بأصوات متعددة : القـارئ  الكتـابة  ..والمـعنى

  مصطـفى غـلمان

 

أغلب الذين يقرؤون لك لا يتفكرون، وإذا تفكروا ضيقوا واسعا، وجعلوا التأويل وإسقاط تهم الغموض والتشويش على المعنى جزءا من سوء الفهم وصخرا يعلقون عليه ضعف قابليتهم وفتور تدبرهم. فهم أولى بالشرود منه إلى التلبيس والتخفي خلف اقتدارك تنغيم الأسلوب وتحميل مظان الكلام ما يمكن الشفاء به عند تلمس اللغة وخملها من المجترات والمهاوي اللقيطة.
النصوص التي لا تحلحل وتترفع عن مبارزة العقل ليست أهلا للإقامة، والعبور بها على الحبل الفارق بين جدلها من عدمه هو تقطيع لأواصر اللغة وطغيان لما يمكن أن يثير كمينا للأيديولوجيا على حساب الأدب.
أما الأسلوب فيبقى ركيزة العقل الكاتب لا يدخله شطط ولا تدليس ولا افتعال نافر، وهو الشيء الذي أكده اللغويون في أكثر من اعتبار. رولان بارت فرق بين اللغة كمعطى جماعي راسخ في الزمنية والأسلوب كرافعة فردية فيزيولوجية مؤولة للخاصية وليس غيرها.
وجوزيف كريسو يعتبر الأثر الأدبي جماع المعنى وروحه، وهو بحسب فهمه عملية تواصل يكون فيها الكاتب عنصرا فاعلا، وكلّ الجماليّة التي يدخلها ليست في نهاية المطاف سوى وسيلة لأن يكسب على نحو أوكد انخراط القارئ.
أليس حريا بالقارئ إذن أن ينتبه إلى اختيارات الكاتب وانزياحاته عن معيار أو طريقة خاصة في استعمال اللغة أو إضافة إلى أصل البنية الأسلوبية، حتى يتمكن من تحويل المقروء المفترض إلى واجهة للتحصين والاستنتاج ومراكمة النوع وتوسيع الأفكار؟ لا يسع الكاتب إلا أن يكون كما يريد عقله، فهو الوحيد المتأسس على وجوده، قبل أن تكون الكتابة نفسها طاقة فينومينولوجية إضافية. فلا تأويل خارج منطق الكتابة ولا حدود للقراءة عندما يكون النص ضروريا كما قال سارتر. بالتالي فالذات القارئة لا تستكشف فقط مادية النص وموضوعه الجمالي، بل القراءة كإبداع ثان، تنحاز للماوراء كشكل من أشكال الرؤية أو الصورة الذهنية.
يثيرني كثيرا ذلك الحيز الغامض في شخصية القارئ، بثقل نفوره وتعاليه عن النص واعتراضه على استعمالاته، دون الخضوع لوحداته العضوية. وأحيانا كثيرة التنكر لحقلي الإيحاء والاختيار قبل التقيد بعناصر التأويل وما ينتج عنها من صراعات في مسألة العلاقة التفاعلية بين النص والقارئ وبنائية النص في وعي القارئ ومفهوم القارئ الضمني وتواصل عملية القراءة بالدوران والتأويل السيروري ..إلخ.
الالتزام بالقراءة النصية أيضا لا تحسم في مسألة تأويل المقروء وإنما تسهم في إذابة الجليد القائم بين النص والقارئ، فملء الفراغات النصية يحرض على التخفيف من وطأة هذا النفوق المضمر لهامش يكون فيه الكاتب متنا مفتوحا على كل الفرضيات وعالما بوهيميا جديرا بالفهم والتحرر من الأنساق القطعية وعلامات الشحن اللغوي.
وأعتقد جازما أن المتاهة تجرف سيلا عرمرما من خيالات القارئ، في الاتجاه الذي يصير معه الفهم الخاطئ والتأويل الفاضح جزءا لا يتجزأ من سوء القراءة، أو فشل عملية التلقي، بما هي انحياز لتأويل ما لا يؤول والتعويل على ما لايعول عليه.
ولا يمكن تعطيل روح النص ولا التأثير في مكامن سوقه وتضمينه، بل القارئ تلك الروح التي تقيم بين ضفتيه، تكابر فيه لأجل تحقق ما تسميه الفلسفة التأملية في المجال النيوروبيولوجي بتجسيد تجربة علم اللغة كجذر نظامي في العلوم الطبيعية البيولوجية.
أخيرا، أيها القارئ إذا كنت تقرأني فإنك تقرأني وإذا كنت لا تقرأني فإنك كفيل بفهمك التحجج بالقراءة دون إدراكها. إذ ليس ضروريا أن تكون أنا وأكون أنت. المهم أن تجهد نفسك لمعاقرة شيء من التفكير وغمرة من التأمل، فهناك توجد القدرة السائغة على نفض الغبار وتحويل الكلمات إلى ضوء يجاهد بتلذذ الخروج من فم سمكة سوداء.

 

الكاتب :   مصطـفى غـلمان - بتاريخ : 19/04/2017

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *