقرار المواجهة العنيفة مع المستعمر، خاصة مع الأثر البليغ الذي خلفته في نفسيته ونفسية جيله، جريمة «ضربة ساليغان» بدرب الكبير، قبل ذلك في أبريل 1947. فبدأ الشبيه يبحث عن الشبيه، وبدأت الأنوية السرية الأولى تتشكل في الدار البيضاء. وهنا شرعت التنظيمات السرية الموازية للتنظيمات الحزبية في التشكل، التي كان أولها، في ما يرتبط بسي محمد منصور هو علاقته برفيق دربه وصديقه القديم والحميم، وموطن ثقته المطلقة، سعيد بونعيلات. ومن خلالهما توسعت النواة بتدرج لتشمل في البداية «دابلعيد» (الرجل الصلب والتاجر الصغير بشارع السويس/ الفداء بدرب السلطان، الذي سيختطف سنة 1963 في عهد الإستقلال من قبل مجموعات الجنرال أوفقير، وبقي مصيره مجهولا إلى اليوم. وحين سجلت ذلك اللقاء مع الراحل سي محمد منصور سنة 1999، بكى طويلا وهو في 77 من عمره بلحيته البيضاء الناصعة حين تذكر صديقه ورفيقه دابلعيد). ثم التحق بهم عبد لله الصنهاجي وحسن العرايشي. كانت تلك هي النواة الأولى لخليتهم، التي ستتقاطع في ما بعد مع خلايا أخرى، كان أقواها التحاق خلية الشهيد محمد الزرقطوني بهم، عبر سعيد بونعيلات، ما مكن من بداية تأسيس ما يمكن وصفه ب «قيادة مركزية موحدة» للمقاومة المسلحة ضد الإستعمار الفرنسي بالدار البيضاء.


الكاتب : لحسن العسبي

  

بتاريخ : 11/07/2019