الملكية واللامركزية… من إدارة التراب إلى حكامة المدن والجهات

د. رضوان زهرو

 

كثر الحديث عن اللاّمركزية ورهاناتها ودورها في البناء ‎‎الديمقراطي العام ‏للدولة، نظرا لتشعب مهام هذه الأخيرة وتزايد مسؤولياتها وتعدد أدوارها في ميادين التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية… ونظرا كذلك للتحولات الكبرى التي تشهدها بنياتها ومؤسساتها؛ فكان من المنطقي إذن أن يصاحب هذا التطور المتلاحق والسريع، تغييرات إدارية واسعة؛ تشمل دواليب الجهاز الإداري ووظائفه ووسائله وأساليبه.
وهكذا، تعالت الأصوات في بلادنا، من أجل تطوير نظامنا اللا مركزي، وذلك بتبني مقاربة حديثة؛ تتوخى البعدين التدبيري والحكامتي، إذ أصبح يأخد هذا النظام حيزا هاما من اهتمام المؤسسات السياسية الرسمية، وخاصة المؤسسة الملكية؛ فلا يكاد أي خطاب ملكي حول الإصلاح والتنمية، ومنذ اعتلاء جلالة الملك العرش، يخلو من الحديث عن ضرورة «… ترسيخ اللامركزية في اتجاه إفراز مجالس محلية وإقليمية وجهوية، تجمع بين ديمقراطية التكوين وعقلانية التقطيع ونجاعة وشفافية وسلامة التدبير، والتوفر على أوسع درجات الحكم الذاتي الإداري والمالي، من شأنه جعلها تنهض بعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية… « )خطاب العرش 30 يوليوز 2000) وعن ضرورة «… إعداد ميثاق وطني، لعدم التمركز؛ يتوخى إقامة نظام فعال لإدارة لا ممركزة، يشكل القطيعة مع المركزية المتحجرة؛ نظام يعتمد مقاربة ترابية، ويقوم على نقل صلاحيات مركزية، للمصالح الخارجية، وانتظامها في أقطاب تقنية جوهرية» (خطاب 6 نونبر 2008).
الأمر الذي لا يتم إلا بانخراط النخب السياسية بشكل عام، والنخبة المحلية على وجه الخصوص، وتحملها للمسؤولية كاملة، وإدراكها التام لما تواجهه عملية التنمية السياسية عموما والتنمية الترابية من تحديات ورهانات. وفي هذا الصدد، طرحت ولا زالت و بقوة إشكالية تجديد وتأهيل النخب. ولعل هذا ما أكدته المؤسسة الملكية نفسها، ومنذ البداية، حيث جاء في خطاب العرش ل 30 يوليوز2004 «… وإدراكا منا بأن أي إصلاح رهين بتأهيل الفاعلين والهيئات، فإنه ينبغي الانكباب على … تأهيل النخب للمشاركة الديمقراطية وخدمة الصالح العام، تكون صلة وصل قوية بين الدولة والمواطن … لذلك، ندعو الطبقة السياسية إلى تحمل مسؤولياتها… في تدبير الشأن العام، من خلال نخب متجاوبة مع عصرها… تجعل من الحكم القويم المحك الحقيقي لممارسة العمل السياسي بمفهومه النبيل»؛ دعوة صريحة ومباشرة، أكدها مرة أخرى الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى 62 لثورة الملك والشعب 20 غشت 2015 « وإذا كان لكل مرحلة رجالها ونساؤها، فإن الثورة التي نحن مقبلون عليها لن تكون إلا بمنتخبين صادقين؛ همهم الأول هو خدمة بلدهم، والمواطنين الذين صوتوا عليهم». و نرى أن جلالة الملك سبق و تطرق إلى هذا الأمر في 30 يوليو 2012 بقوله «… إقامة المؤسسات على أهميتها ليست غاية في حد ذاتها. كما أن النمو الاقتصادي لن يكون له أي معنى، إذا لم يؤثر في تحسين ظروف عيش المواطنين…».
وهكذا، فإن اللامركزية لم تكن في يوم من الأيام، هدفا في حد ذاتها، وإنما هي فلسفة عامة وأداة تنموية ناجعة؛ تمكن السكان المحليين من تدبير شؤونهم بشكل ديمقراطي ومستقل عن السلطة المركزية، عبر مساهمتهم في التخطيط والتوجيه ووضع الاستراتيجيات، وكذا المشاركة في صنع القرار المحلي، وذلك من خلال « ديمقراطية القرب» و» المقاربة التشاركية»؛ فاللامركزية إذن أسلوب من أساليب التنظيم الإداري، يراد بها توزيع الوظيفة الإدارية بين سلطة مركزية وهيئات الإدارية منتخبة، تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي، وتخضع في ممارسة وظيفتها لإشراف ورقابة الحكومة المركزية؛ كما أنها تتيح للكيانات الترابية مهمة تدبير شؤونها الخاصة بواسطة مجالس منتخبة، وذلك من أجل تحسين علاقة الإدارة بالمرتفقين، والذي يعتبر محورا أساسيا من محاور الإصلاح الإداري، ويرمي إلى رد الاعتبار للمرفق العمومي، والرفع من مردوديته. وقد عرفت هذه العلاقة في السنوات الأخيرة نوعا من التحسن النسبي، وذلك عن طريق مبادرات هامة، دشنت العهد الجديد، بإعطاء مفهوم جديد للسلطة، أعلن عن مضمونه جلالة الملك في خطابه بالدار البيضاء في 12 أكتوبر 1999، حين قال «… المفهوم الجديد للسلطة مبني على رعاية المصالح العمومية والشؤون المحلية والحريات الفردية والجماعية، والسهر على الأمن والاستقرار وتدبير الشأن المحلي والمحافظة على السلم الاجتماعي …».
هذا التعاقد بين المواطن والإدارة، وخاصة الإدارة المحلية، والذي ما فتئت تدعو إليه المؤسسة الملكية في أكثر من مناسبة، وتضمنه الدستور والقوانين التنظيمية، يجب أن يغدو ثقافة راسخة في التدبير اليومي، لدى الفاعل الترابي، باعتباره الآلية الكفيلة لتجاوز كل الإكراهات؛ قانونية كانت أو إدارية أو مالية… ولا يتم ذلك إلا بتبني مقاربة يتم فيها التركيز ٱساسا- في ما يخص علاقة الجماعات الترابية باللامركزية- على حكامة المدن (كأسلوب جديد لتنظيم وإدارة شؤونها بطريقة تضمن حلولا ناجعة للمشاكل التي يطرحها التطور السريع الذي تعرفه هذه الأخيرة) بذل إدارة التراب الوطني (وهي المنهجية التي تم التركيز عليها في وقت سابق، اعتبارا لضروريات مرحلة دقيقة وعصيبة من تاريخ بلادنا) مقاربة تقطع مع الأنماط التقليدية للتدبير، وتستحضر اعتماد آليات التدبير الحديث المبني على أسس الحكامة، باعتبارها رهانا سيظل يسائل رؤساء الجماعات الحضرية، ويفرض واقع الحال والمشاكل التي لازالت تعاني منها المدن المغربية، على اختلاف حجمها ووضعها وتعداد السكان بها ومخططات تنميتها وشكل النمو بها (يفرض) تأهيل الفاعل الترابي ودعم قدراته التدبيرية وخلق الشروط ا الكفيلة ببلوغ مبتغى الحكامة الجيدة والفاعلة؛ فالمواطن لا يعنيه أن تدبر أموره طبقا لقواعد اللامركزية الترابية أو من دونها، أو طبقا لأي أسلوب من أساليب هذه اللامركزية، بل هو يحتاج بالدرجة الأولى إلى تدبير يومي وجاد لشؤونه، في نطاق يراعي حقوقه ويحفظ كرامته، و يزرع لديه شعورا بالانتماء المحلي والوطني، مع ما يلزم ذلك من تحمله لمسؤولياته كاملة ومساهمته في عملية البناء والثنمية.
والجدير بالذكر، أن « المناظرات الوطنية للجماعات المحلية» التي كانت تنظمها بلادنا في وقت من الأوقات، قد شكلت في فترة سابقة إحدى الآليات والوسائل الناجعة في مجال الإصلاح الإداري وتكوين المنتخب المحلي، باعتبارها كانت فضاء مناسبا يمنح الفرصة لمختلف الفعاليات، للتشاور والتحاور وتبادل الأفكار والاقتراحات، وكذلك تقييم المنجزات وتقديم المقترحات والتوصيات، والتي كانت ترمي إلى الرفع من جودة التدبير المحلي وتحسين ظروف عيش الساكنة.
يعتبر المغرب من الدول التي راهنت ومنذ السنوات الأولى من الاستقلال، على الخيار اللامركزي كأسلوب من أساليب التنظيم الإداري، حيث إن صدور ظهير 21 يونيو 1960 حول الجماعات المحلية، يعتبر لبنة أولى وأساسية للبنية الحقيقية للجماعات المحلية، بعد المحاولة التي جاء بها ظهير 1916 في عهد الحماية. وفي 30 شتنبر 1976، صدر الظهير المتعلق بالنظام الجماعي، والذي شكل منعطفا هاما في تاريخ اللامركزية الإدارية، إذ وسع من اختصاصات المجالس الجماعية و أناط برؤسائها مهام جديدة، إلا أنه بالرغم من كونه قد شكل الانطلاقة الحقيقية للنظام اللامركزي، فقد أصبح غير كاف، من حيث مجال تطبيقه، مما جعل التفكير في توسيعه إلى مستوى الجهة يتزايد بحدة. وهكذا، صدر ظهير 2 أبريل 1997 المنظم للجهات، ثم أعقبه القانون رقم 78.00 المتعلق بالميثاق الجماعي، وكذلك القانون رقم 79:00 المتعلق بالعمالات والأقاليم. وجاء دستور 2011، ليؤسس لتنظيم ترابي لا مركزي جديد، أعقبته القوانين التنظيمية الثلات؛ المتعلقة بالجهات رقم 111.14 و بالعمالات والأقاليم رقم 112.14 وبالجماعات الترابية رقم 113.14.
وهكذا، شهدت وظائف اللامركزية وتقنيات تنظيمها تطورا تدريجيا، مكن بلادنا من أن تراكم تجربة كبيرة – خاصة على ‏المستوى الإداري- سمحت لها مع مرور الوقت بتعميق الاستقلال الإداري والمالي للجماعات الترابية، بالشكل الذي يمكنها من الموارد اللازمة، لجعل القرار الترابي أمرا ممكنا. كما شرع المغرب مند بداية التسعينات في إرساء إصلاحات سياسية ومؤسساتية، يرجع إليها الفضل اليوم في تبوئ موضوع الحكامة مكانة الصدارة في النقاش الدائر حول الديمقراطية والتنمية. إن بلادنا، وهي تعمل على اعتماد أدوات الحكامة الجيدة وآليات الديمقراطية التشاركية، تحاول رفع التحديات الكبرى التي تواجهها اليوم والاستجابة لمتطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية …
إن الإطار القانوني المنظم للإدارات اللامركزية، وخاصة الجماعات الترابية، كان يركز دائما على عنصر التمثيلية التي تمارسها المجالس المنبثقة عن الانتخابات؛ فكانت هذه التمثيلية هي الوسيلة الوحيدة المتاحة لخدمة المصالح الجماعية، في حين تم إغفال مشاركة المواطنين في التدبير الجماعي.
من هذا المنطلق، فإن التجربة التي عاشها المغرب في مجال اللامركزية، قد أظهرت عدة اختلالات بين الأهداف المتوخاة والنتائج المحققة، لذلك أصبح لزاما إشراك المواطنين في تدبير الشأن المحلي؛ فالانفتاح التدبيري، وفقا لمنهج الديمقراطية التشاركية، يساهم في شفافية وعقلنة إدارة الموارد المحلية المتاحة، وكذا الحفاظ عليها وتنميتها وحسن استغلالها. وبهذا المنظور، يمكن تطوير الإدارة التنموية؛ من إدارة تدبيرية محاصرة بالحدود والإجراءات القانونية والمسطرية والأجهزة الإدارية، إلى إدارة تشاركية منفتحة على كل المتغيرات، وذلك من أجل تحسين الظروف العامة للساكنة المحلية وتحسين مناخ الأعمال بالنسبة للمستثمرين، محليين وأجانب.
ووعيا منه برهان الاستثمار ودوره الكبير في تحقيق التنمية، كان الحسن الثاني رحمه الله قد ألح على ضرورة إقامة علاقة تواصلية بين الإدارة المحلية والمستثمرين، من خلال الرسالة الملكية التي بعث بها إلى المؤتمر الدولي الواحد والعشرين للعلوم الإدارية المنعقد بمراكش في تاريخ 24 إلى 28 يوليوز 1989، والتي جاء فيها: «… إن إدارتنا إدارة عصرية، من حيث هياكلها وتنظيماتها وتوفرها على أطر كفأة، إلا أنها تعرف كباقي الإدارات في العالم اتجاها بيروقراطيا، يتميز بالبطء في اتخاذ القرارات وبتعقيد المساطر الإدارية. هذا التعقيد في المساطر والبطء الإداري، يقفان حجرة عثرة في وجه المستثمرين المغاربة والأجانب، ويشكل بالتالي عقبة كأداء في وجه التنمية الاقتصادية في البلاد؛ وبهدف وضع حد لهذه الوضعية، جاءت رسالتنا مؤخرا إلى وزيرنا الأول كمنطلق لتبسيط المساطر الإدارية في مجال الاستثمارات، حيث أصدرنا أمرنا باعتبار كل ملف استثماري لم تقم الإدارة بالبث فيه خلال أجل شهرين ابتداء من تاريخ وضعه، ملفا مقبولا…». لكن هذه الدعوة من أعلى سلطة في البلاد آنذاك، لم يتم تجسيدها على أرض الواقع، بحيث استمرت الإدارة إلى اليوم في إعاقة الإقلاع الاقتصادي، بحيث حالت الإكراهات الإدارية دون الإقبال المنشود، من جانب الرأسمال الأجنبي على الاستثمار في المغرب، على الرغم من إجراءات التحفيز والتشجيع التي جاء بها ميثاق الاستثمار رقم 18-95 الصادر سنة 1995.
لقد احتل رهان الجهوية مكانة هامة وورشا مركزيا بالنسبة للمؤسسة الملكية في عهدها الجديد، في وقت ظل تعامل الأحزاب السياسية مع هذا الرهان، يتسم إلى حد كبير، بالتردد والارتباك، إلى درجة أن غالبيتها لم تتحرك لمناقشة المشروع الجهوي إلا بعد أن طلبت منها اللجنة الملكية الاستشارية ذلك، مباشرة عقب خطاب تنصيبها من طرف جلالة الملك، مقابل اكتفاء بعضها الآخر بطرح تصورات أولية ومتناثرة وغير ذي أهمية، فضلا عن عمومية مقترحاتها، من دون أن ترقى إلى المستوى المطلوب.
وهكذا، أكد جلالة الملك، ومنذ عيد العرش 30 يوليوز 2001، بأن « الديمقراطية ليست مجرد تجسيد للمساواة في ظل دولة الحق والقانون والوطنية الموحدة، وإنما لابد لها أيضا من عمق ثقافي، يتمثل في احترام تنوع الخصوصيات الثقافية الجهوية، وإعطائها الفضاء الملائم للاستمرار والإبداع والتنوع الذي ينسج الوحدة الوطنية المتناسقة». كما حدد خطاب 06 نونبر 2008 تصورا مفصلا، لما أصبح يسمى « بالجهوية المتقدمة»، والتي ترتكز على « أسس الحكامة المحلية الجيدة وتعزيز القرب من المواطن وتفعيل التنمية الجهوية المندمجة، اقتصاديا، اجتماعيا وثقافيا «. كما أن « بلورة الجهوية يتعين أن تقوم على:
التشبث بمقدسات الأمة وثوابتها في وحدة الدولة والوطن والتراب…
الالتزام بالتضامن، إذ لا ينبغي اختزال الجهوية في مجرد توزيع جديد للسلطات بين المركز والجهات…
اعتماد التناسق والتوازن في الصلاحيات والإمكانات وتفادي تداخل الاختصاصات أو تضاربها بين مختلف الجماعات المحلية والسلطات والمؤسسات…
انتهاج اللا تمركز الواسع الذي لن تستقيم الجهوية بدون تفعيله في نطاق حكامة ترابية ناجحة، قائمة على التناسق والتفاعل».
يتبع

n د. رضوان زهرو

كثر الحديث عن اللاّمركزية ورهاناتها ودورها في البناء ‎‎الديمقراطي العام ‏للدولة، نظرا لتشعب مهام هذه الأخيرة وتزايد مسؤولياتها وتعدد أدوارها في ميادين التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية… ونظرا كذلك للتحولات الكبرى التي تشهدها بنياتها ومؤسساتها؛ فكان من المنطقي إذن أن يصاحب هذا التطور المتلاحق والسريع، تغييرات إدارية واسعة؛ تشمل دواليب الجهاز الإداري ووظائفه ووسائله وأساليبه.
وهكذا، تعالت الأصوات في بلادنا، من أجل تطوير نظامنا اللا مركزي، وذلك بتبني مقاربة حديثة؛ تتوخى البعدين التدبيري والحكامتي، إذ أصبح يأخد هذا النظام حيزا هاما من اهتمام المؤسسات السياسية الرسمية، وخاصة المؤسسة الملكية؛ فلا يكاد أي خطاب ملكي حول الإصلاح والتنمية، ومنذ اعتلاء جلالة الملك العرش، يخلو من الحديث عن ضرورة «… ترسيخ اللامركزية في اتجاه إفراز مجالس محلية وإقليمية وجهوية، تجمع بين ديمقراطية التكوين وعقلانية التقطيع ونجاعة وشفافية وسلامة التدبير، والتوفر على أوسع درجات الحكم الذاتي الإداري والمالي، من شأنه جعلها تنهض بعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية… « )خطاب العرش 30 يوليوز 2000) وعن ضرورة «… إعداد ميثاق وطني، لعدم التمركز؛ يتوخى إقامة نظام فعال لإدارة لا ممركزة، يشكل القطيعة مع المركزية المتحجرة؛ نظام يعتمد مقاربة ترابية، ويقوم على نقل صلاحيات مركزية، للمصالح الخارجية، وانتظامها في أقطاب تقنية جوهرية» (خطاب 6 نونبر 2008).
الأمر الذي لا يتم إلا بانخراط النخب السياسية بشكل عام، والنخبة المحلية على وجه الخصوص، وتحملها للمسؤولية كاملة، وإدراكها التام لما تواجهه عملية التنمية السياسية عموما والتنمية الترابية من تحديات ورهانات. وفي هذا الصدد، طرحت ولا زالت و بقوة إشكالية تجديد وتأهيل النخب. ولعل هذا ما أكدته المؤسسة الملكية نفسها، ومنذ البداية، حيث جاء في خطاب العرش ل 30 يوليوز2004 «… وإدراكا منا بأن أي إصلاح رهين بتأهيل الفاعلين والهيئات، فإنه ينبغي الانكباب على … تأهيل النخب للمشاركة الديمقراطية وخدمة الصالح العام، تكون صلة وصل قوية بين الدولة والمواطن … لذلك، ندعو الطبقة السياسية إلى تحمل مسؤولياتها… في تدبير الشأن العام، من خلال نخب متجاوبة مع عصرها… تجعل من الحكم القويم المحك الحقيقي لممارسة العمل السياسي بمفهومه النبيل»؛ دعوة صريحة ومباشرة، أكدها مرة أخرى الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى 62 لثورة الملك والشعب 20 غشت 2015 « وإذا كان لكل مرحلة رجالها ونساؤها، فإن الثورة التي نحن مقبلون عليها لن تكون إلا بمنتخبين صادقين؛ همهم الأول هو خدمة بلدهم، والمواطنين الذين صوتوا عليهم». و نرى أن جلالة الملك سبق و تطرق إلى هذا الأمر في 30 يوليو 2012 بقوله «… إقامة المؤسسات على أهميتها ليست غاية في حد ذاتها. كما أن النمو الاقتصادي لن يكون له أي معنى، إذا لم يؤثر في تحسين ظروف عيش المواطنين…».
وهكذا، فإن اللامركزية لم تكن في يوم من الأيام، هدفا في حد ذاتها، وإنما هي فلسفة عامة وأداة تنموية ناجعة؛ تمكن السكان المحليين من تدبير شؤونهم بشكل ديمقراطي ومستقل عن السلطة المركزية، عبر مساهمتهم في التخطيط والتوجيه ووضع الاستراتيجيات، وكذا المشاركة في صنع القرار المحلي، وذلك من خلال « ديمقراطية القرب» و» المقاربة التشاركية»؛ فاللامركزية إذن أسلوب من أساليب التنظيم الإداري، يراد بها توزيع الوظيفة الإدارية بين سلطة مركزية وهيئات الإدارية منتخبة، تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي، وتخضع في ممارسة وظيفتها لإشراف ورقابة الحكومة المركزية؛ كما أنها تتيح للكيانات الترابية مهمة تدبير شؤونها الخاصة بواسطة مجالس منتخبة، وذلك من أجل تحسين علاقة الإدارة بالمرتفقين، والذي يعتبر محورا أساسيا من محاور الإصلاح الإداري، ويرمي إلى رد الاعتبار للمرفق العمومي، والرفع من مردوديته. وقد عرفت هذه العلاقة في السنوات الأخيرة نوعا من التحسن النسبي، وذلك عن طريق مبادرات هامة، دشنت العهد الجديد، بإعطاء مفهوم جديد للسلطة، أعلن عن مضمونه جلالة الملك في خطابه بالدار البيضاء في 12 أكتوبر 1999، حين قال «… المفهوم الجديد للسلطة مبني على رعاية المصالح العمومية والشؤون المحلية والحريات الفردية والجماعية، والسهر على الأمن والاستقرار وتدبير الشأن المحلي والمحافظة على السلم الاجتماعي …».
هذا التعاقد بين المواطن والإدارة، وخاصة الإدارة المحلية، والذي ما فتئت تدعو إليه المؤسسة الملكية في أكثر من مناسبة، وتضمنه الدستور والقوانين التنظيمية، يجب أن يغدو ثقافة راسخة في التدبير اليومي، لدى الفاعل الترابي، باعتباره الآلية الكفيلة لتجاوز كل الإكراهات؛ قانونية كانت أو إدارية أو مالية… ولا يتم ذلك إلا بتبني مقاربة يتم فيها التركيز ٱساسا- في ما يخص علاقة الجماعات الترابية باللامركزية- على حكامة المدن (كأسلوب جديد لتنظيم وإدارة شؤونها بطريقة تضمن حلولا ناجعة للمشاكل التي يطرحها التطور السريع الذي تعرفه هذه الأخيرة) بذل إدارة التراب الوطني (وهي المنهجية التي تم التركيز عليها في وقت سابق، اعتبارا لضروريات مرحلة دقيقة وعصيبة من تاريخ بلادنا) مقاربة تقطع مع الأنماط التقليدية للتدبير، وتستحضر اعتماد آليات التدبير الحديث المبني على أسس الحكامة، باعتبارها رهانا سيظل يسائل رؤساء الجماعات الحضرية، ويفرض واقع الحال والمشاكل التي لازالت تعاني منها المدن المغربية، على اختلاف حجمها ووضعها وتعداد السكان بها ومخططات تنميتها وشكل النمو بها (يفرض) تأهيل الفاعل الترابي ودعم قدراته التدبيرية وخلق الشروط ا الكفيلة ببلوغ مبتغى الحكامة الجيدة والفاعلة؛ فالمواطن لا يعنيه أن تدبر أموره طبقا لقواعد اللامركزية الترابية أو من دونها، أو طبقا لأي أسلوب من أساليب هذه اللامركزية، بل هو يحتاج بالدرجة الأولى إلى تدبير يومي وجاد لشؤونه، في نطاق يراعي حقوقه ويحفظ كرامته، و يزرع لديه شعورا بالانتماء المحلي والوطني، مع ما يلزم ذلك من تحمله لمسؤولياته كاملة ومساهمته في عملية البناء والثنمية.
والجدير بالذكر، أن « المناظرات الوطنية للجماعات المحلية» التي كانت تنظمها بلادنا في وقت من الأوقات، قد شكلت في فترة سابقة إحدى الآليات والوسائل الناجعة في مجال الإصلاح الإداري وتكوين المنتخب المحلي، باعتبارها كانت فضاء مناسبا يمنح الفرصة لمختلف الفعاليات، للتشاور والتحاور وتبادل الأفكار والاقتراحات، وكذلك تقييم المنجزات وتقديم المقترحات والتوصيات، والتي كانت ترمي إلى الرفع من جودة التدبير المحلي وتحسين ظروف عيش الساكنة.
يعتبر المغرب من الدول التي راهنت ومنذ السنوات الأولى من الاستقلال، على الخيار اللامركزي كأسلوب من أساليب التنظيم الإداري، حيث إن صدور ظهير 21 يونيو 1960 حول الجماعات المحلية، يعتبر لبنة أولى وأساسية للبنية الحقيقية للجماعات المحلية، بعد المحاولة التي جاء بها ظهير 1916 في عهد الحماية. وفي 30 شتنبر 1976، صدر الظهير المتعلق بالنظام الجماعي، والذي شكل منعطفا هاما في تاريخ اللامركزية الإدارية، إذ وسع من اختصاصات المجالس الجماعية و أناط برؤسائها مهام جديدة، إلا أنه بالرغم من كونه قد شكل الانطلاقة الحقيقية للنظام اللامركزي، فقد أصبح غير كاف، من حيث مجال تطبيقه، مما جعل التفكير في توسيعه إلى مستوى الجهة يتزايد بحدة. وهكذا، صدر ظهير 2 أبريل 1997 المنظم للجهات، ثم أعقبه القانون رقم 78.00 المتعلق بالميثاق الجماعي، وكذلك القانون رقم 79:00 المتعلق بالعمالات والأقاليم. وجاء دستور 2011، ليؤسس لتنظيم ترابي لا مركزي جديد، أعقبته القوانين التنظيمية الثلات؛ المتعلقة بالجهات رقم 111.14 و بالعمالات والأقاليم رقم 112.14 وبالجماعات الترابية رقم 113.14.
وهكذا، شهدت وظائف اللامركزية وتقنيات تنظيمها تطورا تدريجيا، مكن بلادنا من أن تراكم تجربة كبيرة – خاصة على ‏المستوى الإداري- سمحت لها مع مرور الوقت بتعميق الاستقلال الإداري والمالي للجماعات الترابية، بالشكل الذي يمكنها من الموارد اللازمة، لجعل القرار الترابي أمرا ممكنا. كما شرع المغرب مند بداية التسعينات في إرساء إصلاحات سياسية ومؤسساتية، يرجع إليها الفضل اليوم في تبوئ موضوع الحكامة مكانة الصدارة في النقاش الدائر حول الديمقراطية والتنمية. إن بلادنا، وهي تعمل على اعتماد أدوات الحكامة الجيدة وآليات الديمقراطية التشاركية، تحاول رفع التحديات الكبرى التي تواجهها اليوم والاستجابة لمتطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية …
إن الإطار القانوني المنظم للإدارات اللامركزية، وخاصة الجماعات الترابية، كان يركز دائما على عنصر التمثيلية التي تمارسها المجالس المنبثقة عن الانتخابات؛ فكانت هذه التمثيلية هي الوسيلة الوحيدة المتاحة لخدمة المصالح الجماعية، في حين تم إغفال مشاركة المواطنين في التدبير الجماعي.
من هذا المنطلق، فإن التجربة التي عاشها المغرب في مجال اللامركزية، قد أظهرت عدة اختلالات بين الأهداف المتوخاة والنتائج المحققة، لذلك أصبح لزاما إشراك المواطنين في تدبير الشأن المحلي؛ فالانفتاح التدبيري، وفقا لمنهج الديمقراطية التشاركية، يساهم في شفافية وعقلنة إدارة الموارد المحلية المتاحة، وكذا الحفاظ عليها وتنميتها وحسن استغلالها. وبهذا المنظور، يمكن تطوير الإدارة التنموية؛ من إدارة تدبيرية محاصرة بالحدود والإجراءات القانونية والمسطرية والأجهزة الإدارية، إلى إدارة تشاركية منفتحة على كل المتغيرات، وذلك من أجل تحسين الظروف العامة للساكنة المحلية وتحسين مناخ الأعمال بالنسبة للمستثمرين، محليين وأجانب.
ووعيا منه برهان الاستثمار ودوره الكبير في تحقيق التنمية، كان الحسن الثاني رحمه الله قد ألح على ضرورة إقامة علاقة تواصلية بين الإدارة المحلية والمستثمرين، من خلال الرسالة الملكية التي بعث بها إلى المؤتمر الدولي الواحد والعشرين للعلوم الإدارية المنعقد بمراكش في تاريخ 24 إلى 28 يوليوز 1989، والتي جاء فيها: «… إن إدارتنا إدارة عصرية، من حيث هياكلها وتنظيماتها وتوفرها على أطر كفأة، إلا أنها تعرف كباقي الإدارات في العالم اتجاها بيروقراطيا، يتميز بالبطء في اتخاذ القرارات وبتعقيد المساطر الإدارية. هذا التعقيد في المساطر والبطء الإداري، يقفان حجرة عثرة في وجه المستثمرين المغاربة والأجانب، ويشكل بالتالي عقبة كأداء في وجه التنمية الاقتصادية في البلاد؛ وبهدف وضع حد لهذه الوضعية، جاءت رسالتنا مؤخرا إلى وزيرنا الأول كمنطلق لتبسيط المساطر الإدارية في مجال الاستثمارات، حيث أصدرنا أمرنا باعتبار كل ملف استثماري لم تقم الإدارة بالبث فيه خلال أجل شهرين ابتداء من تاريخ وضعه، ملفا مقبولا…». لكن هذه الدعوة من أعلى سلطة في البلاد آنذاك، لم يتم تجسيدها على أرض الواقع، بحيث استمرت الإدارة إلى اليوم في إعاقة الإقلاع الاقتصادي، بحيث حالت الإكراهات الإدارية دون الإقبال المنشود، من جانب الرأسمال الأجنبي على الاستثمار في المغرب، على الرغم من إجراءات التحفيز والتشجيع التي جاء بها ميثاق الاستثمار رقم 18-95 الصادر سنة 1995.
لقد احتل رهان الجهوية مكانة هامة وورشا مركزيا بالنسبة للمؤسسة الملكية في عهدها الجديد، في وقت ظل تعامل الأحزاب السياسية مع هذا الرهان، يتسم إلى حد كبير، بالتردد والارتباك، إلى درجة أن غالبيتها لم تتحرك لمناقشة المشروع الجهوي إلا بعد أن طلبت منها اللجنة الملكية الاستشارية ذلك، مباشرة عقب خطاب تنصيبها من طرف جلالة الملك، مقابل اكتفاء بعضها الآخر بطرح تصورات أولية ومتناثرة وغير ذي أهمية، فضلا عن عمومية مقترحاتها، من دون أن ترقى إلى المستوى المطلوب.
وهكذا، أكد جلالة الملك، ومنذ عيد العرش 30 يوليوز 2001، بأن « الديمقراطية ليست مجرد تجسيد للمساواة في ظل دولة الحق والقانون والوطنية الموحدة، وإنما لابد لها أيضا من عمق ثقافي، يتمثل في احترام تنوع الخصوصيات الثقافية الجهوية، وإعطائها الفضاء الملائم للاستمرار والإبداع والتنوع الذي ينسج الوحدة الوطنية المتناسقة». كما حدد خطاب 06 نونبر 2008 تصورا مفصلا، لما أصبح يسمى « بالجهوية المتقدمة»، والتي ترتكز على « أسس الحكامة المحلية الجيدة وتعزيز القرب من المواطن وتفعيل التنمية الجهوية المندمجة، اقتصاديا، اجتماعيا وثقافيا «. كما أن « بلورة الجهوية يتعين أن تقوم على:
التشبث بمقدسات الأمة وثوابتها في وحدة الدولة والوطن والتراب…
الالتزام بالتضامن، إذ لا ينبغي اختزال الجهوية في مجرد توزيع جديد للسلطات بين المركز والجهات…
اعتماد التناسق والتوازن في الصلاحيات والإمكانات وتفادي تداخل الاختصاصات أو تضاربها بين مختلف الجماعات المحلية والسلطات والمؤسسات…
انتهاج اللا تمركز الواسع الذي لن تستقيم الجهوية بدون تفعيله في نطاق حكامة ترابية ناجحة، قائمة على التناسق والتفاعل».
يتبع

الكاتب : د. رضوان زهرو - بتاريخ : 25/04/2017

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *