الواقع وعمى القلب والعقل …

بقلم : مصطفى المتوكل

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ). سورة الحج

يقال عن اليمن إنها (بلد الإيمان والحكمة) ، ويقال عن الشرق الأوسط ومحيطه بأنه مهد الحضارات ومهبط الوحي الإلهي ..أي ان كل أشكال الحكمة وأساس المعارف والعلوم الفكرية النظرية والروحية والفلسفية اغلب جذورها من هناك ….ومن هنا عقلا ومنطقا يفترض ان تكون الحالة اعتمادا على   المرجعيات والقواعد والحكمة  متجلية ومجسدة  في  كل شيء .. ويكون الناس هم الرابحون الفائزون فيصدق عليهم  كنتم خير امة أخرجت للناس كما قال ذلك الوحي الإلهي عن بني إسرائيل وعن النصارى وعن المسلمين .. لكن ما سجله التاريخ يناقض بشكل كارثي  ما يفترض حصوله ..وحاضرنا تتجلى فيه مفارقات لايمكن ان تقاس  بعلم الرياضيات منفردا ..حيث يجب على الجميع  تعليل غياب الحكمة والتبصر والتروي والمنطق في كل شيء ..بل يسجل وجود تفسيرات وتأويلات تصدر وفق الطلب تطال  إساءاتها  مبادئ وأهداف الديانات والعلوم والفلسفات بهدف تبرير  الواقع البئيس والظلامي والدموي والتخريبي  على انه نضال وجهاد وعمل «يتقرب» به الى الله  .. ووفق ذلك  فكل الأرواح التي أزهقت وكل العمران الذي هدم وكل الموروث الثقافي الذي عمر في هذه الأرض لآلاف السنين حتى جاء البعض من هذا  الجيل الذي لايمكن ان يكون إلا صنفا من أصناف ياجوج وماجوج الذين أحرقت بسببهم مئات الآلاف من الأشجار  ومنها  النخيل  التي لم تذكر في كل الكتب إلا بالخير والجمال والبركة والتي ذكرها القران في مواضع عدة  ..ففي العراق  وحدها  اتلف ودمر  بالحروب ثلثي النخيل الذي كان بها  أي  الملايين..ناهيك عما حصل في اليمن وسوريا ..
عن أنس مالك رضي الله عنه قال ..» ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقناع من بسر فقرأ مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة قال هي النخلة. «
ان العقل المدبر الذي يحتاجه الفرد و الأمة هو العقل الحكيم الذي لاينزلق وراء كل الرغبات والأهواء المدمرة والمغرقة في الأنانية والتعصب الأعمى ..الذي لايقبل بالأخر ولايستمع لرأيه  ويسعى  الى زواله أو إضعافه ويبدل من اجل ذلك  ماله وطاقته ويحشر الناس جميعا في مهالك حروب وفتن لايستطيع احد ان يوقفها لان حتى من يفترض فيهم ان يكونوا ضميرا للأمة أصبحوا متقمصين لادوار حمالة الحطب …
ان الإسلام دين العقل والمنطق والموضوعية والحرية والأفعال  الرشيدة التي توقر الكبير والصغير والشجر والحجر ،انه يحترم ويبني الإنسان بالارتكاز على العلم والمعرفة  والخبرة والتجربة …
ولهذا فالإنسان إما أن يجعل العقل إماما  للصالح والطيب من القول والعمل ووعاء للعلوم والمعارف يفيد ويستفيد إيجابا  …وإما  أن يجعله إماما منحرفا متهورا يتبع الأهواء والرغبات التافهة  ..ويعمل بالتعصب الأعمى ويقود نحو الضلالات فيعادي كل ما فيه خير  ولا يترك من يصلح  وفي مقابل ذلك يسعى للإفساد  في البر والبحر …
فأين العقل من كلّ هذا الذي نراه على مدار الساعة  ولعقود خلت ومازال الدمار يتغول وتمتد آثاره  إلى شرق الشرق وغرب الشرق وجنوبه وشماله  بل يعبر القارات ، وكأنه بذلك يقدم نموذجا «شيطانيا» لتعميم وإيصال وتقريب همجية ياجوج وماجوج وعبدة ائمة الضلال الى القاصي كما تحقق مع الداني ..!؟ فمن أوقد الفتن الحقيقية وزرع الخراب هناك وفي كل المناطق التي نتبرك بذكرها وبالحديث عن الأنبياء والرسل والصالحين والمفكرين والفلاسفة والفقهاء والمحدثين الذي ظهروا في احد مناطقها …؟
ان السير في الأرض  الذي دعت إليه الآية  هو من اجل العيش الكريم ومعرفة أحوال الناس وطباعهم وثقافاتهم  و من اجل العلم والتعلم ..وليس من اجل الإفساد والإساءة والترهيب للآمنين في أي بقعة من بقاع العالم وترويع سكان الأرض من هول وفظاعة ما يرتكب …
فإذا كان  السير في الأرض  ارتباطا  بالجسم يحقق  حركة التنقل من مكان الى أخر .. فانه يسير  بالعقل  من مستوى أدنى الى مستوى أفضل وأحسن  بالفكر وبالتأمل والتدبر والتعلم ..و بذلك يتحقق السماع والفهم والتعقل المقصود في الآية …أما نقيض ذلك فدليل على وجود عمى في القلب والبصيرة يحجب أنوار الحقائق ويضيع محبة المكان والزمان ويخاصم الحكمة ويقاطعها …
ان العين التي تدرك بوعي علمي وعملي ما تراه كل يوم وما تعرفه وتتعرف عليه  وتراكمه إيجابا  لأيام و أسابيع أو سنوات لتفهم  حقيقة الصورة التي ترى والمعارف التي خلصت إليها هي عين  عاقلة  رائدة …لكن من لايرى ذاته إلا بتسفيه أفكار وأعمال الآخرين ويسعى الى إلغاء  وجود المخالفين له فلن يكون إلا وجها من أوجه أسباب التخلف والجهل وتعطيل كل أشكال التطور   …
ان نور الإيمان والعلم والوجود  يجعل الإنسان متنورا  وعاقلا  وايجابيا في كل شيء . ولقد جعل التنويريون الشجاعة الهادفة بابا لتوظيف وتشغيل الإنسان  لعقله بنفسه..فلا مصلحة تتحقق بان يكون الإنسان مقصرا ولا يبني مستقبله على جعل الناس جاهلين وعاجزين عن الفهم والتمييز لإلزامهم بالاتباع الأعمى للضلالات والترهات كما اتباع الصالحات دون وعي بها بقصد التحكم ..
ان الحكمة  لاتكون الا بإحياء القلب والعقل وتنشيط الروح وتحريرها من التخلف والجهل  الفكري والسياسي والديني..
ان  هناك قلوبا في الصدور حقا  وهي مشبعة حبا ومحبة يصدر منها وعنها الخير .. واخرى ممتلئة  غلا وحقدا لامكان فيها للنور …وهم  من قال فيهم تعالى   « كلا بل ران على  قلوبهم ما كانوا يكسبون « المطففين …

إن الذين يعطلون وظيفة السماع والكلام و العقل و الفعل و الحركية المحققة للتطور والتقدم  هم رواد للظلامية ومنظرون للظلم  لايهمهم لا قال الله ولا قال رسوله بقدر مايهمهم كيف يتحكمون في الاتباع و العامة ويفعلون ما يحققون به مساعيهم لايراعون في الناس  إلاّ ولا ذمة . -»إلاّ أي قرابة»-

قال تعالى: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) * الملك
وقال  : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ)   سورة البقرة
تارودانت : الخميس 20 يوليوز 2017.

الكاتب : بقلم : مصطفى المتوكل - بتاريخ : 21/07/2017

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *