بالصدى … «نقمة» الطب

وحيد مبارك wahid.abouamine@gmail.com

الطب بكل تأكيد هو نعمة، فقد أمكن بفضل هذا العلم وبفضل مهنة التطبيب النبيلة ضمان إنقاذ الأرواح، ومعالجة الأسقام والتخفيف من الآلام، فلولا الطب والدواء لما استمرت البشرية بفعل الأوبئة الكثيرة التي تعاقبت، التي منها من انقرض، ومنها الذي نكتشفه لأول مرة بين الفينة والأخرى، ومنها من يعود تارة ليذكرنا بزمن مضى.

الطب هو نعمة معنوية كذلك بالنسبة للأطباء الذين يؤدون واجبهم بضمير مهني خالص، الذين يرتاحون نفسيا ويُسرّون ويبتهجون وهم يعالجون مرضى، فينقذون أرواحا بفضل تدخلاتهم الجراحية المعقدة، وهم يزرعون عضوا، وييسرون مجرى دم في القلب ويغيرون صمامات، ويعيدون بصرا أو بعضا منه، يشعرون بالغبطة وهم يساهمون في قدوم مواليد جدد وينقذون حوامل من براثن الموت، وينتشون وهم يرون الابتسامة تطبع على شفاه وقسمات وجوه مرضى وأهاليهم، أكيد أنه في هذه الحالات نكون أمام نعمة يتقاسمها الجميع، دون إغفال نعمة أخرى هي مادية بكل تأكيد، بالنظر إلى أن هذه المهنة ضمنت للبعض العيش بكرامة، وأكسبت عددا آخر من المهنيين ثروة محترمة جنّبتهم شقاء العيش وعبّدت لهم الطرق أمام نعم الحياة.
لكن إلى جانب هذه النعم وأخرى لم نستعرضها، وهي كثيرة بكل تأكيد، فإنه يمكن لهذه المهنة أن تكون نقمة بكل أسف، على ممارسها، ليس الذي لا يحترم أخلاقيات مهنته، وإنما حتى المثالي الشغوف بها، الذي حلم بمزاولتها منذ صغره واجتهد وتكبّد المشاق لتحقيق حلمه ومبتغاه، فإذا بالحلم يتحول يوما إلى كابوس مروّع، يتمنى في كل لحظة أن يستفيق منه دون أن يتمكّن من ذلك. حقيقة مؤلمة ومؤسفة، قد تساهم عدد من الممارسات والمسلكيات، الرسمية والإدارية وغيرهما كذلك في أن تصبح واقعا مريرا، هذه الحقيقة التي جعلت الكثير من الأطباء المغاربة يفضلون البقاء في الخارج والعمل بدول أخرى عوض تسخير كفاءتهم لفائدة وطنهم ومواطنيهم، ودفعت أطباء آخرين إلى تقديم استقالاتهم، وأجبرت آخرين على التوجه للمحاكم طلبا لـ «طلاق» مع وزارة الصحة بسبب سوء معاملة، وتعذر مواصلة المسار فرغبوا في فراق بسبب «شقاق»، قد يراه البعض تنصلا من المسؤولية وعقوقا ضد الوطن والمرضى من المواطنين، خاصة المعوزين الذين لا حيلة لهم لطرق أبواب القطاع الخاص، وقد يتفهّمه البعض ولو كان معدودا على رؤوس الأصابع.
حالات تحول مهنة الطب إلى نقمة، هي كثيرة وإن كانت ليست كلها ملموسة وبادية للعيان، لكنها موجودة فعلا، ومنها حالة طبيبة اتصلت بي هاتفيا يوم الأحد، وكلمتني لندة ليست بالهينة بدون انقطاع وكأنها تعرفني منذ زمن، كلمتني بكثير من الانفعال، وسردت لي خلال مكالمتها وهي تذرف الدمع، كيف كانت تسابق الأيام لتصبح طبيبة، وهي التي كانت تحلم بأن تكون مختصة في أمراض النساء والتوليد، فتخفف من آلام النساء وتساهم في أن يعشن الأمومة ويشعرن بها، طبيبة حصلت على شهادة الدكتوراة من الجزائر، ومارست الطب العام بمركز صحي بالرباط منذ سنة 1999، ولأن حلمها بأن تكون طبيبة نساء وتوليد كان كبيرا فقد سعت لتحقيق ذلك، رغم التحذيرات التي لقيتها، واعتقدت بأن عرفا يُعمل به سيحميها، وهي المتزوجة التي لها 3 أطفال، هذا العرف الذي يقضي بأن الطبيبة المتزوجة يكون مقر عملها داخل نطاق 100 كيلومتر من مسكنها، حرصا على وحدة أسرتها، الأمر الذي ضُرب به عرض الحائط على عهد الوزيرة ياسمينة بادو، تؤكد الطبيبة، التي وجدت نفسها أمام قرار تعيين بميدلت، الذي تعذّر عليها بسبب ظروفها العائلية وعمر أطفالها أن تمتثل له، فحررت ضدها محاضر بعدم الالتحاق، ووجدت نفسها أمام عقوبات بدون أجرة، فطلبت أن تستقيل نتيجة لعدم تفهّم وضعها الأسري، ولم يتم تمكينها من ذلك، بالمقابل عانت مشاكل عائلية متعددة افضت إلى طلاقها من زوجها، مما ساهم في ان تعيش أزمة نفسية عميقة.
قصة الطبيبة لم تنته عند هذا الحدّ، إذ جرى تعيينها هذه المرة بتيفلت، وعملت بمستشفى المنطقة لمدة 4 سنوات، تؤكد أنها لم تمارس خلالها اختصاصها ولم تتمكن من إجراء ولو عملية جراحية واحدة، وذلك بسبب غياب شروط العمل، وافتقاد المستشفى للتجهيزات الطبية الضرورية، فكانت تقف عاجزة عن التدخل أمام حالات مرضية كثيرة لنساء، لم تتمكن أمام توسلاتهن من أن تقدّم لهن شيئا أو أن تخفف من معاناتهن، الأمر الذي زاد من أزمتها النفسية وفاقم وضعيتها المرضية، تؤكد الطبيبة في مكالمتها المتواصلة التي كانت الدموع وحدها توقفها بين الفينة والأخرى، وظلت على تلك الحالة إلا أن تمكنت من الانتقال إلى الدارالبيضاء في إطار عملية تبادل مع طبيب آخر، فحطّت الرحال بالعاصمة الاقتصادية بعد أن أنهكها المرض وأرهقها الزمن وتحطّمت أسرتها، ولم يعد لها أمل أو أفق، وفقا لما يستشفّ من حديثها، الطبيبة التي أنهت مدة العقدة التي تربطها بوزارة الصحة، والتي اشتغلت لمدة 15 سنة وليس فقط 8 سنوات، ولا ترغب في شيء سوى في الحصول على «حريتها» وفقا لتعبيرها، بعد أن رُفضت استقالتها، واضطرت إلى طرق أبواب القضاء الذي أنصفها ابتدائيا لكن في مرحلة الاستئناف تم رفض طلبها، لتجد نفسها «أمة» وفقا لتعبيرها، مجبرة على القيام بعمل هي لا ترغب في فعله، وتؤكد أنها في سن 49 سنة، سُدّت في وجهها كل الأبواب وتعيش اليوم سجينة مرضها النفسي، وهي التي لا تعرف القيام بأي عمل آخر، وكانت ضحية لطموحها في خدمة نساء بلدها، في الوقت الذي كان من الممكن أن تواصل عملها بكل أريحية بالرباط لو ظلت طبيبة عامة، إذ لما عاشت تلك المعاناة ولما ترتّب عنها تلك التداعيات!
قصة إلى جانب قصص أخرى كثيرة أتوصل بمضامينها بين الفينة والأخرى، والتي تؤكد على أن هذه المهنة النبيلة، بنعمها المتعددة هي تحولت إلى نقمة بالنسبة لبعض الأطباء، الذين أصبحوا يفضلون الابتعاد عنها بشكل نهائي، ليس بسبب المهنة ف يحد ذاتها، ولكن نتيجة لمسلكيات وممارسات، يشددون على أنها تُقبر كل ما هو إنساني في التعامل معهم؟

الكاتب : وحيد مبارك wahid.abouamine@gmail.com - بتاريخ : 06/11/2018

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *