«النظر إلى بحيرة القلب» القصة تصرخ: الناقص جنتنا

ذ. سعيد منتسب

«ثم فتح الكتاب

وأمسكه أمامي
وكم أدهشني أنني فجأة عميت».
لابد أن تكون «بحيرة القلب» مكتنزة بالأجساد المعذبة للقصص، لتلك القصص التي تلقى في وجه الريح عن عمد لتتهجى مصيرها، كأنها تصرخ عاليا: «الناقص جنتنا»، فيما القاص ينحني مرغما ليلتقط من جوفها زهرة واحدة، ليشعر بالدفء.
القاص يدرك أن تلك الزهرة لن ترفع نفسها من الأرض لتلتئم بغصنها مرة ثانية. هذا هو «المعراج» الذي تنكسر أمامه كل الإرادات، على ارتفاع ساحق، وعلى علو خفيض. المعراج القمة. المعراج الزبد. الذي يريد أن يسمع خبره في الأزمنة الآتية. الكمان المعلق. المتراخي الأوتار. الذي يتعذب لخسارته للموسيقى.
إنها استعارة حادة البصر تلك التي يصنعها القاص أحمد بوزفور بمعراجه حين يقرنه بكمان أناييس نن المعلق. المعراج هو تلك الموسيقى التي تتخفى في تلك أوتار الكمان الرخوة التي يعزف عليها القاص في خياله، ويصغي إليها بروحه التي تتعذب باستمرار، ودون توقف. المعراج هو «الفشل» المغروز كشفرة إسفين في الخاصرة، هو الناقص الذي يدوم إلى الأبد، هو ما لم يأت به أحد من قبل، هو فتنة الاقتراب من الله، من ذلك الغرق اللذيذ في السماوات السبع، بظلالها وأجنحتها وأنبيائها وشياطينها، من الكوثر المحفوف بالدر المجوف، من القصة التي تسبح في البحيرة بغبطة، دون أن تهتم بالماء المتطحلب.
إن قصة «المعراج» التي ظل الكاتب (أو يدعي ذلك!) يكتبها منذ أربعين سنة، ولم ينجح في إكمالها قط، هي « أفقي الذي يفتنني ويجذبني. وكل ما كتبته حتى الآن صور سلبية منها. وهي الثدي الذي أرضع منه الرغبة الحارقة في الكتابة، والجرأة الصفيقة عليها.. وأحيانا موضوعة أو بداية أو صورة أو فكرة أو حتى كلمة. وهي الناقد الصارم الذي يوجهني ويقومني ويسخر مني، وإن كنت أتمرد عليه بين الحين والحين.. ولولا هذا التمرد المتردد ما نشرت شيئا على الإطلاق. وأخيرا، فهي التي تنهنه من غروري.. فكلما راقني شيء مما كتبت أو أطربني إعجاب قارئ أو ناقد به.. نظرت إلى كماني المعلق فخجلت وتطامنت وغضضت طرفي النميري» (ص: 49).
هذا هو «مانيفستو القصة» كما يقترحه علينا أحمد بوزفور بإتقان. إنه يعلو فوق السحاب، بينما تشحذ الشمس أسنانها على أجنحته، فينزل ثم يصعد ولا ييأس. يكتب ويمحو ويقرأ وينقد ويستمتع بالحياكة ويفك الخيوط ويركبها إلى ما لانهاية. هذا هو المعراج الذي ظل يصنعه في كل نصوصه القصصية والنقدية، منذ «النظر في الوجه العزيز» (1983)، «الغابر الظاهر»؛ (1987)؛ «صياد النعام» (1993)؛ «قنقس» (2007)؛ «نافذة على الداخل» (2013)، دون أن ننسى «الزرافة المشتعلة» (2000) و»قالت نملة» (2010).
إنه يصغي للقصص من خلال متاهة من السبل المتشعبة. يواصل الحفر والقطف وشرب الماء المالح ولعب الشطرنج على طريقة إله الحرب، «متقلب هاو وتجريبي» و»يحس أنه يبدأ مع كل نص جديد يكتبه» (ص: 41)، لكنه واع أتم الوعي بكعوب أخيل في تجربته»:
القصة مدرسة لغة، ونحن كلنا تلاميذ في صفوفها الأولى» (ص: 43).
«القصة فن مضنون به على غير أهله. ولكي نتأهل.. علينا أن نستقطر هذه المعرفة الزناد: معرفة النار من كل ما قرأناه أو عشناه أو تخيلناه» (ص 44).
«كل نص أكتبه يعمق إحساسي بأهمية الشكل الجمالي: أهمية استقلال النص وتعالق أجزائه، أهمية أن نقسو أحيانا على كلماتنا/ بناتنا لكي نربيهن، أن نتصرف معها بالتعديل والتغيير والشطب والإصافة والرفع والوضع حتى ينهكها الغبار والعرق والتعب. لأن ذلك هو ما يجعل القصة فنا، هو منبع المتعة الجمالية التي تفيض علينا في بعض النصوص الجمالية، حتى نحس ونحن نقرأها أننا عراة نستحم، ونحس ونحن ننهيها أننا آخرون، وأننا جدد، وأننا مشرقون كسماء غب المطر» (ص46- 45).
إننا ندرك ونحن نخطو في «أرض التأملات» أننا أمام تجربة كاملة تتكلم لتعلم، ولتجعل «أخيل» نفسه يرتجف أمام هاوية (اللغة، المعرفة، البناء). إنها كعوبه التي يخشى أن تطعن غدرا فيموت ويرثى؛ وهي تجربة لا يمكن أن يستوعبها إلا كاتب تجريبي قوي الشكيمة، وافر العدة والعتاد والعدد، ذاك الذي يدرك أن «الهوية التي نبحث عنها نهر إغريقي لا نسبح فيه مرتين»، وذاك الذي يعتبر أن «التجريب يحقق أهدافه هو لا أهداف الكاتب، وأنه يخلق نصوصا جديدة تماما تفاجئ الكاتب نفسه»، أنه «يحرضنا على أن نخط ونبرمج ونثور ونغامر، ثم ننتهي إلى نهايات أخرى غير ما خططنا له». وذاك الذي يرى أن «التجريب خطوة ثانية، ولا يمكنه إطلاقا أن يكون خطوة أولى»، وأنه «تدريب يستمر طوال الحياة».
إن أي تجريب غير متحيز لعدم النضج داخل الإطارات النظرية والنقدية السابقة على النص، بوسعه الانتماء بجدارة إلى «أشكال التخريب في القصة» (ص 25).
والتخريب في القصة يترسب في الاهتمام الضرير بالكاتب بدل الكتاب، وبالشفوي بدل المكتوب، وبالميتاقصة بدل القصة، وبالخارج بدل الداخل، وباللقاءات والإلقاءات بدل الكتابة والقراءة. تلك هي الأوتاد التي تشد القصة إلى «أرض الخراب» بدل أن تطير إلى المعراج، إلى تلك الموسيقى التي تلاحقها صور وخيالات خارج التوقع، وقريبا جدا من «الشيء الشعري» الذي لا يموت. «الماء الأزرق الذي لا قرار له». «القماش الأبيض المطرز فوق مائدة الرب». لأنه يكتب بأداة خفية لا ترى، بالإيقاع، وبالرائحة، وبالاعتراض على التشاكل والتشابه.
وإذا كان كتاب «النظر إلى بحيرة القلب» يكاد يخبرنا بأن «القاص هو التائه الأكبر»، لأنه لا يتوقف عن «استنطاق» البذور والأشياء والإطارات والنصوص، ولا يتنفس إلا حين يكتب أو يقرأ، وحين يغزل وينكث، وحين ينظر إلى ما تصنعه يداه كمخلوق أسطوري رهيب. القاص هو فرانكنشتاين الذي يعي أن «المسخ قد يستدل على صاحبه، فلا يتوقف عن العمل بمقدار من الخفة التي لا تطرب. يعمل لأنه مسكون بالكمال، وبتلك التجربة الشخصية التي تجعله يجرب كل الأشكال طولا وعرضا، وكل «المشارط» والمباضع وأدوات التمزيق والرتق وأكياس الدم. القاص هو فرانكنشتاين الذي أدرك أن «الخلق» فعل جمالي حر، لا قواعد له، ولا نماذج، ولا أساتذة، ويتشكل لدى كل كاتب، وفي كل نص بشكل مختلف».

*كلمة تقديمية ألقيتها في لقاء احتفائي بكتاب «النظر الى بحيرة القلب» لسي احمد بوزفور من طرف محترف التلقي المسرحي

الكاتب : ذ. سعيد منتسب - بتاريخ : 05/01/2018

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *