من وحي شهر رمضان: أين نحن من أول أمر إلهي «إقرأ باسم ربك…»؟

مصطفي المتوكل

يقول تعالى: (شهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ..) سورة البقرة.
(إقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ إقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) سورة العلق.
إن أكبر ثروة يتم إهدارها عبثا  هي ترك الناس عرضة للجهل والتخلف والأمية وضعف في الوعي  بعدم اعتبار العلم والمعرفة الغاية والأهمية الأولى للأفراد والجماعات والأمم ، باعتباره الطريق الوحيدة للتقدم والتطور وبناء حضارة مستدامة التنمية والاستقرار والعدالة الشاملة والمساواة والتضامن المنصف..
ولهذا عندما أصبحت البشرية مؤهلة لتكون قادرة على  التمييز وتحمل المسؤولية،  ومهيأة لتراكم الخبرات والتجارب واكتشاف عوالمها ، وتطوير مستويات معرفتها،  أنزلت وبلغت إليهم  الرسالات السماوية ليعلموا ويتعلموا  ما لم يعلم به من  لم يبعث فيهم نبي رسول، لكنهم  اجتهدوا وصاغوا  أفكارهم وقناعاتهم  وطوروا تجاربهم  وبنوا  نظريات  ومعتقدات منها ما وصل درجات كبيرة من التميز  حققوا به  طفرات هامة في سلم تطور العلوم والحضارات والإبداع الإنساني ..
فعدما اختار لله آدم عليه السلام    كما قال تعالى : «إِنَّ للَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ..» سورة آل عمران .. وقال: «..وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ…» سورة البقرة ..علمه  من المعارف ما يحتاجه أول نبي في  حياته وفي علاقته مع ربه ونفسه ومحيطه، وكذلك  كان الأمر مع الأنبياء الذين كان مدخلهم لعالم الرسالات التعليم والتبليغ الحكيم واكتساب مفاتيح معارف زمانهم وأسئلة راهنهم المجتمعية والفكرية والوجودية، فكان أول عملهم تكوين وتعليم وتأطير نخب ستشكل مدارس ومنارات متنقلة توصل الرسائل الدينية والتنظيمية والأخلاقية والقانونية لمعتنقي الدين وأتباعهم  مجسدين  أهم  صور التبشير  التعريفية والاستقطابية للملل الأخرى…
إن كل الرسالات السماوية حسب الروايات  نزلت  في شهر رمضان، وأنها  جاءت لتواكب وتراعي  مستويات التعلم عند المخاطبين والمخاطبات، ومتطلبات تنظيم وتنقيح وترشيد عاداتهم وتقاليدهم وتصحيح معتقداتهم ونقلهم من مرحلة ماقبل الإيمان إلى مرحلة تجسد الأخلاق الإيمانية في السلوك والعلاقات المختلفة والسمو بالفكر …
قال رسول لله (ص): («أُنْزِلَتْ صُحُف إِبْرَاهِيمَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ. وَأَنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ لسِتٍّ مَضَين مِنْ رَمَضَانَ، وَالْإِنْجِيلُ لِثَلَاثَ عَشَرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ») مسند الإمام أحمد ابن حنبل.
إن الرسالة المحمدية  ابتدأت بإصدار الأمر المستمر والمتجدد بقراءة وتعلم  الإنسان بما يقتضيه ذلك من إعمال العقل  والتأمل والتدبر والاجتهاد المبدع والمستخرج والمكتشف لقوانين الوجود والتطور، والمغذي للمعرفة والموثق لها بكل فنون الكتابة حيث كان أول ما نزل  من القرآن الكريم هوله تعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) سورة العلق..

 

إن الأسئلة الأولى التي تولد أخرى كبرى ومتجددة  والتي شغلت البشر والمفكرين والأنبياء، أي مسألة وموضوع الخلق والغاية من وجودنا كبشر، وما الذي يجب علينا عمله  مع ما يتطلبه الأمر من تأمل  و بحث لتقديم  إجابات روحية ومادية وعقلية ..؟  تحقق بفضل العلم والتعلم وإبداع واجتهاد محبي المعرفة والحكمة والحق من الأنبياء والرسل والعلماء والمفكرين والصالحين والخيرين، فنتج عن ذلك تكامل وتلاقح فكري بين الشرائع السماوية والوضعية، وبين الفكر الديني والفكر المادي، وكان من نتاج ذلك إجماع السماء والأرض على أن الأمية لاتقود إلا للتخلف والجهل  في القول والفهم  والعمل، وعلى أن العلم والتعلم هو باب الرقي والسمو تعلق الأمر بالأفراد أو  البشرية كافة ، فنتج عن هذا ميلاد ونشأة كل العلوم التي أصبحت تنير وتعبد الطريق لكرامة الإنسان وعلاجهم وتنميتهم واستقرارهم وازدهارهم ورفاهيتهم …
ونستحضر هنا قصة النبي موسى عليه السلام  الذي اتبع  رجلا صالحا آتاه لله علما لايعرفه  ليتعلمه منه .. قال تعالى:  (…قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً…) سورة الكهف .
إن السؤال/الإشكال المتجدد  هو أين نحن من الأمر الإلهي الأول (إقرأ) بما يحمله من حمولات معرفية وعلمية وحضارية ؟ وكيف لم نتمكن طوال القرون الماضية   من أن نكون أمة تقرأ  لكي تتجلى آثار وتأثيرات تملك مشعل العلم  في كل أفرادها وحياتها  السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية …؟
وكيف نفسر أوضاع دول العالم الإسلامي ومنها بلدنا والتي مازالت تعج بالأمية وأشباه الأميين، والحال أن المؤسسات والعمليات التعليمية والتربوية  تتعرض للتبخيس والتجريب والارتجال ..؟ وكيف لنا ونحن لم ننجح في تنفيذ الأمر الأول  أن نرقى لننفذ الأوامر الإلهية الأخرى من عدل وأمانة ومساواة وتآخ …ولنكون قولا وعملا خير أمة أخرجت للناس ، إنه ليس من الحكمة والعدل أن تكون الأمية  جاثمة على أنفاسنا وعقولنا ،ومعطلة لتنميتنا ..
قال تعالى: ( وََللَّه أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُون أُمَّهَاتكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْع وَالْأَبْصَار وَالْأَفْئِدَة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } سورة النحل
وقال تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ). سورة الزمر.
وقال رسول لله (ص):  (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) .
ومن الأقوال المأثورة عن الإمام علي (ض): « العلم خير من المال ..لأن المال تحرسه والعلم يحرسك ..والمال تفنيه النفقة والعلم يزكو على الإنفاق .. والعلم حاكم والمال محكوم عليه .. مات خازنو  المال وهم أحياء .. و العلماء باقون مابقي الدهر .. أعباؤهم مفقودة و آثارهم في القلب موجودة !!»

الكاتب : مصطفي المتوكل - بتاريخ : 01/06/2018

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *