الصحافة في المغرب من العمل السياسي الهيكلي إلى ارتسام سبل البقاء

جمال الدين الناجي

شكلت مدن ساحل البحر الأبيض المتوسط منذ ما لا يقل عن قرن ونصف مسقط رأس الصحافة في المغرب، حيث تُجمع إلى يومنا هذا (1). جل كتب تاريخ الصحافة بالمغرب على هذه الحقيقة، بالرغم من اختلافها في تحديد تاريخ صدور أول جريدة.
وفي هذا الصدد، يؤكد زين العابدين الكتاني أن «المتحرر الافريقي» El Liberal Africano أول محاولة صحفية ترى النور في مدينة سبتة سنة 1820 (2). فيما تعتبر السيدة أمينة أعوشار «صدى تطوان» El Eco de Tetuan أول جريدة تصدر في المملكة المغربية، وذلك سنة 1860، إذ تمت طباعتها من طرف «الاحتلال الاسباني باستعمال آلة طابعة خاصة بالحملات العسكرية (3). » أما صاحب المقال (بدون توقيع) الذي نشر في مجلة «مغرب» فهو يزعم أن «أول جريدة أسبوعية حررت في المغرب هي جريدة «المغرب الأقصى (4).» التي صدرت باللغة الانجليزية سنة 1877 بمدينة طنجة». كما ذُكر هذا العنوان كذلك من طرف السيد عبد لله العروي، الذي لم يحدد أنها أول جريدة صدرت بالمغرب، بل اكتفى باعتبارها المؤشر الوحيد لبدايات هذه الإصدارات.
ويفيد العروي (ص. 204) أن دخول «تقنية الطباعة للمغرب كان عبر مدينة طنجة سنة 1880»، بينما يؤكد الكتاني أنه قبل صدور الجريدة الأسبوعية الفرنسية «عين طنجة» L’œil de Tanger، فإن الاتحاد الإسرائيلي العالمي الذي كان يرعاها قد قام «بتزويدها مسبقا بالآلة الطابعة اللازمة لصدورها»، لتعتبر أول طابعة في مدينة طنجة بعد فشل محاولة سابقة قام بها محرر من مدينة وهران (الكتاني ص. 93). ويعزى التناقض الذي نلاحظه في هذه اللمحات التاريخية إلى ما هو أبعد من تاريخ ظهور الصحافة، إذ يَنْصَبُّ في خانة الغموض الذي يلف تاريخ ظهور تقنيات الطباعة بالمغرب. كما تدل مختلف الصيغ التاريخية على أن المغرب لم يشهد ولوج تقنيات الطباعة قبل منتصف القرن التاسع عشر؛ ويرجع ذلك بالنسبة للكتاني إلى»مهمة ديبلوماسية قام بها الحاج ادريس بن محمد بن ادريس في فرنسا سنة 1859»، ومن جانبه، أفاد العروي (ص 202)، انطلاقا من المعلومات التي يقدمها الكاتب جرمان عياش (من ص. 139 إلى 159)، أن «أحد قضاة تارودانت قام بشراء معدات الطباعة من مصر ووهبها للسلطان محمد الرابع».
وترتكز هاتان الصيغتان على فرضيتين: بما أن دخول الآلة الطابعة إلى المغرب يبقى رهينا بحروف اللغة العربية، فإن مصدرها ينحصر دون أي شك على منطقة الشرق، كما لم يكن دخول تقنية من هذا النوع ممكنا إلا عن طريق سلطة حاكمة، ألا وهي المخزن… وانطلاقا من هاتين الفرضيتين، يروي جرمان عياش في كتابه أن «الدولة هي من أسست أول مطبعة… فبعد هزيمة تطوان، سعى سيدي محمد إلى الارتقاء ببلده وعصرنته، وقد ساهمت المطبعة في تحقيق غايته تلك، خاصة عبر المؤسسات الأخرى التي أحدثها لتعنى بمختلف قطاعات الحياة الوطنية». إلا أن السيد مانفريدو ماتشوتي، الإيطالي، يقترح بدوره نظرية تخالف تماما تلك الصادرة عن المؤرخين المغاربة، مؤكدا من خلالها أنه تم إدخال الطباعة إلى المغرب باللغة العبرية من طرف مطبعيين يهود سنة 1516، في خضم عملية انتشار امتدت على طول منطقة البحر الأبيض المتوسط، انطلاقا من مدينة ماينس. (ماتشوتي، الصفحات من 91 إلى 97).
وفي جميع الأحوال، بعيدا عن الاعتبارات الفضفاضة والمتناقضة، لا جدال بين اثنين حول حقيقة ثابتة أن في المغرب «كما في جل بلدان العالم العربي، تبقى السلطات الامبريالية المسؤول الأول عن ظهور الجريدة» (5). فتزامن بزوغ شمس الصحافة مع وغول القوات الأوروبية في منافسة مفتوحة رهانها المغرب لا يعد محض صدفة. «وبهدف نشر ‘المشروع الواعد’ لاستعمار المغرب والتصدي لمزاعم القوات المنافسة، وكذا جعل المغاربة يتجرعون حقيقة الاستعمار، شرعت كل مفوضية في إصدار جريدة» (6). وقد عرفت هذه المرحلة التحضيرية المباشرة لجوء كل القوات إلى الصحافة منذ سنة 1912.
إذ كانت فرنسا تتحكم في صحيفة(«Nord- Sud») «شمال وجنوب» (الدار البيضاء، سنة 1882)، و«انبعاث المغرب» («Le Réveil du Maroc»)(طنجة، 1883)، و«El diario de Tanger» «يومية طنجة»(طنجة، 1889)، و«السعادة» (طنجة، 1905)، و«La dépêche marocaine» (طنجة، 1906)، و«L’indépendance marocaine» «الاستقلال المغربي» (طنجة، 1907) و«Lavigie marocaine» (الدار البيضاء، 1908). أما الاسبان، فقد كانوا يحتكرون صحف»El eco de Tetuan» «صدى تطوان» (تطوان، 1860)، و«El noticiero de Tetuan» «مخبر تطوان» (تطوان، 1860)، و«AL Moghreb Al Aksa» «المغرب الأقصى» (طنجة، 1883)، و«El eco Mauritano» «الصدى الموريتاني» (طنجة، 1886)، و«الحق» (طنجة، 1911) و«El Telegrama del Rif» «تلغراف الريف» (صدرت بمليلية سنة 1898، حيث عمل فيها محمد عبد الكريم الخطابي كصحفي محرر)، و«الترقي» (طنجة، 1911). أما الانجليز، فقد كانوا يصدرون جريدة تدعى «The time of Morocco» (طنجة، 1884)، و«المغرب» (طنجة، 1889)، بينما أصدر الألمان جريدة «Le commerce du Maroc» «اقتصاد المغرب» (طنجة، 1906). (السيدة إهراي أعوشار، ص. 16 وما يليها).
وقد ظل هذا الطابع السياسي، الذي لعب دورا هاما في ظهور الصحافة، حاضرا في المراحل المتقدمة من تطورها،إلىأن انبثقت أول ردود الفعل المناهضة للاحتلال الأجنبي من خلال خلق كيانات تنفرد بالتعبير باللغة العربية (7). وبعد مرور الوقت، تحديدا في مرحلة النضال من أجل الاستقلال، لعبت الصحافة القومية دورا مركزيا جعل من جريدة مثل «العلم» (التي أسست سنة 1946) نموذجا يحمل معالم الاستقلال بالنسبة للعديد من المغاربة.
ولم يصبح إقران القضية السياسية بالصحافة في عصر المغرب المستقل معطى رئيسيا في المشهد الصحفي فحسب، بل شكل نبض الحياة السياسية للبلد.
ومن ثم، باتت الصحافة أداة حرب (سياسية) أساسية للتعريف بكل المشاريع السياسية، وجهازا مهيكلا لها، وذلك خلال فترة الحماية وغداة الاستقلال سنة 1956.
وقد مكن واقع النظام متعدد الأحزاب الذي عرفته الدولة ، حتى تحت نظام الحماية، بالرغم من عمليات الحظر والاعتقال والنفي، من تعزيز ذلك الترابط بين الصحافة والحياة السياسية، وبالتالي تشجيع التنوع،النسبي والاستثنائي في المنطقة، للإنتاجات والممارسات المهنية. بيد أن من منطلق المنطق، واعتبارا لهذا المصدر التاريخي، اتسمت الصحافة المكتوبة بظاهرة الحزبية،التي تطبعها الحصرية الضيقة الإقصائية في معظم الأحيان بحسب الدكاكين السياسية ومنتدياتها أو الصحف «لسان حالها» .
وباستثناء هذه الخاصية الرئيسية والسامية، فقد تميز انتشار الصحافة بالمغرب بأربعة عوامل:
تغطية محدودة للغاية تظهر من خلال إصدارات ضئيلة لا تتعدى 20.000 إلى 30.000 نسخة تقريبا بالنسبة للجرائد اليومية، و4000 إلى 5000 بالنسبة للدوريات، منذ 1956، أي قبل ستين عاما.
استهلاك رمزي لورق الجرائد وتركيز جل المبادرات الصحفية على محور الرباط-الدار البيضاء؛
ازدواجية مسلم بها فيما يتعلق بلغات التعبير، والتي تقسم قطاع الصحافة إلى شقين (الفرنسي والعربي).
ضعف ملحوظ على مستوى الهياكل التقنية والتجهيزات وتأطير الموارد البشرية، الذي يؤديإلى رداءة واضحة في الإنتاج، وضعف مهني وأخلاقي كبير.
إن كان مسَلَّما، بل حتى شرعيا، أن نقِر بأن المجتمع المغربي يعج بالتناقضات في حياته اليومية وأنشطته البشرية، فإن واقع الصحافة المكتوبة يبلغ أقصى أوجه التناقض وأغربها. ويتضح ذلك من خلال الكشك المغربي الذي كان يتلقى يوميا ما مجموعه 400.000 إلى 500.000 نسخة من جميع أنواع العناوين، وهو معدل منخفض إلى حد مدهش، بينما لا يتلقى اليوم، سنة 2018، سوى 120.000 نسخة. فيما يزور ملايين القراء المغاربة»الكشك الرقمي» يوميا عن طريق الصحافة الالكترونية ومواقع الأخبار المحلية، دون إغفال مواقع التواصل الاجتماعي العالمية. ويعد المغرب بلدا متصلا بالأنترنيت إلى حد كبير، إذ يضم ما يقارب 22 مليون مستخدم، 100% من العائلات يتصلون كلهم بالأنترنيت عبر الهواتف الذكية، أي 22 مليون هاتف ذكي، ويتصل ما يقارب 20 مليون منهم بالأنترنيت عبر هواتفهم، حيث صرح 8 من أصل 10 منهم خلال دراسات ميدانية قادتها الوكالة الوطنية لتقنين المواصلات أنهم يلجون إلى المعلومة عبر المواقع الالكترونية وليس عبر الصحافة الورقية.
وإذا افترضنا توزيع 120.000 نسخة من الجرائد المطبوعة على 35 مليون مغربيا، سنحصل على المؤشر المهول التالي: لا تقدم الصحافة الورقية المطبوعة إلا 0.0034 نسخة لكل مغربي ومغربية. أما إذا قمنا بتوزيع 120.000 نسخة على مجموع المغاربة الذين يتمتعون بالحق في التصويت، أي 22 مليون مواطن ومواطنة، مع اعتبار أصل وتاريخ الصحافة المكتوبة بالمغرب كعامل مهيكل للحياة السياسية، سنحصل على 0.0054 نسخة لكل مغربي ومغربية في سن التصويت، أي في سن تخول لهم المشاركة السياسية في الحياة الاجتماعية.
لا يعزى هذا التطور الذي دام ستين سنة للاكتساح الجامح لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات فقط، كما لا يرجع إلى التحول السريع والمحتم للمستخدمين وتغير سلوك قارئ / متلقي الأخبار بالمغرب،بل إلى مختلف أوجه الحضارة الرقمية الجديدة المنتشرة عبر العالم.
وعلى ضوء هذا التحليل التاريخي السريع، يمكننا الخوض في تخمينات معمقة من شأنها أن تقودنا إلى تفاسير أولية:
نجد في مطلع تسعينيات القرن الماضي أن الناشرين المغاربة، بما فيهم الصحف الحزبية، أصبحوا يفسحون، أكثر من أي وقت مضى، المجال للأعمدة الخاصة بـ «الأحداث المتفرقة»، حيث يتم استعراضها بشكل مثيرلضجة إعلامية. وتعتبر الفضيحة الجنسية الاجرامية، الأولى من نوعها في تاريخ الإعلام المغربي، أي فضيحة «ا لكومسير الحاج ثابت»،من بين أكبر العوامل التي أدت إلى الاهتمام المتزايد من قبل الناشرين والقراء بهذا النوع من «الأحدات». علما أن تلكا لإصدارات المسماة ب»الصفراء» التي أصدرتها مقاولات خاصة أواسط الثمانينيات -في أغلب الأحيان بمبادرة فردية وبقيادات و أوامر غامضة و مرسترة- قد بادرت في وقت سابق إلى هذا التحول. وهو بالفعل الأمر الذي ساعد على انتشار هذا النوع من «الأخبار»وظهور شركات صحفية كبرى أواسط التسعينيات أسست، في بعض الحالات حتى من طرف محترفين سابقين بالجرائد الحزبية، ولاسيما الجرائد التاريخية «الملتزمة والسياسية» التابعة للمعارضة اليسارية آنذاك.
منذ ظهور بوادر الصحافة بالمغرب ومعادلة «الشرعية السياسية في علاقة جدلية مع المصداقية الصحافية» تعتبر منبعا للنضال نظرا للأثر الذي تخلفه والدور الذي تلعبه والشعبية التي تحظى بها الصحف المغربية عبر التاريخ. غير أن تطور المؤسسات السياسية والنقاشات التي تثيرها والمعارك التي تخوضها، بما فيها المعارك الانتخابية، وكذا تطور خريطة وفسيفساء التعددية الحزبية (التي لطالما تمت بلقنتها)، وهي المصدر الأساسي الدائم للمشاريع الصحفية، فضلا عن أسباب هيكلية أخرى، نذكر منها على سبيل المثال ضعف الكفاءة المهنية وندرة الأخبار والمصادر والرقابة الممارسة عليها، كلها عوامل أبت إلا أن تنخر في نهاية المطاف مصداقية العمل الصحفي وشرعية النشاط السياسي للراعي الرسمي للصحافة المكتوبة وصانعها: الحزب السياسي… بالإضافة إلى تفكيك مصداقية الدولة نسبيا والحكومات التي تديرها على مستوى بعض منابر الصحافة المكتوبة التي تلهمها أو تتحكم فيها إلى حد ما.
اقتحام القوة الاقتصادية عالم الصحافة، الذي كان في الماضي حكرا على العالم السياسي، عوض قيم النضال الملتزم والمتطوع المتمثلة في صحافة الخطاب التوعوي والتعبوي وقوة التأثير، التي تحث على حمل المشاريع والترويج لها بدلا من الاضطلاع بمهمة الإخبار والاعلام المحضة و لكن المسخرة، أي أنها قيم مادية بخسة تدعمها اللوبيات التي تركض وراء المصالح والنفوذ على المستويين الاقتصادي والسياسي بطرق ملتوية أو غير مباشرة، تخلو من الحس الأخلاقي ولا تطمح إلى تحقيق أية مصلحة مجتمعية أو نشر «رسالة سامية». وهو الأمر الذي يتضح جليا في ظاهرة المعلنين الكبار، الذين أصبحوا خلال السنوات العشرين الأخيرة، يترأسون شركات الصحافة الكبرى، كما أنهم أصحاب سلطة وقرار فيما يخص استدامة النموذج الاقتصادي للصحافة المغربية بصفتهم معلنين ذوي صيت ذائع، بل يراقبون الصحفيين العاملين لديهم.
حالت عملية تحرير مهنة الصحافة من السياسية، والتي أخذت وقتا طويلا (بما أن الصحافة نشأت في كنف السياسة وترعرعت في قلب معاركها قبل فترة الاستقلال وبعدها)، دون ازدهار الصحفيين على النحو الطبيعي وتحليهم بالكفاءة المطلوبة، بما في ذلك أخلاقيات وآداب هذه المهنة. ويعود السبب الرئيسي لهذا التراجع إلى المحاولات المتكررة لقمع حرية التعبير، قبل وبعد الاستقلال، الشيء الذي عرقل سبل الوصول إلى الاخبار ومصادرها، وأعاق إمكانيات البحث والتعليق والتحليل النقدي باستعمال مختلف أنواع الرقابة علاوة على المتابعات القضائية…. مما دفع الصحافة إلى اللجوء للرقابة الذاتية، ومحاسبة و/ أو التلاعب ببعض الأقلام الصحفية، وذلك ما أدى إلى انحراف وفساد هذه المهنة وجعل عدة أجيال تتجنبها خشية من عواقبها الخطيرة والسلبية… فضلا عن أن نساء ورجال هذه المهنة الذين صاروا، أثناء فترة الازدهار ما بعد الاستقلال، تحت وصاية الهياكل السياسية ودواليبها الحزبية، على المستويين التنظيمي والنقابي، كما أصبحوا تحت إمرة الدولة عبر وزارة تختص بالمراقبة والخطاب العمومي تعرف باسم وزارة الاعلام والاتصال (والتي سميت وزارة الداخلية والاعلام خلال حقبة من التاريخ، أواسط التسعينيات). مما يجعل الصحافة عاجزة عن تكوين هوية قائمة بذاتها ومستقلة تعتمد على التقنين الذاتي وتتمتع بمصداقية يعترف بها المجتمع ويدافع عنها، ولا تمت بأية صلة للدولة والفاعلين السياسيين، أو بالأحرى الأحزاب، ولا تربطها علاقات بالجماعات الاقتصادية العالمية الضاغطة ولا المعلنين، لا من الناحية التنظيمية ولا المادية ولا السياسية.
التأثير النسبي للتكوين الجامعي في مجال الصحافة على العمل في قطاع الإعلام. لم تحظ المؤسسة العمومية الوحيدة و العتيدة، المعهد العالي للإعلام والاتصال، ولا المؤسسات الجامعية الخاصة التي انتشرت في زمن الفوضى، بفرصة الاستفادة من سياسة عمومية ذات وقع مهم على هذه المهنة ودورها، وذلك منذ أزيد من عقدين من الزمن. وهذا ما يظهر جليا من خلال عمل عدد كبير من خريجي هذه المدارس بالقطاعات المتصلة بالصحافة (الاشهار، ملحق صحفي، الاتصال المؤسساتي…)، رغم توظيف خريجي المعهد العالي للإعلام والاتصال، كل سنة، بمؤسسات الإعلام العمومية (سواء منها وكالة الأنباء أو الشركات العمومية للإذاعة والتلفزة)، حيث تكون نسبة «الاستقرار» في العمل أكثر تحفيزا مما هي عليه في القطاع الخاص وعند الأحزاب السياسية المتحكمة بالصحافة.
وأخيرا وليس آخرا، قلبت موجة الشبكة العنكبوتية المشهد الإعلامي للمغرب رأسا على عقب، وذلك منذ عقدين من الزمن (2018: سنة الاحتفاء بالذكرى العشرين لغوغل) وخاصة على مدى العشر سنوات الماضية، حيث كان المغرب سنة 1995 البلد المضيف للاتفاقية العامة للتعرفة الجمركية والتجارة، ويعتبر هذا التاريخ نقطة تحول أدت إلى ظهور العولمة متعددة القطاعات الحالية…وهو البلد الذي يزخر منذ سنوات عديدة بقنوات تلفزية أرضية مجانية، والذي يحتل المرتبة الثانية افريقيا من حيث تكنولوجيا المعلومات والاتصال، والمرتبة 53 بالعالم من أصل 195 بلدا، وتتوفر فيه ست أسر من أصل عشرة على حاسوب و/أو لوحة الكترونية، كما تستخدم الانترنيت سبع أسر من أصل عشرة (ثمانية من أصل عشرة في المناطق الحضرية، وواحدة من أصل اثنتان في المجال القروي)… وفي الختام، نستخلص في نطاق هذه التوضيحات المقتضبة ما يلي:
اقتحام السلطة الاقتصادية لعالم الصحافة المكتوبة بدلا من السلطة السياسية المؤسسة والمهيكلة تاريخيا لهذه المهنة.
تدهور المنابر السياسية، الحزبية والحصرية، وعلاقتها بتأثير تهالك الشرعية السياسية للحزب وتأثيره على مصداقية الخطاب الصحفي.
الإدمان المتزايد لقراء الصحف خاصة ومستعملي وسائل الاعلام عامة، على مقالات الاحداث والفضائح المخلة بالآداب والأخبار المثيرة، سواء أكانت سخيفة وتفتقر لأدنى مصلحة عامة للمجتمع الوطني، وذلك لفائدة أو على حساب رفع الستار عن الطابوهات، وتخفيض معدل الرقابة ودعم الحق في حرية التعبير والنقد (شفويا، كتابيا، عبر الصور والكاريكاتير)، وهذا ما يجعل البلد، والمجتمع المدني أولا، ممتنا لحملات المطالبة بالحريات والديموقراطية التي قادتها جمعيات حقوق الانسان ونقابات الصحفيين (النقابة الوطنية للصحافة المغربية وجمعيات أخرى لحماية الحريات العمومية وحرية الصحافة على رأسها).
لطالما كانت العدالة إحدى أسس الصحافة المكتوبة التي ظلت لمدة طويلة سجينة القيود التي كبلت حرية الصحافة، رغم النصوص المروجة لهذه الحرية (ظهير 15 نونبر 1958، تاريخ إصدار مرسوم منذ انعقاد المؤتمر الوطني «انفوكوم» INFOCOM لسنة 1993، «اليوم الوطني للصحافة»). لقد تأسست عدالتنا وتطورت، على مدى عقود من الزمن، بالاعتماد على الرأي العام والمحاكمة السياسية عوض المحاكمة الخاصة بالصحافة… وبالإضافة إلى ذلك، يُلاحظ تأخر متكرر وفجوات عميقة وعجز واضح على مستوى التشريعات والاجتهادات القضائية ومجهودات المشرع لتطوير القيم والممارسات والوسائط والتقنيات والتكنولوجيات، فضلا عن أنماط الاستعمال والمضامين الرقمية والمبادرات التواصلية وطموحات التعبير الحر والمتنوع الذي يتمتع به كل من المواطن – المتصل رقميا – والصحفي…
وقد يدفعنا هذا الكم من الحقائق المعاصرة الخاصة بعالم الصحافة المغربي إلى الخوف من التراجع الوشيك للصحافة المكتوبة، التي عمرت لما يقرب القرنين، لتصير مجرد ارتسام يحمل بالكاد تأثيرا مختلفا عن تأثيره الأصلي أو الذي عرفه القرن الماضي (من الستينيات إلى التسعينيات). ويبدو أن استمرارها يبقى رهينا بعد تنازلي مبرمج يؤدي في نهاية المطاف إلى زوالها، أو على الأقل إلى اضمحلال دورها السياسي السابق، أي ماهيتها الاصلية.

هوامش:

1 – في الجزء الأول من كتاب الكتاني والذي يفتقر إلى الدقة ويحتوي على كثير من التناقضات، نجد أن المعلومات القليلة التي يمكن الحصول عليها توجد ضمن منشورات تكون لا علاقة لها بتاريخ الصحافة. نذكر على وجه الخصوص أطروحة السيدة أمينة أعوشار والسيد بويي، وكتاب السيدة سوريو- هوبريشت، ومقال السيد ج.ل. مييج والسيد غرافيي، والسيد فالكو، بالإضافة إلى المقال الذي صدر في مجلة «مغرب»، علاوة على بعض مقتطفات أطروحة السيد العروي (الصفحتين 204و205) وكتاب السيد جوليان (الصفحتين 270-271 و352-353).
2 – يؤكد السيد الكتاني في الصفحة 7 أن هذه الصحيفة الصادرة باللغة الاسبانية طبعت بمدينة مدريد. أما السيدة أعوشار تستثني كليا جل المحاولات الصحافية التي حصلت بمدينتي سبتة ومليلية معتبرة أن «هاتين المدينتين تم احتلالهما ابتداء من القرن الخامس عشر، وعليه فإن تاريخ تطور الصحافة بمدينتي سبتة ومليلية كان مرتبطا بتطورها بإسبانيا» السيدة أعوشار، ص 18.
3 – وفي أطروحة السيدة أعوشار ص 15 نجد أن السيد الكتاني يشير إلى استمرار صدور هذه الجريدة إلى غاية سنة 1929 (الكتاني ص. 87).
4 – مجلة «مغرب» رقم 17، ص.30. من الواضح أن صاحب هذا المقال قد اكتفى بأول معلومة حصل عليها دون محاولة التساؤل عن وجود إصدارات سابقة. ومن جهة أخرى فحتى المعلومات التي يذكرها بخصوص الصحيفة التي يذكرها فهي معلومات مغلوطة. أما الكتاني فقد أدرج في كتابه نسخة طبق الأصل للصفحة الرئيسية من العدد الأول لصحيفة «المغرب الأقصى». ومنه نستنتج أن العنوان لم يكن يصدر فقط باللغة الإنجليزية بل باللغة الاسبانية كذلك وأن هذا الإصدار الأول لم يكن سنة 1887 بل سنة 1883 وبالتحديد يوم 28 يناير.
5 – السيدة إهراي أعوشار، الصحفة 3.
6 – المرجع نفسه، الصفحة 15
7 – من بين كل هذه الصحف التي أصدرت – إذ كانت أولها «إظهار الحق» بطنجة سنة 1904- يعد «لسان المغرب»، الذي أصدره في فبراير 1907 الإخوة نمور المنحدرين من مدينة يافا،الأشهر بلا شك، إذ تميزت سنة 1908 بنشر مشروع دستور طالبت من خلاله أولى الحركات الوطنية بإرساء نظام ملكي دستوري برلماني، (الكتاني ص 161 وما يليها، وعبد لله العروي، ص 381 وما يليها).
أ. جمال الدين ناجي
أستاذ باحث سابق بالمعهد
العالي للإعلام والاتصال
رئيس الشبكة الدولية لكراسي
اليونسكو الجامعية وللمنتسبين
في مجال الاتصال
منسق ومؤلف تقارير «الحوار الوطني
حول الاعلام والمجتمع»
مدير عام الهيأة العليا
للاتصال السمعي البصري

الكاتب : جمال الدين الناجي - بتاريخ : 15/11/2018

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *