تجمل وطني تجمل

بديعة الراضي

استوقفتني الكثير من الإشارات الهامة والاستراتيجية، التي جاءت في الخطاب الملكي أمام مجلسي البرلمان، ماأعتبره استكمالا لسلسلة خطابات، حرص ملك البلاد، أن يجعل منها خطابات موضوعاتية، تكمل بعضها البعض، مما يملي علينا وبشكل طبيعي، في مسلسل الفهم بالقراءة العالمة، أن نكون مطلعين على كافة نصوصها وسلسلة أرقامها، لنكتشف ونحن نعمل على ذلك، أننا أمام خطاب شامل مقسم على مراحل، يشكل كل جزء فيه مساءلة لأوضاع مجتمعية، تمس كافة الجوانب، في وطن يقع في محيط إقليمي وجهوي دائم التحول والتعقيد.
وطن يجر تاريخا عميقا في العمل المؤسساتي على مستوى الدولة والمجتمع، كما يجر ذاكرته، التي عمل المغاربة على استيعابها،وقراءتها،ووضعها في مراحلها، بمنطق توظيفها، بما فيه مصلحة البلاد، رغم كل التحديات والانزلاقات، التي لم تستطع أن تنال من قوة الإرادة الفعلية في التوجه إلى المستقبل.
وهي الإشارات التي جعلت، في عمق انشغالاتها، الملف الاجتماعي، المقرون بضرورة معالجة تداعياته على المواطن المغربي في كافة المجالات، وفي مقدمتها الصحة والتشغيل والتضامن بنفس «التمغرابيت».
كما هي الإشارات، التي حرص ملك البلاد، أن ينبه، في خطاب توجيهي للحكومة والبرلمان والمجتمع، إلى منطلق الإصلاح فيها ، والممثل في الجانب التشريعي الكفيل بإيجاد المساطر التي بإمكانها تسهيل ممراته.
وهو الدور المنوط بالسلطتين التنفيذية والتشريعية، بالتعاون الفعلي للعمل على ذلك، و بالإبداع الذي ينبغي أن يكون،وبالابتكار الذي توظف فيه الثقافة والفكر والإطلاع عن قرب على مختلف العراقيل، التي حالت دون بروز التقدم، الذي أحرزه المغرب في مجالات اقتصادية، والذي لم ينعكس إيجابا على المجتمع، بل ساهم في كثير من الأحيان في توسيع الفوارق الطبقية، وأثقل كاهل المواطنين بالديون، وشرد عمالا ، وأغلق مقاولات صغيرة، وضرب المتوسطة منها، وذلك ما لمسناه بالفعل في الفترة، التي قادها عبد الإله بنكيران، بكثير من العبث، الذي انتقدناه في حينه، من موقع المسؤولية التي تلزمنا بقول الحقيقة كل الحقيقة للشعب المغربي.
وهو المدخل الذي يدفعني -قرائي الأعزاء- لأن أتوقف عند العمل السياسي الحزبي، الذي أعاد ملك البلاد الاعتبار له، بإشارة صريحة ودالة في خطاب جلالته. وهي إشارة منسجمة مع إيماننا، بأن المؤسسات الحزبية المغربية، تشكل رافعة أساسية للدفاع عن العمل المؤسساتي ، ضد كافة مظاهر العبث وتوزيع الأدوار على فضاءات عشوائية، تنبث هنا وهناك مستغلة بذلك الضعف، الذي طال العمل الحزبي في مختلف تمظهراته، أمام التحولات المتسارعة المجتمعية منها، في وطن منفتح على عالم منعكس في شاشات مقرونة بصحون مثبتة بعناية في كافة بيوتنا في المركز والهامش، كما مواقع التواصل التي تقفز بشكل متسارع إلى عيوننا، وعيون الملايين من شاباتنا وشبابنا.
وهو المشهد الذي لا يعنينا وحدنا في المغرب، بل يعني كافة الأوطان حتى المتقدمة منها، لكن حرص جلالة الملك على إعادة الاعتبار للعمل السياسي،بالقول :» …وإننا حريصون على مواكبة الهيئات السياسية، وتحفيزها على تجديد أساليب عملها، بما يساهم في الرفع من مستوى الأداء الحزبي، ومن جودة التشريعات والسياسات العمومية.
لذا، ندعو للرفع من الدعم العمومي للأحزاب، مع تخصيص جزء منه لفائدة الكفاءات التي توظفها، في مجالات التفكير والتحليل والابتكار..». هو حرص يؤكد مرة أخرى، أن المغرب الذي واجه كافة الرياح الآتية من الشرق والغرب، ومن الشمال والجنوب، هو المغرب الذي ينتج سياسته، ويعي جيدا حجم قوة مرتكزاته ، وهو المغرب الذي أسست أحزابه الوطنية والديمقراطية على قاعدة صلبة، لها منطلقاتها في صناعة المستقبل بالعمل ومواكبة التحولات، بل الاشتغال عليها، والانشغال بها، في قلب المجتمع والدولة، بالنفس الجماعي، وبالنقاش المسؤول، وبالاختلاف، وتعزيز نقط اللقاء، الممثلة في مصلحة الوطن، بالتعبئة، والتباري الديمقراطي، لا مكان لأساليب القتل في هذه المنظومة، ولاسيف، ولا رمح ، ولا جرح، فوقي أو غائر، وحده العمل والارتباط بقضايا المواطن، التي لا تنفصل عن الدفاع عن قضايا الدولة الوطنية الحداثية، كفيل بوضعك في المقدمة أو في الصفوف الخلفية، في مشهد حزبي يعي ما معنى التداول على مراكز القرار، بالمغرب الذي ينبغي أن يكون، مغربا منسجما مع منطلقاته ومساره في البناء الديمقراطي المؤسساتي. وهي إذن إشارة ملك، جريئة وعالمة في إعادة الاعتبار للعمل السياسي.
في هذا الصدد، أستسمحكم قرائي في القول ، إنها إشارة جعلت ذاكرتي تستحضر وبقوة، كل تلك الأصوات التي عملت، في الزمن غير البعيد من ماض ودعناه-وكأنها مكلفة بمهمة- بنباحها عبر مختلف الواجهات الإعلامية من داخل الوطن وخارجه، على الإعلان عن موت الأحزاب السياسية الوطنية الديمقراطية، وفي مقدمتها الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. والغريب أن ذلك، تم بموازاة مع الإعلان الفعلي عن قطع الرؤوس في الجوار غير البعيد بإسم مفاهيم نبيلة، دافعنا عنها في منظومتنا الفكرية والعقائدية والمتعلقة بالعدل والكرامة والحرية.
هي إشارات ملك، تدعو اليوم بكل تبصر وحكمة، الأحزاب السياسية إلى التوجه للمستقبل بعمل يعي كافة التحولات،ويعي قبل كل شيء دوره الاستراتيجي فيها، بأساليب في حجم المسؤولية الثقيلة والنبيلة، التي تتحملها، للمساهمة الفعلية في دينامية الإصلاح، التي يعرفها المغرب.
وهي إشارات، غير منسجمة مع «العدمية» ، كما هي غير منسجمة مع من جعلوا من العمل الحزبي بوابة لنشر ثقافة التيئيس، بلغة الموت للمسار الذي رسخ ثقافة الأمل في إحراز المكاسب تباعا في البناء الديمقراطي، وبناء الدولة الحديثة، دولة العدل والمساواة والتضامن الفعلي، في وطن شبيه بمدينة عتيقة تحافظ على خصوصيتها وتتجمل في دواخلها لينعكس جمالها على محياها في درب الوطن. تجمل وطني تجمل..

الكاتب : بديعة الراضي - بتاريخ : 15/10/2018

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *