النزعة الدرامية في شعر أدونيس 2/2

إن مهيار أدونيس يبتعد ابتعاداً كبيراً عن مهيار التاريخي، إنه لسان الشاعر الذي يتكلم به، والمتقمص لمشاعره ونوازعه وخواطره، والمعبر عن رؤياه للحياة والكون وشتى المواقف، وهو كذلك ذلك البطل الخاضع لمقولة التحول الأساسية التي تهيمن على نتاج أدونيس بأكمله، حيث يدخل في سلسلة من التحولات والتوحدات ويظهر عبر مختلف التجليات. ونحن سنتلقى هنا هذه الشخصية الدائمةالحركة والمتعددة الأبعاد والتجليات بعيداً عن مبتكرها.
فهو مَلِك، وما توحي به كلمة» ملك» من القوة والسلطة، والأمر والنهي، ولكنه ملك لأحلامه التي أصبحت له قصراً وحدائق نار:
مَلِكٌ مهيارْ
مَلِكٌ والحلْمُ له قصر وحدائق نار
واليوم شكاه للكلماتْ
صوتٌ ماتْ؛
ملك مهيار
يحيا في ملكوت الريحِ
ويملك في أرض الأسرار..
وهو حينا أوديس يعود إلى وطنه بعد غربة السنين ومشقة الطواف فيجد نفسه لا يزال غريبا:
حتى ولو رجعتَ يا أوديسْ
حتى ولو ضاقت بك الأبعاد
………………
تظل تاريخا من الرحيلْ
تظل في أرض بلا ميعادْ
تظل في أرض بلا مَعَادْ.
وهو حينا آخر « ساحر الغبار» وتكون له أسراره العجيبة بمثل قوله :
ليَ أسراري لأمشي
فوق بيتِ العنكبوتْ
ليَ أسراري لأحيا
تحت أهداب إلهٍ لا يموتْ.
وهو مرة سيزيف يقضي عمره برفع الصخرة، ويجد الانتصار في قلب انسحاقه:
أقسمتُ أن أكتبَ فوق الماءْ
أقسمتُ أن أحمل مع سيزيفْ
صخرتَه الصمَّاء.
…………………
أقسمتُ أن أعيش مع سيزيف.
وهو مرة أخرى يفرز ألواناً أخرى لتظهر ملامحه تماماً في الصورة:
مهيارُ وجهٌ خانه عاشقوه
مهيارُ أجراسٌ بلا رنين
مهيارُ مكتوبٌ على الوجوه
أغنية تزورنا خِلسةً
في طُرقٍ بيضاء منفيَه،
مهيار ناقوسٌ من التائهين
في هذه الأرض الجليليه.
ثم ينتقل نقلة أخرى إلى ما يمكن تسميته الموقف الكوني، أي أزمة الإنسان تجاه معضلة الوجود، فالقضية التي يواجهها هي ظلم الوجود ، فهو مظلوم لأنه وُجد قسراً ، من جراء أن الوجود قد فُرض عليه ، وهو لم يختره، لهذا أصبح الاختيار بالنسبة لأي طرفَيْ القضية عبثاً :
ـ « من أنتَ ، من تختارُ يا مهيارْ؟
أَنَّى اتجهتَ اللهُ أو هاوية الشيطان
هاويةٌ تذهب أو هاويةٌ تجيء
والعالم اختيار».
ـ « لا اللهَ أختار ولا الشيطان
كلاهما جدار
كلاهما يُغلق لي عينيّ.
وكذلك :
أعبر فوقَ الله والشيطان
( دربي أنا أبعدُ من دروب
الآله والشيطانْ) .
ولكنه يتراجع إلى دائرة أضيق فينتظر إلهاً آخر، ربما يعني به حضارة بحرية قديمة، إِلهاً له شكل البشر وهيئتهم وخصائصهم، لا ينعزل عن الآخرين ولا يتعالى عنهم، وقادر على إعادة الخلق على صورة جديدة:
أنتظر الله الذي يجيء
مكتسيا بالنار
مُزيّناً باللؤلؤ المسروق
من رئة البحر من المحار،
أنتظر الله الذي يحار
يغضب يبكي ينحني يُضيء ـ
وجهكَ يا مهيارْ
يُنبئُ بالله الذي يجيءْ.
كما يطالعنا مهيار من خلال توحده بشاعرين رافضين متمردين، أولهما « أبو نواس» الذي يرى أن دِمَنَه التي لفّته في الماضي تلفّه الآن، وأن أحباءه طُغاة ومُراؤون كالسماء، وثانيهما « بشار» الذي ما يزال يهدر إلى الآن في الشوارع وفي الأعماق.
وموقف الرفض هذا من أهم السمات التي لا تفارقه وتؤكده العديد من المواقف، فمهيار الجديد، شخصية متمردة على القيم المقدسة ، متمردة على القوى المتحكمة بالحياة والمتسلطة على البشر:
وجه مهيار نارْ
تحرقُ أرض النجوم الأليفه،
هو ذا يتخطى تخوم الخليفه
رافعاً بَيْرق الأفول
هادماُ كل دار،
هو ذا يرفضُ « الإمَامَهْ».
تاركاً يأسه علامه
فوق وجه الفصول.
ثم ينتقل من هذا الرفض إلى رثاء الأيام الحاضرة التي يراها تغص بعربات النفي، وبالتاريخ العربي المضمّخ بمسك العوانس والأرامل العائدات من الحج ، ثم يتوهج كقطعة من الجمر وهو يرى بلاده قد تحولت إلى امرأة محمومة، وجسر للملذات يعبره القراصنة ، ثم يتوهج أكثر حين يُدين تلك الفترة:
« ـ من أي بلاد أتيت، من أي حظيرة لا اسم لها؟
ـ لم يكتمل وطني بعد، روحي بعيدةٌ ولا ملْكَ لي.
حيث يبدأ القراصنة ، يأكل الناس بعضهم وتنتهي الكلمة.
وحيث يبدأ القراصنة أحمل كتبي وأمضي …».
ولأن مهيار شخصية واعية بذاتها وبواقعها، فهو يسعى إلى مجابهة الواقع وزرع روح التمرد، فيظل حلم البعث الهدف الأسمى لديه ومشروعه الذي يرى أن لا مناص من تحقيقه:
يهبط بين المجاذيف بين الصخور
يتلاقى مع التائهين
في جرار العرائس
في وشوشاتِ المحار؛
يُعلنُ بعثَ الجذور
بعثَ أعراسنا والمرافئ والمنشدين
يُعلن بعثَ البحار.
ورغم هذا الموقف المنبثق من إيمانه بضرورة البعث الجديد، والثورة على الواقع المتعفن الذليل لتجاوزه، فإن مواقف أخرى تُقدم لنا مهيار وهو في حالة إحساس بالضياع ، متمنياً لو يتغرب بعيداً عن واقع قهر لا سبيل إلى استصلاحه وتقويم كل مظاهر الفساد والخلل الذي يعم كل جوانبه ، فيعبر عن تعاظم الشعور باليأس بداخله:
هي ذي أرض العذابْ
لا غدٌ آتٍ ولا ريحٌ تُضيء
أيُّ صوت سيجيءُ
يا أحبَّائيَ في أرض الغياب.
لقد اتخذ قناع مهيار، ذو الطبيعة الإنسانية والأسطورية، أبعاداً ووجوهاً أخرى مختلفة ، يبقى من الصعب رصدها في حركيتها وتحولاتها. فقد تميز بتحولاته المتعددة من ساحر ونبي وإله وأسطورة وقديس وكاهن وغير هذا، وهو نفسه الذي التأم بالعناصر الطبيعية للكون من نار وماء وهواء وتراب بما تمتاز به من قدرات وتحولات وتفاعلات ، وقد اكتسب من خلالها ، باعتبارها هنا عناصر رمزية ، عدة سمات لم تفارقه من أبرزها التحول والصيرورة الدائمة والتقويض والقدرة على الانبعاث والتجدد .
كما ارتبط مهيار بشخصيات أسطورية ( أدونيس ـ أورفيوس ـ سيزيف ـ أوديس ـ فينيق… ) وأخرى شعرية وصوفية وتاريخية ودينية (أبو نواس ـ بشار ـ الحلاج ـ عمر بن الخطاب ـ نوح ـ المسيح ـ آدم …).
وقد حملت هذه العناصر والشخصيات مواقف تعضد مهيار الأدونيسي سواء في طبيعته الإلهية القوية الخارقة أو في طبيعته الإنسانية الضعيفة المتوارية، في لحظات ، نحو الذات التي تتنفس غيظا ويأساً.
وقد كان لهذه الشخصيات المتعددة المصادر، مساهمة فعالة في درامية هذا النص، باعتبارها صورة من صور أسلوب تعدد الأصوات في القصيدة/الديوان، يزكي هذا المنحى ما اعتمده النص من تعدد للضمائر (المتكلم ـ المخاطب ـ الغائب) وما حفل به من تعدد للأزمنة والأمكنة والرواة، وما انطوى عليه من عناصر درامية أخرى من ديالوج ومونولوج وتعدد للأوزان واختلاط الشعر بالنثر والغنائي بالدرامي والذاتي بالملحمي الشيء الذي أعطى لمهيار تلك الطاقة على التجسد عبر تلك الصورة ذات الوجوه المتعددة والحاملة لمعان ودلالات شتى.

ثانيا : الصقر وتحولاته.

عن « صقر قريش» كتب أدونيس قصيدتين الأولى سنة 1962 بعنوان «أيام الصقر» ، والثانية بعنوان « تحولات الصقر» التي بدأ كتابتها في سبتمبر 1963 وانتهى منها في سبتمبر 1964، والثانية مكملة للأولى بحيث لا يمكن الفصل بينهما إلا بالتسمية ليس غير.
وقد بُنيت القصيدة في الأساس على أصل تاريخي هو قصة الأمير الأموي عبد الرحمن الداخل الملقب بـ « صقر قريش « الذي نجا بنفسه سابحا عبر الفرات، بعد أن فتك العباسيون بأخيه الصغير ، وكادوا أن يفتكوا به أيضا، لكنه برجولة نادرة ينجو من الموت ويمر بفلسطين ومصر والمغرب ليبني ، بعد خمس سنوات من التجوال والاغتراب ، الدولة الأموية الثانية في قرطبة بالأندلس بعد انهيارها بالمشرق تحت سيوف العباسيين.
والشاعر هنا لا يريد من « صقر قريش» واقعه الخاص، بل يريد منه الرمز أو الحقيقة التي يمكن أن يصل إليها باستخدام هذا الرمز؛ فالصقر يرمز إلى العودة وإلى البعث بعد الموت، هو الذي فقد ملكه وأهله في الشرق فاتجه غرباً ليُبعثَ من جديد، ليصنع المعجزة في إمارة « قرطبة» ناسجا للغرب رداء الشرق على حد تعبير أدونيس . فالصقر التاريخي مجرد أرضية استندت إليها القصيدة، هو مستواها الأول الذي ينبثق من خلاله المستوى الآخر أي المستوى الذاتي والمعاصر، وبهذا استطاع أدونيس أن يلمح إلى الأصل التاريخي لشخصية الداخل بنفس المقدار الذي استطاع فيه أن يجعل منها قناعاً ينطق باسمه ويعبر من خلاله عن تجربته الذاتية ، فحقق توازناً واضحاً بين ذاته وموضوعه.
وتأكيدا لما ألمحنا إليه، فإن ما يمكن ملاحظته هو أن القصيدة يسودها ضمنا جو الأساطير الانبعاثية وشعائرها الطقوسية ، فذلك يعود إلى أنها تقوم على تيمة الموت والبعث والقيامة من جديد ( موت الدولة الأموية في الشام وبعثها من جديد في الأندلس) تلك التي اشتغل عليها الشاعر منذ قصيدته « البعث والرماد» وأثار فيها العديد من رموز الموت والانبعاث، وها هو يعود هنا إلى الفكرة نفسها فيربطها بصيرورة « صقر قريش» ، مع ما حمله الزمن معه من تجربة جديدة، وعناصر فنية جديدة.
وكما رأينا أدونيس ،من قبل ، قد طرح مشكلته الخارجية الأولى على « مهيار» ، فإننا نراه يطرح قضيته الثانية على عبد الرحمن الداخل الذي يلتقي معه في الشعر، وفي المطاردة من دمشق ، وفي تركه شيئا عزيزا من ورائه لا يُمكن أن يٌنسى ، ثم في اهتداء كل منهما إلى العبور بدمشق نحو أندلسه / مملكته الخاصة به، لتحقيق ذاته ووجوده من خلال هذه المملكة. فالصقر يسعى لبناء مملكة خارجية، مملكة الواقع، بينما الشاعر يحدوه الطموح لتأسيس مملكة يسودها الخلق والإبداع والفكر ويكون لها دور حضاري، إنه يرغب في تشييد « أندلس الأعماق « أي مملكة الداخل المحض، تنبت في الأعماق.. تنبع من الأعماق. كما أن الرجلين ( الصقر/ الشاعر) يلتقيان في العديد من الوقائع والأحداث، والجرح يكاد أن يكون مشتركا بينهما، ويبقى أن كليهما شاهد عصر على المغامرة والرجولة والتجوال الصعب وترويض المستحيل وتحقيق المجد بالعزيمة والتحدي الفردي.
يبدأ أدونيس قصيدته بكلمات لعبد الرحمن الداخل، تصف فراره من دمشق مطاردا مهزوما : « وأقبلت الخيل فصاحوا علينا من الشط: ارجعا لا بأس عليكما ، فسبحتُ ، وسبح الغلام أخي، فالتفتُ إليه لأقوي من قلبه، فلم يسمعني واغتر بأمانهم وخشي الغرق، فاستعجل الانقلاب نحوهم ، وقطعتُ أنا الفرات ، ثم قدموا الصبي أخي الذي صار إليهم بالأمان فضربوا عنقه ومضوا برأسه، وأنا أنظر إليه وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، ومضيتُ إلى وجهي، أحسب أني طائر وأنا ساع على قدمي».
بهذه البداية الفاجعة ، تبدأ رحلة الصقر، التطوير الجديد لرمز أدونيس القديم: الفينيق. وقد ظلت صورة فقد أخيه على شاطئ الفرات وعبرات الوداع الأخير ماثلة في ذاكرته زمنا طويلا، وها هي تتداعى من ذاكرة الشاعر على شكل فاتحة للنص:
هَدأت فوق وجهيَ بين الفريسة والفارس الرِّماحُ
جسدي يتدحرج والموت حُوذيهُ والرياحُ
جُثث تتدلَّى ومرثية …
ويفر الصقر من صورة الموت التي تلاحقه، فيرتفع فوق الفرات، ويطل على العالم تحته، يرتفع إليه صوت الخرير، وتطوف في خياله ذاكرة الماضي الذي تقف « قريش» رمزه الباقي:
ـ « قُرَيش…
قافلة تُبحر صوب الهند
تحمل من أفريقيا ، من آسيا للهند
تحملُ نار المجد «.
وهو يلتقط نسب عبد الرحمن الداخل القرشي ليقفز به إلى « قريش « من غير أن يمر بالإسلام، فلا يرى فيه سوى الأمجاد الجاهلية. ويمزج أدونيس بين الرموز المختلفة في صورة واحدة، فالصقر حين يصعد لبروج التحول» حيث الفجيعة ، حيث يساقط الرماد، يستيقظ النشيج وينطفئ السندباد …»، وكالصوفيين تبدو «علامة» جديدة ، ويواصل الصقر صعوده ، وتتعاقب الصور ويتخذ إيقاعها طابعا سريعا:
مَهلكَ ياحنيني
يَعبرُ في جبيني
نهر من الشِّباكْ
من ورق الصفصاف والآراكْ
يعبر في جبيني
نهر من البخور
أطيبُ ما تشمّه العصور
أجمل ما يُخبر عنه الشرق.
ويواصل الصقر صعوده، فتتفتح أمامه بوابات السماء، ويتوحد بالقوة الكونية في حلوليته التي تعرفنا عليها من قبل:
أعرفُ أن أجرح الرَّمل ، أزرع في جرحه النخيلا
أعرف أن أبعث الفضاء القتيلا.
ويصبح الصقر هو كل شيء ، فهو في « بادية العروق ومدائن السريرة..» وهو « كالهالة مرسوم على بوابة الجزيرة» وهو « تطريز على عباءة الصحراء» وهو أيضا « في الحنين ، في الحيرة بين الحلْم والبُكاءْ»:
والصقر في متاهه، في يأسه الخلاق
يبني على الذّروة في نهاية الأعماق
أندلس الأعماق
أندلس الطّالع من دمشقْ
يحمل للغرب حصاد الشرق.
هذا مطلب الصقر، ومطلب أدونيس أيضا، أن يبني مدينته على ذروة الأعماق.
ثم تهدأ صيحة الرجوع، ويبدأ الصقر في تحولاته ، ويبدأ القسم الثاني من ملحمة أدونيس. وقصيدة « تحولات الصقر» تأخذ شكل كتاب أو رسالة مؤلفة من فصول أساسية أربعة هي على التوالي:
1 ـ فصل الدمع.
2 ـ فصل الصعود إلى أبراج الموت.
3 ـ فصل الصورة القديمة.
4 ـ فصل الأشجار.
ثم تنقسم الفصول ـ أو بعضها ـ إلى فقرات تأخذ عناوين خاصة ومستقلة .
1 ـ ففي الفصل الأول ( فصل الدمع) يبدأ انطلاقا من المأزق التاريخي والمعاصر الذي يخوض غمرته الصقر الذي خذلته دمشق لأنها تأبى أن تنقاد لطموحاته الجريئة ، ولكننا نراه منذ البداية موزعاً بين جنون المغامرة بكل ما يتطلبه ذلك من إقدام ، وبين الحنين إلى الماضي وما يسبّبه هذا الحنين من تردد وإحجام. وهذا الموقف الموزع يلخصه بيت عبد الرحمن الداخل الذي يضمنه الشاعر:
إن جسمي ومالكيه بأرض*** وفؤادي ومالكيه بأرض .
وفي هذا التضمين مدخل نفسي الدلالة يلتقي فيه أدونيس بشخصية الصقر الأدبية والتاريخية. هذه المرحلة من حياة الصقر، ومن جسد القصيدة، يمكن أن ندعوها بمرحلة الحلم والحيرة التي يلخصها قول الشاعر :
هَدأت صيحة الرجوعْ
غير أنّ الصواري
وطنٌ للدموعْ.
حائرٌ حائرٌ، ولي لغةٌ تهدر مخنوقةً ولي أبراجُ
حائرٌ أصلبُ النهارَ ويُغوينيَ رعب في صَلبه وهياجُ
حائرٌ تأخذ الشواطئ ميراثي وتحمي صباحيَ الأمواجُ.
والأزمة التي تتجسد في قوله:
طاغٍ ، أُد حرجُ تاريخي وأذبحه على يديَّ ، وأحييه،
ولي زمن أقوده ، وصباحات أعذّبها
أُعْطِي لها الليل، أعطيها السراب ، ولي
ظلٌّ ملأتُ به أرضي
يطولُ ، يرى ، يخضرّ ، يحرق ماضيه ويحترقُ
مثلي
ونحيا معاً نمشي معاً وعلى
شفاهنا لغةٌ خضراءُ واحدَةٌ
لكن أمام الضحّى والموتِ نفترقُ.
2 ـ في الفصل الثاني ( الصعود إل أبراج الموت) يبدأ الصقر مرحلة الفعل والتأسيس ، بعد مرحلة الدمع والحيرة. إنه يتعمد بلهب الرفض والتمرد والثورة (الثورة بمفهوم أدونيس طبعاً) ويمضي في مغامرته، وهو يعرف طريقه ويدعو كل من يريد المسير أن يتبعه:
مَن يريد طريقاً مَنِ البَرْقُ،
من يشتهي السماء
وهْيَ حُبلى بأحلامه ، والطَّرِيقُ
فَرَسٌ حولها يدورُ:
من هنا تبدأ الطريقُ
من هنا يبدأ العبورُ
من يريد طريقاً مِن البرق ، مَن منكمُ الرفيقُ؟.
وهو يقيم مملكته في المنفى ، يعليها ويوطد أركانها:
من ساحر يأتي بلا دخانِ
من حجرٍ يصيرُ ياسمينهْ
يحبل صمتُ الأرض بالأغاني
وتُولَدُ المدينة.
ولكنه رغم كل هذا يظل مثقلا بالحنين إلى أصوله كما سيتضح في الفصل اللاحق.
3 ـ في الفصل الثالث ( فصل الصورة القديمة) يعاود الصقر حنينه الأول إلى مسقط رأسه وملاعب هواه، وتنتابه مشاعر قوية لافحة من الرغبة في العودة ، لكن العودة مستحيلة أو شبه مستحيلة:
آهِ ياشكليَ القديمْ
( كيف يأتي ، يعود الغريبُ إل شكله القديمْ؟)
وبأَيِّ اللغاتْ
سأحيِّي الفراتْ
السَّريرَ الذي هزَّني وسقانيَ من مائه الكريمْ؟.
إنها رغبة الكائنات في العودة إلى أصلها القديم، رغبة السحابة في العودة إلى البحر ، والبذرة في الرجوع إلى الأرض، ولكن أصل الصقر (المشرق العربي) مرصود ومحاصر ولا درب تؤدي إليه:
ثمّةَ سجَّانٌ من الدماءْ
تحرسه التيجانْ
يحرسُ أقفاصاً من الرؤوسْ
من جُزُر الأحلام والبُكاء.
لذا يضطر الصقر من أجل الذهاب إليه إلى التحول والحلول في الأشياء؛ فيزور بغداد باعتبارها الوارثة لدمشق:
جئتُ إلى بغدادْ
في سعف النخل وماء النهرْ
في رئة العصفورْ
( وتردنا هذه الزيارة إلى زيارة أخرى لبغداد قام بها مهيار الدمشقي وعرف فيها الحلاج والنواسي وبشار بن برد وقرأ المرثيات على قبورهم). وفي هذه الزيارة لبغداد ، وهي في أوج عطائها، رأى أبا تمام مشتعلاً كالجمر خلف شتاء الليل والأحلام، والنواسي مبشراً بأن القصيدة هي البوابة الحقيقية للمدينة . ويعود من بغداد ليلقي إلينا بالنبوءة :
.. وعرفنا من العشب أن الطبيعهْ
ستقيمُ السلام
بين أطفالنا والفجيعَهْ
ستكون شرايينُهم كالجذور
وتشق الصَّقيع
وتصير جبالاً من الضوء ورديّة الجسور
تصل الموتَ بالربيع
وتقومُ البذورْ
وتقومُ الصَّلاة
في رواق على النيل يسمع تسبيحةَ الفرات…
إن هذه النبوءة المشرقة التي يراها الصقر في نهاية تطوافه هي رؤيا أدونيس للمستقبل ، يعود إليها مرة أخرى بعد أن يصحبنا لنقرأ الشواهد على قبر الصقر، ولنستمع إلى مراثيه، لكن التحول الذي لا يترك شيئا لن يترك الصقر، بل من موته ستبعث حياة جديدة ، كأدونيس وتموز والفينيق ، وسائر الرموز في عالم أدونيس الشعري.
4 ـ وفي الفصل الرابع ( فصل الأشجار) حيث يموت الصقر، والفصل بمجمله عبارة عن مراث له وشواهد مكتوبة على قبره. بيد أن الصقر الذي عارك كل هذا العراك وجاهد هذه الأهوال وبنى في المستحيل أندلس الأعماق لا ينتهي أو يتلاشى بموته بل يُبعث من جديد مرة ثانية:
غُطِّيَ بالريحان
بالجزعِ الشفاف ، بالسّريره
بالصمتِ ،
والتمزقِ المضيء،
وقيل: بعد القبر، شقّ القبرَ، ألقى
موته وطارْ
يبحثُ عن أمومةٍ
في وطن الإنسان.
وأنه يتناسخ في مولود جديد، ويبدأ مرة ثانية حياة فتية جديدة:
وقيل : كانت زوجةٌ فقيره
هنا وراء التلَّةِ الصغيره
حُبلى،
وبين الليل والنهارْ
في الصَّمتِ
في التمزَّقِ المضيءْ،
تنتظر الطفلَ الذي يجيءْ.
وهكذا نرى أن القصيدة تمثل حياة الصقر بدورتها المتكاملة أي بفصولها، وكما أن السنة تستكمل دورتها في أربعة فصول متوالية لتعود من جديد، كذلك الصقر استكمل حياته في فصول أربعة ثم استدار أو وُلد ليبدأ دورة حياتية جديدة.
لقد اغتنت هذه القصيدة ـ ذات البناء المرسوم بدقة متناهية ـ بالعديد من العناصر التي ساهمت في دراميتها، بدءاً من توظيفها للقناع الذي اتخذ عدة ملامح ومواقف طيلة تحولاته بين الماضي والحاضر واستشرافه للمستقبل، وربطها بين ثلاث حواضر (دمشق ـ بغداد ـ الأندلس) وما اشتبك في مناخها من أحداث وأزمنة وأمكنة وشخوص، بعضها اتسم بالذاتية والبُعد الرمزي، والبعض الآخر أخذ طابعا تاريخياً فعلياً؛ كما وظفت شخصيات شعرية ( أبو تمام ـ أبو نواس ) وأخرى دينية ( الخضر ـ عيسى ـ حدث الإسراء والمعراج …)، بالإضافة إلى تضميناتها بعض أشعار عبد الرحمن الداخل، واتخاذها لبعض المأثورات والمرويات ذات الدلالة الإيحائية كشواخص في بداية القصيدة ، كذلك توحدها مع معالم الطبيعة في الحواضر السالفة ، تلك التي بعثت فيها الحياة والحركة فإذا هي حية تسعى، إلى غير هذا من العناصر التي كان لها دورها في تشكيلها الفني ورؤيتها الفكرية.

هامش:
نظرا لضيق الحيز، ارتأينا حذف المراجع والهوامش التي أوردها كاتب المقال/الدراسة.
لذا نعتذر للقراء وللكاتب


الكاتب : د. حسن الغُرفي

  

بتاريخ : 12/07/2019